اتجهت قرائح فلاسفة الإسلام إلى مفكري وجود الإله المعبود، أو واجب الوجود، ومفكرو الأديان السماوية بعامة، والإسلام بخاصة، إلى انتهاج أدلة عقلية بحتة، دون الاضطرار إلى الاحتكام إلى أدلة الدين ومناهجه الجدلية..!
ومن هؤلاء ثلاثة من كبار الدارسين للفلسفة اليونانية والمنطق الأرسطي، هم ابن سينا وابن طفيل والسهر وردى شهاب الدين، كلهم ألف قصة عن إنسان نشأ وحيداً لا عائل له ولا معلم ولا مرشد ولا رسالة ولا رسول، فكان كلما نما جسدياً نما عقله وتفتحت مدارجه ويتعرف على محيطه الذي وجد نفسه يعيش فيه، ثم يهتدي وحده إلى وجود واجب الوجود.
وسمي هذا الإنسان «حي بن يقظان»، وكان مراده من تلك القصة الخيالية ممكنة الحدوث، أن يبين أن الفلسفة تتفق مع مقررات الأديان، أو الاتفاق بين العقل والنقل، أو بين الحكمة والشريعة..!
فمن هو هذا الفيلسوف؟!
إنه أبو بكر محمد بن عبدالملك بن محمد بن محمد بن طفيل القيسي، من بني قيس بن عيلان بن معز من العرب المستعربة الشمالية، وينسب أيضاً فيقال: الأندلسي والقرطبي وربما الإشبيلي ويكنى بأبي جعفر.. ولد في وادي آسن على مسافة 53 كم في الشمال الشرقي من قرطبة..
وولد في العقد الأول من القرن الثاني عشر الميلادي حوالي: (494 هـ = 1100م) وتوفي عام (581 هـ = 1185)، واشتهر بالطب والرياضيات والفلك والموسيقى والفلسفة، وتنقل للعمل بين (غرناطة) و(طنجة)، واستقر لدى حاكم (مراكش) الخليفة (أبي يعقوب يوسف) وعمل لديه طبيباً، وقدم إليه الفيلسوف (ابن رشد) الذي قدم شروحاً على كتب أرسطو، بناء على اقتراح من ابن طفيل، كان بين ابن رشد وابن طفيل مناقشات حول كتاب (الكليات) في الطب لابن رشد..!
ولا شك أن ابن طفيل درس العلوم الدينية، والفقه بخاصة، بدليل أن تلميذه البطروجي يذكر أن ابن طفيل كان قاضياً، وكذلك درس ابن طفيل العلوم العقلية والطب، وهذا قربه أكثر إلى (أبي يعقوب يوسف)، فيورد الفقيه أبوبكر بندود بن يحيى القرطبي، تلميذ ابن رشد، أن استاذه ـ ابن رشد ـ قال: لما دخلت على أمير المؤمنين أبي يعقوب وجدته هو وأبوبكر بن طفيل ليس معهما غيرهما.
فأخذ أبوبكر ـ أي ابن طفيل يثنى عليَّ ويذكر بيتي وسلفي، ويضم بفضله إذ ذاك أشياء لا يبلغها قدري. فكان أول ما فاتحني به أمير المؤمنين أن قال لي: ما رأيهم في السماء ـ يعني رأي الفلاسفة ـ أقديمة هي أم حادثة؟ فأدركني الحياء والخوف، فأخذت أتعلل وأنكر اشتغالي بعلم الفلسفة، ولم أكن أدري ما قرره معه ابن طفيل..
ففهم أمير المؤمنين مني الروع والحياء، فالتفت إلى ابن طفيل وجعل يتكلم على المسألة التي سألني عنها، ويذكر ما قاله أرسطو طاليس وأفلاطون وجميع الفلاسفة ويورد مع ذلك احتجاج أهل الإسلام عليهم. فرأيت منه غزارة حفظ لم أظنها في أحد من المشتغلين بهذا الشأن المتفرغين له، ولم يزل ينشطني حتى تكلمت، فعرف ما عندي من ذلك، فلما انصرفت أمر لي بمال وخلعة ومركب.
وظل ابن طفيل في بلاط السلطان أبي يعقوب يوسف طبيباً أول، وربما وزيراً أيضاً، إلى أن تقدمت سنه فتخلى عن وظيفة الطب لابن رشد في سنة 587 هـ والذي صار أبو يوسف يعقوب، أبقى على مكانة ابن طفيل في حضرته كما كان في عهد أبيه.
ولما وافته المنية في سنة 581 هجرية في مدينة مراكش، ودفن هناك، واشترك السلطان أبو يوسف في تشييع جنازته..!
