معالم اسلامية

مساجد صيدا الأثرية.. من معابد الشمس إلى بيوت يُرفع فيها الأذان

ت + ت - الحجم الطبيعي

في مدينة صيدا عاصمة الجنوب اللبناني، ووسط أبنية عشوائية الهندسة والتصميم تنتصب مساجد أثرية يعود بعضها إلى زمن المعابد الكنعانية، فيما كان بعضها الآخر يشكل في عهود لاحقة، منتدى للمسلمين تلفها حدائق غناء، يجلس فيها الناس بعد الانتهاء من أعمالهم، يتسامرون إلى أن يحين موعد الصلاة ليؤدوها في وقتها في هذا المنتدى، إذ لم تكن المقاهي موجودة قديماً في المدن الإسلامية.

واللافت في هذه المساجد الواقعة عند تقاطع الأزقة والدروب، أنها مقامة على خطين مستقيمين من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال، وأقدمها وفقاً لما هو مؤرخ هو مسجد باب السراي الذي يعود إلى عام 598ه، وقد سمي كذلك لأنه يقع على بعد أمتار من باب سراي آل معن داخل صيدا القديمة، حيث كانت تقوم منازلهم.

في أعلى مدخل المسجد الشمالي، نُقشت لوحة بما يلي «بسم الله الرحمن الرحيم، انشأ هذا الجامع المبارك العلامة الفقير إلى الله تعالى الشيخ الإمام عمدة الطالبيين مولانا شيخ أبو اليمن ابن العبد الفقير إلى الله تعالى ابن العلامة مولانا شيخ الإسلام أبي اسحق إبراهيم بن... الدين أواخر رمضان 598 هـ (1177م)».

وفي ذلك، يوضح الباحث الدكتور عبد الرحمن حجازي «أن عبارة عمدة الطالبيين تعود إلى العائلات الصيداوية التي تنتسب إلى البيت النبوي، وقد كانت تنتخب من بين أفرادها عمدة لها، والعائلات التي تنتسب إلى البيت النبوي تعود إلى الإمام الحسين رضي الله عنه في نسبها.

ولا تفتح شجرة النسب إلا بعد ذبح أضحية لاعتقاد هذه العائلات انه لا يجوز فتح شجرة النسب قبل تقديم أضحية تقربا إلى الله تعالى، وقد عرف عمدة الطالبيين باسم نقيب الإشراف فيما بعد، وكان نقيب الإشراف يتولى نقابة الإشراف بموجب قرار من السلطان العثماني، إلى أن ألغي هذا اللقب بعد وفاة الشيخ احمد جلال الدين آخر نقيب للإشراف في صيدا عام 1947».

* أقسام المسجد

يقع هذا المسجد إلى الشرق من ساحة باب السراي داخل مدينة صيدا القديمة ويتألف من ثلاثة أقسام:

ـ حرم المسجد متسع المساحة، يتصدره منبر معظم أقسامه من الخشب، وتعلو القسم الشرقي من الحرم قبة جميلة الشكل، أما القسم الجنوبي من الحرم فقد كان خارج منطقة الحرم لكنه اتبع إليه بعد الإصلاحات التي جرت للمسجد عام 1964.

ـ صحن المسجد، وتعادل مساحته ربع مساحة الحرم، يمتاز بعمودين أثريين ينتصبان في وسط الصحن.

ـ مدخل المسجد، وله اثنان، مدخل غربي من جهة ساحة باب السراي يفضي مباشرة إلى الحرم، ومدخل شمالي يؤدي إلى صحن المسجد.

* الجامع العمري الكبير

كان هذا المسجد في الأصل معبداً للشمس، ويؤكد على صحة ذلك النافذة الدائرية الشكل التي توجد في أعلى الحائط الشرقي من حرم المسجد، والتي تسمح لنور الشمس أن يغمر القاعة.

يستذكر د.حجازي رواية لأحد المخضرمين في هذا المجال، تقول «أن المسجد العمري كان معبداً للشمس ثم تحول إلى كنيسة في عهد البيزنطيين، ثم حُوّل إلى مسجد بعد الفتح الإسلامي لمدينة صيدا، وأطلق عليه اسم العمري الكبير نسبة إلى الخليفة عمر بن الخطاب(رضي الله عنه) الذي كان خليفة المسلمين في ذلك العهد».

