رواد وذكريات

عبد الله النويس: وجدتُ نفسي بين الفلسفة والإعلام «1»

ت + ت - الحجم الطبيعي

يعتبر الدكتور عبد الله النويس ـ وكيل وزارة الإعلام السابق ـ من أوائل الإعلاميين والمؤسسين لوسائل الإعلام في الإمارات، وهو أحد أركان المسيرة الإعلامية في الدولة، ورغم ابتعاده عن المهنة الرسمية للإعلام، إلا أن ذلك لم يمنعه من مزاولة الكتابة الصحفية، فأصدر وأسس ورأس تحرير مجلة «الديوان» الاجتماعية المنوعة في أبوظبي قبل سنوات عدة، وللنويس نقاط مضيئة في حياته المهنية، كان أولها طرحه فكرة تأسيس جريدة «الاتحاد» عام 1969م،

ليأخذ بعد انطلاقتها في ذلك العام والإشراف عليها بوضع اللمسات الإعلامية المميزة للعديد من وسائل الإعلام الأخرى التي صدرت آنذاك كمجلة «زهرة الخليج» وتلفزيون وإذاعة أبوظبي، طيلة توليه مهام عمله في وزارة الإعلام، ولأن كان لكل بلد عربي مفخرة إعلامية ومؤسس، فإن عبد الله النويس يعتبر أحد نجوم الإعلام الإماراتي التي لن تأفل، النويس فتح ذاكرته ل(البيان) في هذا اللقاء.

عن بدايته يقول النويس: لكل شخص رغبة في دراسة تخصص معين، وكنتُ مغرماً منذ سني دراستي الأولى باتجاهين هما الفلسفة والإعلام، وبنظري فإن الفلسفة تقوّم المفهوم العقلي وتقوي اللغة أيضاً، بحيث أن يساوي اللفظ ـ المعنى، فالفلسفة تساعد في الموازنة بين المعاني والألفاظ، وأعتبرها أداة الضبط والربط في اللغة، أما الإعلام،

فكانت رغبتي به نابعة من عوالمه المتسعة التي لا ترتبط بدراسة محددة، وإنما تفتح كل الآفاق، وبالتالي فإن المرء يستطيع أن يتثقف ويرتاد العلوم والثقافات من جميع أوجهها ومن جميع أبوابها من خلال العمل الإعلامي، ليستطيع بعد ذلك فهم العصر الذي يعيشه، وكانت نظريتي الدائمة أن الصحافي الحقيقي؛ هو الصحافي الموسوعي المطلع على جميع ـ أو أغلب ـ العلوم النظرية والتطبيقية،

ومن يخرج عن هذا المفهوم، فلا أعتقد أن سيصبح صحفياً بالمعنى الحقيقي، يمكن أن يصبح صحفي كموظف مهني، ولا يرقى أن يكون علماً من أعلام الصحافة بعيداً عن حيازته لموسوعة ثقافية شاملة في تكوينه العقلي، كل هذه الأمور هي التي دفعتني لعشق هذين التخصصين ـ الفلسفة والإعلام ـ ومواصلة مسيرتي معهما إلى هذا اليوم.

بعد حصوله عام 1964م على درجة كاملة في الفلسفة في نتائج الثانوية العامة؛ حثّه مدرس المادة آنذاك على أن يكمل تخصصه في الفلسفة؛ إلا أن عبد الله النويس آثر اختيار حقل الإعلام لأنه كان يسعى لخلق حالة من التزاوج بين علمي الفلسفة والإعلام، لاعتقاده بالفائدة العظيمة المترتبة من ذلك، وفي عام 1965م غادر النويس إلى القاهرة ليكمل مشواره الجامعي هناك في مجال الإعلام،

ويعود إلى موطنه في أبو ظبي عام 1969م حاملاً شهادته الجامعية وخبرته الإعلامية التي اكتسبها هناك، بعد إطلاعه على المدارس المصرية واللبنانية والعراقية والأجنبية الإعلامية، وبعد أن نهل من معين الكتب المطبوعة هناك والتي كان تؤدي إعلامياً إضافة إلى الوسائل الأخرى، بعيداً عن كونها مصادر فكرية، حيث كانت متوفرة ـ كما يعلّق النويس ـ بأثمان رخيصة للجميع، حيث لا يتجاوز سعر الكتاب العشرة قروش.

