الفن الاسلامي

إحياء فن النجارة الإسلامية ضرورة اقتصادية وفنية

ت + ت - الحجم الطبيعي

أسهم الفن الإسلامي خلال قرون العصور الوسطى في تطوير تقنيات التعاطي مع المنتجات التطبيقية، وأفاد الصناع في ذلك من التقدم العلمي والتقني الذي أحرزته الشعوب الإسلامية قياسا بتدهور الحالة العلمية والحضارية في أوروبا خلال تلك العصور، بالإضافة إلى استقرار نظام الطوائف الحرفية أو التنظيمات النقابية التي لعبت دورا بارزا في تنمية مهارات الحرفيين، والحفاظ على معايير للجودة وتشجيع التطوير المستمر للصناعات المختلفة.

وتعد صناعة الأثاثات الخشبية من أهم المجالات التي أحرز فيها الفن الإسلامي نجاحات تقنية وزخرفية مميزة، وتشهد بذلك التحف الخشبية التي تحتفظ بها المتاحف العالمية والمئات من المساجد والمدارس والقصور والمنازل الأثرية في أرجاء العالم الإسلامي، وإذا كان الماثل من هذه المقتنيات الخشبية هو بالأساس من التحف المنقولة في دور العبادة والعلم، كالأبواب والمنابر وكراسي المصاحف،

فإن ذلك لا يعني بحال من الأحوال أن المسلمين قد أهملوا أمر الأثاث المنزلي، أو أنهم لم يبلغوا فيه شأوا يقارب إنجازاتهم في المباني الدينية، فقد تحدث المؤرخون المسلمون بإسهاب عن الأثاث الفاخر للقصور ووصلتنا أيضا أمثلة من هذه القطع وبعضها يعد من التحف المعدودة في تاريخ الفن مثل المناضد الصغيرة المعروفة باسم كراسي العشاء، وفي الطليعة منها الكرسي الذي يحمل اسم السلطان المملوكي الناصر محمد بن قلاوون.

ويجب أن نشير هنا إلى أن نظام الأوقاف في المنشآت الدينية هو الذي ساعد على الاحتفاظ بالأثاث الخشبي لهذه المنشآت فيما كان أصحاب الدور يقومون بتغيير الأثاث الخشبي من وقت لآخر وفك الأجزاء الجيدة منه لإعادة استعمالها في أغراض أخرى أو في صناعة أدوات أخرى.

ومن أسف أن ميراث فن النجارة الإسلامي قد أهدر بصورة مثيرة للأسى، ليس فقط بسبب الميكنة التي دخلت صناعات الأثاث على نطاق واسع، ولكن أيضاً بسبب هيمنة الأنماط الأوروبية وخاصة الإيطالية على الأسواق العالمية. فضلاً عن أن طريقة توريد الأخشاب من الدول المنتجة، وجلبها من دول الشمال تتوافق مع التقنيات الغربية ومن المعروف أن الدول العربية من الدول المستوردة للأخشاب ولاتوجد لديها سوى بعض الأنواع المحلية غير الجيدة، باستثناء أخشاب أشجار الأرز في جبل لبنان.

وقد تكون هناك فرصة تاريخية لإحياء فن النجارة الإسلامي بتقنياته التي أثبتت جدارتها الفنية والاقتصادية في ظل الإرتفاع المستمر في أسعار الأخشاب المستوردة الجيدة، نتيجة للقيود البيئية التي باتت تفرض على الأنشطة الاقتصادية في الغابات حول العالم.

ذلك لأن هذا الفن في العالم الإسلامي إنما انطلق في تقنياته الصناعية من حقيقة ندرة الأخشاب الجيدة، فهو بحق «فن الندرة»، ذلك إلى جانب أن خبرات النجارين بالعوامل التي تؤدي إلى التلف السريع لقطع الأثاث والأدوات الخشبية قد دفعتهم إلى ابتكار حلول عملية لتلافي مثل هذه المعضلات.