قال الاستاذ أحمد أمين ـ صاحب فجر الإسلام، ضحى الإسلام، ظهر الإسلام ـ في مقدمته لحى ابن يقظان، التي طبعت في دار المعارف عام 1952:
ولم يبق لنا من مؤلفات ابن طفيل إلا رسالة «حي بن يقظان» أو أسرار الفلسفية الإشرافية وقد ترجمه »بوكوك ُِكًُكً إلى اللاتينية بعنوان «الفيلسوف المعلم نفسه» ونشره في سنة 1671، وترجمه إلى الإسبانية «بونس بويجيس في سنة 1910، وإلى الفرنسية «ليون جوتييه» في نفس العام، وتبدأ الرسالة بموجز مفيد مهم لتاريخ الفلسفة في الإسلام يمتدح ـ ابن طفيل ـ فيها ممن تقدمه ابن سينا وابن باجه والغزالي.
وإليك موجز هذه القصة كما أورده غرسية غومس:
في جزيرة مهجورة من جزائر الهند التي تحت خط الاستواء، وفي وسط ظروف طبيعية طيبة، تولد طفل من بطن أرض تلك الجزيرة تخمرت فيه طينة على مر السنين دون أن يكون له أم أو أب، وفي قول آخر أن تيار البحر حمله إلى هذه الجزيرة في «تابوت أحكمت زمه أمه ـ أي إغلاقه. بعد أن أروته من الرضاع، وكانت أميرة مضطهدة في جزيرة مجاورة، فاستودعت ابنها الأمواج حتى تنجيه من الموت، وهذا الطفل هو (حي بن يقظان).
فتبنته غزالة وأرضعته وصارت له كأمه. فنما حي وأخذ يلاحظ ويتأمل، وكان الله قد وهبه ذكاءً وقاداً فعرف كيف يقوم بحاجات نفسه، بل استطاع أن يصل بالملاحظة والتفكير إلى أن يدرك بنفسه أرفع حقائق الطبيعة وما وراءها، وقد وصل إلى ذلك بطريق الفلاسفة، بطبيعة الحال، وأدت به هذه الطريقة إلى أن يحاول عن سبيل الإشراق الفلسفي الوصول إلى الاتحاد الوثيق بالله.
وهذا الاتحاد هو العلم الغزير والسعادة العليا المتصلة الخالدة في وقت واحد، ولكي يصل «حي» إلى ذلك دخل مغارة وصام أربعين يوماً متوالية، مجتهداً في أن يفصل عقله عن العالم الخارجي وعن جسده بواسطة التأمل المطلق في الله لكي يصل إلى الاتصال به، حتى أدرك ما أراد، وعندما بلغ ذلك المبلغ لقى رجلاً تقياً يسمى «أبسال» أقبل من جزيرة مجاورة إلى هذه الجزيرة يحسبها خلاءً من الناس، وأقام أبسال بتعليم الكلام لصاحبه المنفرد بنفسه والذي وجده دون أن يتوقع ذلك.
ولم يلبث أن وجد في الطريق الفلسفي الذي ابتكره حي لنفسه تعليلاً علوياً للدين الذي كان يعتقده، وتفسيراً كذلك لكل الأديان المنزلة. ثم أخذ أبسال صاحبه إلى الجزيرة المجاورة، وكان يحكمها ملك تقي يسمى سلامان (وهو صاحب أبسال الذي كان يرى ملازمة الجماعة ويقول بتحريم العزلة) وطلب إليه أن يكشف (لأهل الجزيرة) عن الحقائق العليا التي وصل إليها، فلم يوفق، ووجد عالمانا ـ أي حي بن يقظان.
ومكتشفه أبسال ـ نفسيهما مضطرين آخر الأمر إلى أن يعترفا بأن الحقيقة الخالصة لم تخلق للعوام، إذ أنهم مكبلون بأغلال الحواس، وعرفا أن الإنسان إذا أراد أن يصل إلى التأثير في أفهامهم الغليظة، ويؤثر في إرادتهم المستعصية، فلا مفر له من أن يصوغ آراءه في قوالب الأديان المنزلة، وكانت نتيجة هذا أن قررا اعتزال هؤلاء الناس المساكين إلى الأبد، ونصحهم بالاستمساك بأديان آبائهم، وعاد حي وصاحبه إلى الجزيرة المهجورة لينعما بهذه الحياة الرفيعة الإلهية الخالصة التي لا يدركها إلا القلائل من الناس.