بعد عودتي من القاهرة ـ يقول النويس ـ راودني حلم مواكبة الثورة الإعلامية التي كان يشهدها العالم ونقلها إلى وطني، وتطبيق ما درسته من نظريات آراء وعلوم في مجال الإعلام، وقد تم لي ذلك بعد مساهمتي في تأسيس العديد من وسائل الإعلام، حيث قدمت اقتراحاً عام 1969م إلى الشيخ أحمد بن حامد -الذي كان يشغل آنذاك منصب رئيس دائرة الإعلام ـ بإنشاء جريدة الاتحاد، فوافق عليه وتحمس كثيراً لظهور هذا المقترح،

وحين تهيأنا لإصدار العدد الأول من جريدة «الاتحاد»، كان الاسم مستغرباً جداً، ووجد معارضة كبيرة من بعض الموجودين في جلسة مناقشة الإصدار، فأجبتهم بأن الاسم طبيعي ومعقول لأن المباحثات حول قيام الاتحاد بين الإمارات العربية كانت مستمرة، وكان المغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان متحمساً لقيام الاتحاد،

وكان أمله الأكبر جمع ولملمة هذه الأرض، فكان لا بد من قيام جهاز إعلامي يأخذ على عاتقه التبشير به، وأعتقد أن جريدة «الاتحاد» هي التي بشرّت وهيأت إعلامياً وجماهيرياً للفكر الاتحادي، عبر عشرات المقالات التي كتبتها وكتبها زملاء آخرون.

عن ذاكرته حول الأعداد الأولى من جريدة «الاتحاد» قال الدكتور عبد الله النويس: صدر العدد الأول منها يوم الاثنين 20 أكتوبر عام 1969م، وكانت في البداية تطبع في لبنان بطريقة الجمع الآلي «لينوتيب» وتصدر أسبوعياً، بتوزيع يقدر بحوالي 2000 نسخة، وكانت توزّع مجاناً لفترة طويلة حسب توجيهات المغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، ولاقت الجريدة نجاحاً كبيراً بين الوسطين الجماهيري والرسمي،

وأخذت مكانها المميز بين الصحف العربية والأجنبية التي كان يعتمد عليها جمهور الإمارات فيما سبق، وجرى إصدارها يومياً بدءاً من تاريخ 22 أبريل 1972م بعد وصل المطبوع منها إلى حوالي 5000 نسخة، وفي نفس العام مَنَّ الله علينا بأحد المواطنين الذين آمنوا بضرورة إنشاء مطبعة، وهو الأخ محمد بن دسمال ـ الذي لا تزال مطبعته قائمة في أبو ظبي لغاية الآن ـ ورغم تخويف البعض له من خسارة هذا المشروع إلا أن الأيام أثبتت عكس ذلك،

فأصبحت مطبعته تطبع الجريدة إلى أن قامت الدولة باستيراد مطابع حديثة لجريدة الاتحاد في عام 1978م، أما بالنسبة لحجمها فقد بدأت بحجم نصفي 28X41 ثم تغير شكلها إلى العادي «Tabloid» وتغير الشكل بعد ذلك إلى الحجم العادي 60X45، كما أنها ظلّت محتفظة بتقليد إعلامي ميزها عبر إصدارها لسنوات عديدة لملحق أسبوعي منوّع.

رغم خبرته الإعلامية الكبيرة والمناصب الرفيعة التي تقلدها؛ فإن الدكتور عبد الله النويس يبدو متواضعاً حين يجري الكلام عن الكوادر الإعلامية العربية الأولى التي رافقت دربه ودرب زملائه من إعلاميين إماراتيين، وفي ذلك يقول: بصراحة، فإن الأخوة من الإعلاميين العرب كانوا يقدمون جهدهم وخبرتهم في جريدة «الاتحاد»

وفي غيرها من صحف الدولة ومرافقها الإعلامية، حيث تنوع الكادر العربي بدءاً من اللبنانيين والمصريين وغيرهم من الأشقاء العرب، ولم أتحسس يوماً من التنوع الذي كان موجوداً في الساحة الإعلامية، بل أن أغلب أصدقائي وزملاء المهنة الذين أتواصل معهم إلى اليوم هم من جنسيات عربية متنوعة شاركت وأسهمت في ظهور جريدة «الاتحاد» بصورة جيدة جداً، وأضاف الدكتور النويس: لقد خلق الجو والعمل الاحترافي في بداية ظهور جريدة الاتحاد، مدرسة من أكفأ مدارس الإعلام في الدولة.