ومن هنا، فإن تاريخ الجامع العمري يؤكد أنه كان معبداً كنعانياًّ، وقد كان كل فاتح لهذه المدينة يحول ذلك المعبد الكنعاني إلى معبد يتوافق مع معتقده، بعد أن يجري عليه الإصلاحات اللازمة، إلى أن عاد البناء مسجداً بشكل ثابت في أواخر العهد الأيوبي، بعد أن حرروا صيدا من الصليبيين.

يقع هذا المسجد داخل مدينة صيدا القديمة في منطقة ضهر المير ، على تلة مرتفعة تشرف على البحر من جهة الغرب. قديماً كان يعلق على باب المنبر فيه سيف يحمله الخطيب عندما يصعد ليخطب، لكن هذه العادة ألغيت بعد وفاة إمام وخطيب المسجد الشيخ جلال الدين عام 1947م.

* يتألف المسجد من أربعة أقسام

ـ الحرم وله ثلاثة أبواب ضخمة من الخشب تفضي إلى البهو وينتصب وسط الحرم منبر رخامي، والى يمين المنبر محراب نقش فوقه اسم الجلالة «الله» والى اليسار محراب آخر نقشت فوقه الآية الكريمة: «كلما دخل عليها زكريا المحراب».

ـ بهو المسجد وتبلغ مساحته حوالي ضعفي مساحة الحرم وتعلوه ثلاثة قبب تبدو عليها مظاهر العمارة العثمانية، إضافة إلى المئذنة ذات الجسم الأوسط المستدير الذي ينتهي بشرفة دائرية محمولة على جسم سفلي مربع، ونهاية علوية بشكل مخروط، ويظهر في وسط البهو محراب صغير.

ـ صحن المسجد وتبلغ مساحته مساحة البهو تقريباً ، وكان يتوسط هذا الصحن، كما يقول د.حجازي، «بركة دافقة وفي وسطها فسقية عليها قبة عظيمة البنيان وفي خارجه صفّة صغيرة محكمة الأركان وهي مشرفة على البحر ، وفيها بئر ماء فيه بعض ملوحه لكنه شفاء للجسم السقيم».

ـ مدخل المسجد، وله اثنان، المدخل الأساسي للجامع ويفضي مباشرة إلى صحن الجامع وقد أحاطت به القناطر من جميع الجهات، والمدخل الشرقي الذي استحدث على بناء الجامع من الحديقة التي كانت تحيط به من الشرق والجنوب.

تعرض المسجد العمري إلى إصلاحات وتوسعات كثيرة ، كان أهمها في عهد السلطان عبد العزيز خان، حين أجرت خوشيار هانم والدة خديوي مصر اسماعيل باشا بعض الترميمات عليه عام 1278ه.

في العام 1982م تهدمت أجزاء كبيرة من المسجد، خاصة الحرم، من جراء قصف الطيران الإسرائيلي وقد تولت المؤسسة الإسلامية للتعليم العالي في صيدا إعادة ترميمه بالتعاون مع شركة أوجيه ـ لبنان.

* جامع قطيش

بني مسجد قطيش عام 1580م على نفقة الحاج علي بن محمد بن قطيش . ويقول د.حجازي أن هذا الرجل كان فاضلاً محباًّ للعلم، يحرص على استضافة جميع علماء المنطقة.

وقد استضاف مرة العلامة الشيخ عبدالغني النابلسي وعندما رأى مسجد قطيش، وصفه فيما بعد في مؤلفه «التحفة النابلسية في الرحلة الطرابلسية» بالقول «هو جامع جديد منور، فيه بركة ماء، وفسقية صغيرة من الرخام يجري إليها ماء عذب وهو أصغر من جامع الكيخيا».

أجريت لهذا المسجد ترميمات وإصلاحات عديدة كانت أهمها عام 1867م(1288ه) عندما قام أحفاد الشيخ علي قطيش بتجديد المسجد وتأريخ شعر كتبوه فوق باب المسجد الخارجي الذي يمتاز بجماله ويعتبر من أجمل مداخل المساجد في صيدا.