والأساس الفلسفي لهذه القصة هو الطريق الذي كان عليه فلاسفة المسلمين على مذهب الأفلاطونية الحديثة، وقد صور ابن طفيل الإنسان الذي هو رمز العقل في صورة حي بن يقظان، وقد رمى ابن طفيل من ورائها إلى بيان الاتفاق بين الدين والفلسفة، وهو موضوع شغل أذهان مفكري المسلمين كثيراً..! وجاء في موسوعة أعلام الفكر الإسلامي ـ التي نشرها المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بمصر ـ أن هذه الرسالة ضمت أفكاراً فلسفية لابن طفيل وأهمها:
1 ـ الحكمة والشريعة: الغاية الرئيسية من قصة (حي بن يقظان) هي بحث العلاقة بين الحكمة والشريعة ـ العقل والنقل ـ فهما طريقان للوصول إلى معرفة الحقيقة.
2 ـ وحدة الحقيقة واختلاف المنهج: يؤكد ابن طفيل أن الحقيقة واحدة، ولكن لكل من الحكمة والشريعة منهجها الخاص، منهج الحكمة هو العقل ـ فيما يرى أتباع الفلسفة ـ يختلف عن منهج الشريعة وهو منهج الإيمان، العقل يبدأ من الإدراك الحسي إلى التصور العقلي، أما منهج الإيمان فيلقى دفعة واحدة.
3 ـ درجات الخطاب: يفرق ابن طفيل بين درجات الخطاب التي يخاطب بها البشر إلى أربعة مراتب:
المرتبة الأولى: وهي أعلاهم، مرتبة الفيلسوف، وهي درجة لا تتوفر إلا للقلة النادرة من البشر.
المرتبة الثانية: مرتبة عالم الدين البصير. المرتبة الثالثة: مرتبة رجل الدين المتعلق بالظاهر. وأخيراً مرتبة العوام، وهي أدنى مراتب الخطاب.
4 ـ للشريعة ظاهر وباطن: هذا هو الشائع عند طوائف من الصوفية والمتفلسفة ـ يشير ابن طفيل إلى أن الشريعة قد أصابت حين خاطبت كل فئة بما يناسب عقلها، فلكل طائفة من البشر منهج للخطاب وكل ميسر لما خلق له، وأن الشريعة طالبت العامة بالتزام الظاهر والالتزام بحدود الشرع وتركت التعمق لمن هو أهل له.
5 ـ نظرية المعرفة: قدم ابن طفيل في قصته «حي بن يقظان» نسقا كاملاً لنظرية المعرفة، تتم عبر مراحل زمنية متدرجة، ومراحل معرفية متتالية، تبدأ من الخبرة الحسية، لترتفع إلى التجربة والممارسة العملية، ثم الاستدلال العقلي النظري، لتنتهي إلى أعلى درجة من درجات المعرفة ألا وهي المعرفة الوجدانية القائمة على الذوق والحس. 6 ـ المنهج التجريبي:
وجه ابن طفيل الاهتمام بدور الملاحظة والاستقراء، وبين دور التجربة في الوصول إلى المعرفة الحسية والعقلية، كما أشاد بالبراهين العلمية المبنية على الطبيعيات والرياضيات، وطبق هذا المنهج أثناء ملاحظته لعالم النبات والحيوان.
7 ـ الأخلاق: جعل ابن طفيل الأخلاق من حيز العقل والطبيعة، لا من حيز الدين والمجتمع، ووضع مفهوماً جديداً للأخلاق مؤداه أن الأخلاق الحسنة هي التي لا تعترض الطبيعة في سيرها، ولا تحول دون تحقيق الغاية الخاصة بالموجودات، وأن الأخلاق الكريمة تقضي على الإنسان أن يزيل العوائق التي قد تعترض الحيوان والنبات في سبيل تطوره.
8 ـ وحدة الوجود: نظر ابن طفيل إلى الوجود بكامله على أن بينه ترابطاً يتمثل في صورة قوانين يحكمها قانون السببية، كما ترتبط الموجودات بسلسلة متدرجة من الدرجات والمراتب.
9 ـ مكانة الفيلسوف: رأى ابن طفيل أن الحياة التي عاصرها في المجتمع الأندلسي والمغربي لم تتح للفيلسوف أن يساهم بدور فعال في تطوير مجتمعه، ولذا دعاه إلى أن يعتزل الحياة العامة في جزيرة منفصلة، مثل الجزيرة التي عاش فيها بطل قصته. وهذه لمحات موجزة عن مسيرة فكر وبناء فلسفة قدمه ابن طفيل للربط بين العقل والنقل، رحمه الله وغفر له.