لقد ظهرت «الاتحاد» وغيرها من صحف ومجلات الدولة؛ في ظل تكنولوجيا بسيطة لا ترقى إلى ما نراه اليوم من تطور وثورة علمية وتنقية هائلة في مجال الإعلام؛ ومع ذلك فإن الدكتور عبد الله النويس له رأي آخر بهذا الصدد؛ حيث يقول: لكل عصر وسائله، هناك نظرة خاطئة تقيم العمل الإعلامي حسب وسائل الاتصال والتطور التكنولوجي، بينما أرى أن المهم في الأمر هو الصحافي ذاته، وأعتقد أن الصحفيين الذين مارسوا عملهم في ذلك الزمن،

لو كانت لديهم الوسائل المتاحة حالياً؛ لرأينا صحافة عالية المستوى بشكل لا يضاهى، ومع ذلك، أعتقد أن صحفي ذلك الزمن يتمتع بمهارة أعلى من صحفيي اليوم، فقد كان يعتمد على نفسه وعلى جهده وثقافته أكثر من الآن، أما بالنسبة لجريدة «الاتحاد» -التي نحن بصدد الكلام عنها هنا ـ فقد زودت بعد تأسيسها بفترة بسيطة بجميع الأجهزة والمعدات التي كانت متوفرة آنذاك للصحف العالمية، وكانت الدولة تحرص على إدخال الأجهزة الحديثة بأسرع وقت،

ولم يكن هناك -على مستوى الخليج ـ دولة أسرع في إدخال الأجهزة الحديثة الخاصة بالإعلام من دولة الإمارات، وأتذكر أنه في عام 1983م تم تزويد «الاتحاد» بأنواع من الأجهزة يتم عن طريقها استلام الصور بالألوان، وكان ذلك يعتبر صيحة وثورة تكنولوجية في تلك السنوات، وقد كانت الطباعة بالألوان بصورة يومية حكراً على المجلات دون غيرها،

ولم تكن هناك نظرة تقيد العمل بسبب التكاليف، وقد كان لدى الإدارة مهمة واحدة تنظر إلى الوصول للتميز والوصول إلى مساواة الصحف العربية والعالمية الراقية، أو تجاوزها، وأعتقد أن بعض صحفنا المحلية الحالية متفوقة بمراحل كثيرة عن صحف عربية كثيرة، سواء من ناحية الشكل أو الإمكانيات أو المضمون الصحافي.

* حرية النشر

أما عن مستوى حرية النشر في ذلك الوقت؛ فيقول النويس: كانت الحرية متاحة نسبياً، أما الآن فإن الوضع الحالي لحرية النشر أكبر، ولكني لا أعتقد بوجود سقف حرية أجمل من أن يضع الصحافي نفسه لنفسه معياراً للحرية والكتابة بعيداً عن فرض فوقي أو سلطوي، أي أن يحدد الصحافي نفسه مساحة حريته بوعي وإدراك، وهناك العديد من الأشياء التي لم تكن السلطة المختصة تخاطبنا أو تحددها لنا من ناحية النشر،

ولا أذكر أنه تم توجيهنا في إحدى المرات للممنوع والمسموح في النشر، بل أننا كنا نرسم لأنفسنا المساحات التي نتحرك فيها، وكنا نشرف بأنفسنا على أنفسنا، ولكن ـ بلا شك ـ أن هناك في جميع أنحاء العالم، العتب والاستياء من بعض الكتابات الصحفية، ولكن ذلك لم يزحزحنا عن الطريق الذي مشيناه في الفسحة الموجودة في حرية الكتابة وحرية التعبير،

نعم؛ كان هناك بعض العتب أو الزعل من بعض السفارات العربية تجاه قضايا معينة، ففي الصراعات العربية ـ العربية، كل طرف يريد أن «يُجيّر» الإعلام لصالحه، وقد كنا كإعلاميين ضحية لتلك الصراعات، وقد كان الشيخ زايد «رحمه الله» بسماحته المعروفة وروحه العربية ـ الإنسانية الأصيلة،