فمن المعروف أن معظم البلدان الإسلامية تقع داخل خطوط العرض المدارية، وهي بذلك تتميز من الناحية المناخية بتطرف ملحوظ في الفارق بين درجات الحرارة ليلاً ونهاراً، وصيفاً وشتاء، وكانت أجواء هذا المناخ القاري تؤدي إلى تمدد الأخشاب في فترات إرتفاع درجات الحرارة ثم إنكماشها عند إنخفاض هذه الدرجات. وكان من الطبيعي أن تتعرض قطع الأثاث المصنوعة من الأخشاب المحلية، غير الجيدة، سريعا للتشقق والتقوس بينما تنجو مثيلاتها المصنوعة من الأخشاب المستوردة الجيدة من هذه الأعراض.

وقد واجه النجارون المسلمون معضلتي ندرة الأخشاب الجيدة وإرتفاع اثمانها وتأثر الأخشاب المحلية بالعامل المناخي وتلفها السريع بحل عبقري أعطى للنجارة الإسلامية طابعها المميز والذي لا يزال يجد بين المعاصرين من يحرص على اقتناء منتجاتها النادرة رغم المبالغة في أسعار بيعها.

فقد لجأ هؤلاء إلى صناعة قطع الأساس بأسلوب مبتكر لم يسبقهم اليه أحد وهو أسلوب «الحشوات المجمعة». ووفقا لهذه الطريقة الصناعية يقوم النجار بعمل إطارات من أخشاب جيدة رقيقة توضع داخلها قطع الأخشاب بشكل محكم بحيث تتمدد في الفراغ المحدود الناجم عن وضع الحشوات داخل «السدابات» وتأخذ الحشوات أشكالاً هندسية مختلفة تتراوح بين البساطة والعشوائية غير المتكررة وبين التصميم الهندسي المعقد المتكرر.

وقد أتاح هذا الاختراع للصناع الفرصة الكاملة للإفادة من الأخشاب المحلية الزهيدة الثمن دون خشية أن تتعرض للتقوس أو التشقق، كما وظفوا كل قطعة صغيرة من الأخشاب المرتفعة القيمة وأسبغوا بها طابعا من الفخامة على قطع الأثاث. وأعطى أسلوب الحشوات المجمعة للأدوات الخشبية تبايناً لونياً بحكم اختلاف أنواع الأشجار المصنوعة منها، كان وحده كافيا لإضفاء جماليات الألوان على هذه الأدوات الخشبية دون دهانات إضافية.

ثم اتخذت الحشوات المجمعة أشكالا هندسية مخططة بعد رسوخ الأسلوب التقني، كان أهمها على الإطلاق إبتكار زخرفي إسلامي يعرف باسم الأطباق النجمية، وهي أشكال تعتمد على فهم عميق لعلوم الهندسة في الجمع بين هيئات نجمية ومتعددة الأضلاع في تكوينات زخرفية متكررة ومتلاصقة، ومهما تنوعت أشكالها فإن وحدة الطبق النجمي الزخرفية تتألف من حشوة مركزية تعرف باسم الترس تحيط بها أشكال منشورية تعرف باسم الكندات (مفردها كندة)،

وفيما بين هذه الكندات أشكال نجمية تعرف باللوزات (مفردها لوزة). وإعجابا بجمال هذه الهندسة الزخرفية لأشكال الحشوات المجمعة، أصبحت الأطباق النجمية واسعة الإنتشار في الزخرفة الإسلامية وعلى جميع المواد المختلفة كالمعادن والخزف، حتى عدت عنوانا على نضج الزخرفة الهندسية في الفنون الإسلامية.

ومهما يكن من أمر الطابع العملي والجمالي للحشوات المجمعة فقد اكتسبت الأدوات وقطع الأثاث الخشبية المصنوعة وفق هذا الأسلوب أبعادا جمالية إضافية بعد قيام النجارين بزخرفة الحشوات ذاتها بزخارف الأرابيسك عن طريق الحفر وهو الأسلوب المعروف إلى اليوم باسم «الأويما».