وقد جاء في الأبيات:

لقد حف بذا الجامع النور واليها

بمن اخلصوا لله في السر والنجوى

فهم فتية أحبوا مآثر جدهم

بتجديد خير ذكره دائما يروى

أقاموا بإتقان البنيان حقا على التقى

فبشراهم دار النعيم لهم مثوى

بناء لوجه الله تأريخه 1288هـ علا

وان أصله كان الأساس على التقوى.

دفن في الناحية الجنوبية من المسجد الشيخ علي قطيش، والضريح عبارة عن بناء حجري بسيط يعلوه شاهد نقشت عليه آية قرآنية، وكان من عادة المصلين في ذلك المسجد.

وبعد صلاة الفجر، أن يقفوا على باب المسجد ويذكروا الله، فيقول إمام المسجد «افلح من قال لا إله إلا الله» فيردد المصلون 3 مرات «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير». ويختم إمام المسجد حلقة الذكر بقوله: «فاز من وحّد الله»، فيردد المصلون «لا إله إلا الله».

يصف د.حجازي مسجد قطيش بأنه من أغنى المساجد «لا في صيدا فحسب، بل في لبنان، فأوقافه كثيرة وكبيرة، وهو يقع داخل صيدا القديمة إلى الشمال من ساحة المصلبية والى الجنوب من جامع الكيخيا، ويتألف هذا الجامع من أربعة أقسام:

ـ الحرم: لا تتجاوز مساحته 50 متراً مربعاً تعلوه قبة زيّن داخلها بستة لوحات من الفسيفساء، كما زيّن جانبا الباب الرئيسي للحرم بلوحتين من الفسيفساء.

ـ بهو المسجد: يتألف من قسمين، قسم ملاصق للحرم يرتفع سقفه على عمودين أثريّين تعلوهما زخارف ونتوءات، ما يدل على أنهما جُلبا من مواقع أثرية قديمة، وقسم ثانٍ فسيح تتجاوز مساحته مساحتي الحرم والقسم الأول من البهو، ويروى انه كانت في هذا القسم بركة تملأ بالعصير في ذكرى المولد النبوي ليشرب منها الناس ويصلون على النبي (صلى الله عليه وسلم).

ـ غرفة المسجد: وكانت ملتقى العلماء ومركزا لتعليم القرآن الكريم، وآخر من استعمل هذه الغرفة للتعليم الشيخ موسى نصر المتوفى عام 1969م الذي كان يعلم القرآن مجانا.

ـ حديقة المسجد: وهي حديقة كبيرة مليئة بأشجار الليمون، تقع إلى الغرب من المسجد لكنها منفصلة عنه.

عام 1964م أجرت دائرة الأوقاف الإسلامية في صيدا بعض الإصلاحات والترميمات في هذا المسجد.

* جامع الكيخيا

شيّد عام 1033هـ من قبل الحاج مصطفى الكتخدا ، ويقول د.حجازي «إنه يعرف باسم جامع الكتخدا بكسر الكاف، لكن صعوبة لفظ الاسم وكثرة تداوله أدتا إلى تحريفه ليصبح جامع الكيخيا، وتشير دراسة للدكتور طلال المجذوب إلى أن الكتخدا هي صفة لممثل الوالي العثماني للمدينة، وليست اسم عائلة».

يقع جامع الكيخيا إلى الشمال من مسجد قطيش ، ولا يوجد داخله لوحة أو نقش يدل على زمن بناء أو زمن الانتهاء من بنائه ، وان كان البعض من أهل المدينة يقول إنه كان يوجد داخل الجامع لوحة، لكن استخدام المسجد كمزار من قبل العائلات الفلسطينية النازحة عام 1948 من فلسطين ولفترة طويلة قد ساهم في تغييب هذه اللوحة، وقد ظل هذا المسجد مغلقا إلى أن أعيد ترميمه في التسعينات أمام المصلين.

بقلم: د. أحمد الصاوي

Email