هو الذي يربت على المتضايق أو العاتب من أشقائنا العرب، وكان «رحمه الله» يوجه دائماً بأن (الصحافي الحقيقي هو الذي يعي مسافات الحرية، ويعي مساحة المسؤولية) كما كان له «رحمه الله» تعبيراً جميلاً يقول فيه (ان الحرية الممدوحة هي الحرية المسؤولة، أما الحرية المتهورة فهي تؤذي صاحبها قبل أن تؤذي الآخر) وكان الإعلاميون يتعطشون لسماع توجيهاته الأبوية التي صنعت أجهزة الإعلام الإماراتية، صناعة أخلاقية من أروع ما يمكن،

حيث ارتفعت مقاييس أجهزة الإعلام الأخلاقية إلى درجة لا تجدها في أي بلد عربي، وقد أراح ذلك الإعلام والإعلاميين، بغض النظر عن بعض الأشخاص الذين لا يكتفون -كلما أعطيتهم، يقولون هل من مزيد ـ وكانت السلطة والقيادة العليا تحرص على عدم الإساءة لأي طرف عربي، لأنه لم يكن لنا مصلحة في أي نزاع،

وكان الشيخ زايد «رحمه الله» يردد دائماً (نحن طلاب وحدة ولسنا طلاب فرقة، وبالتالي فإن إعلامنا انعكاس لآرائنا)، ومع ذلك فقد تعرضنا لبعض المشكلات من قبل بعض الأخوة الصحافيين، فمن المستحيل مراقبة كل حرف ينشر، ولكن السياسة الواعية كانت تنتصر دائماً.

بعد أن كانت «الاتحاد» تابعة لدائرة الإعلام؛ ومن ثم لوزارة الإعلام والثقافة، استقلت الجريدة لتكون في هيئة ومؤسسة مستقلة، عن ذلك يقول النويس: جهزنا قانوناً يجعل من جريدة «الاتحاد» هيئة مستقلة لها ميزانيتها وسياستها الخاصة، بحيث تتلقى جزء من دعم الدولة والباقي من الإعلانات والمبيعات،

وفي هذه المرحلة مارست الجريدة -بفعل قفزتها المتطورة هذه من جميع النواحي ـ دوراً جميلاً وخلاقاً في الساحة الإعلامية الإماراتية، فأصبحت «مؤسسة الاتحاد» بذلك تخدم الأمة العربية بصورة عامة، تخدم المرأة عن طريق «زهرة الخليج» وتخدم الطفل العربي عن طريق «ماجد» تخدم الإنسان الأجنبي المقيم على أرض الإمارات عن طريق «إمارات نيوز» والقارئ العربي والمحلي عن طريق جريدة «الاتحاد».

ويجيب النويس عما إذا كانت العلاقة بين «الاتحاد» وباقي الصحف المحلية، تكاملية، أم تنافسية، فيقول: كانت العلاقة تكاملية ـ تنافسية، فإن لم يكن هناك تنافس فمعنى ذلك أن كل شيء ميت، لأن التنافس هو الذي يظهر التميز في العمل الصحافي،

ولكن بنفس الوقت كان هناك تكامل فيه حرص وخوف على بعضنا البعض، فإن تعطلت مطبعة جريدة من جرائدنا المحلية، كنا ننجد بعضنا بعضاً دون تكلف أو تفكير، فلم نكن نقبل أن لا تصدر «الفجر» أو «الخليج» أو «البيان» وقد كنا على قلب واحد وتهمنا مصلحة الجميع.

* تخطيط جيد

وعن سر انتشار ونجاح مجلة «زهرة الخليج» يقول النويس: منذ البداية خُطط للمجلة تخطيطاً جيداً، أضف إلى ذلك؛ فقر الساحة الإعلامية المحلية -آنذاك ـ لوجود مجلة نسائية متخصصة، وقد توفر لها كادر داخلي جيد، وشبكة مراسلين متميزة، وتخصصت «بتفنن» بالمرأة والأسرة، وكانت تربح ولا تخسر على طول الخط، والسر في نجاحها هو التخطيط الجيد، والاستقرار المادي والفني، وقد ارتقت كثيراً بعد أن خصصت لها مطبعة خاصة في المؤسسة.

حوار محمد الأنصاري

Email