إن إحياء فن النجارة، وفقا لتقاليده الصناعية والزخرفية التي أبدع المسلمون في إنتاج أدواتهم الخشبية، وفقها سيكون أمرا مقبولا ليس فقط للدواعي الاقتصادية والرغبة في تخفيف وطأة البطالة في معظم أقطارنا العربية، بل وأيضا لجماليات مازالت موضع تقدير.

ولكن الاعتماد فقط على المهارات اليدوية لن يساعد بحال من الأحوال على تسييد التقاليد الصناعية والفنية المعروفة في الفن الإسلامي، وهو ما يستدعي قدرا من التنميط الميكانيكي في العمليات التجهيزية اعتمادا على الآلات التي توفر جهد الإنسان وتزيد من وتيرة الانتاج،

وتعطي نتائج أكثر دقة أو ما يمكن أن يوصف إجمالا بالتجهيز الميكانيكي على غرار التوحيد المعروف الآن في مقاييس الأبواب والنوافذ، على أن يترك مجال الإبداع مفتوحا على مصراعيه في مراحل الإخراج النهائي وأعمال الزخرفة التي تعطي لقطع الأثاث أشكالها الجمالية المختلفة.

ومما يساعد على بلوغ النجاح في هذا الطريق وجود عدد من كليات الفنون التطبيقية في بعض الدول العربية، حيث تدرس التقاليد الفنية والصناعية للحرف التقليدية لمئات من الخريجين في أقسامها المختلفة، وتعايش الورش الصغيرة في الأحياء والقرى مع الورش الإنتاجية الكبيرة، وهو ما يعزز من فرص إدخال نوع من تقسيم العمل فيما بينها، بحيث تتولى الأخيرة العمليات التجهيزية فيما تقوم الأولى بها لدى العاملين بها من مهارات يدوية بإنجاز أعمال الزخرفة والأشكال النهائية.

والحقيقة أن فن النجارة مؤهل قبل غيره لاستعادة مسيرة الفن الإسلامي، إذ أنه لم ينقطع كليا عن التقاليد الصناعية والزخرفية القديمة، فمازالت احتياجات المساجد من المنابر الخشبية والنوافذ والأبواب تنفذ على الأنماط التقليدية، وكذلك بعض احتياجات الدور والقصور الفخمة، بل إن النجارين الذين يعمدون إلى الاقتباس من التصميمات الأوروبية الحديثة يطعمون منتجاتهم ببعض المفردات الزخرفية الإسلامية إرضاء للذوق العام ولرفع أسعار بيعها أيضاً.

وتشهد مصر تجربة رائدة قابلة للتكرار في دول أخرى، حيث يقوم المجلس الأعلى للآثار بها برعاية وتدريب الصبية الراغبين في الإلمام بالحرف التقليدية في موضعين. أحدهما مركز الحرف بالقاهرة والثاني بمدينة رشيد الساحلية، وإضافة إلى النجاح الذي أحرزته التجربة في تلبية احتياجات ترميم الآثار والمتطلبات الجديدة لمساجد وزارة الأوقاف،

فقد تم مؤخراً الاعتماد على خطة جديدة لترويج قطع من الأثاث الخشبي التي تم إنتاجها، وفقا للتقاليد الصناعية والفنية الإسلامية وخاصة أساليب الحشوات المجمعة والزخرفة بالحفر والتفريغ، ويجري الآن تنفيذ تعاقدات متوسطة مع المنشآت الفندقية والسياحية لإضفاء طابع مميز على أثاثاتها، وثمة محاولات جادة لإتاحة هذا النوع من المنتجات للجمهور العادي للتأثير على أعمال الورش الحرفية الحرة.

د. أحمد الصاوي

ـ أستاذ الآثار الإسلامية - جامعة القاهرة

Email