مشايخ الطرب

الشيخ أبو العلا محمد .. عمدة الملحنين في بدايات القرن العشرين

ت + ت - الحجم الطبيعي

ولد الشيخ أبو العلا محمد في عام 1884وبعد عامين من الاحتلال الانجليزي لمصر في حي شعبي من أحياء القاهرة هو حي «الناصرية» لأسرة من عامة الشعب ولم يكد يشب عن الطوق حتى أرسله أبواه إلى كتّاب الحي لكي يتعلم القراءة والكتابة ويحفظ القرآن ويجوده لكي يأخذ طريقه إلى الأزهر ليرتدي الجبة والقفطان ويضع العمامة شأنه في ذلك شأن كل أولاد الأسر المتوسطة في الأحياء الشعبية من قاهرة المعز.

منذ نعومة أظفاره كان الصبي أبو العلا يهوى قراءة وحفظ القرآن الكريم وهي موهبة يمن بها الله على المحظوظين من عباده واستغرقه الحفظ والتجويد وقاده هذا في شبابه إلى أن يرتاد كل مدارس التجويد وينهل منها خاصة وقد كان بها الكثيرون من الأعلام من كبار المقرئين الذين يجوبون كل مدن مصر .

وقراها وكان حسن الصوت وجزالته والطريقة التي يجود بها القارئ قراءته لآيات الذكر الحكيم تحقق لهم الشهرة وتجلب لهم الثراء والقبول عند جماهير العامة.

ولم يكن تجويد القرآن وقراءته هي وحدها التي يمكن لأن تحقق الشهرة لصاحب موهبة الصوت الجميل من المشايخ المعممين بل كان هناك أيضا مجال خصب لاستعراض موهبة الصوت هو مجال إنشاد قصائد المديح النبوي .

والتواشيح الدينية بمصاحبة بطانة من المقرئين أو عازفي الآلات الموسيقية الذين يطلقون عليها اسم «التخت» وكانت أغلب الأسر العريقة في القاهرة كثيرا ما تحيي «الموالد» في تلك الفترة من أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين في كل مناسباتها.

وفي شبابه الباكر كان الشيخ أبو العلا محمد قارئا ومنشدا لقصائد المديح النبوي والتواشيح الدينية وبدأت شهرته تتجاوز حدود حي الناصرية حيث بدأ نشاطه في مناسبات «سبوع الأطفال وطهورهم» والمناسبات الدينية مثل المولد النبوي وليالي شهر رمضان في بيوت أسر الحي ومما يروى عنه في تلك الفترة أنه كان صبيا عندما أحيا «سبوع» الشاعر أحمد رامي.

حيث كانت أسرة رامي تقطن بيتا من بيوت نفس الحي «الناصرية» بجوار بيت أسرة الشيخ أبو العلا محمد وعندما وصل رامي إلى طور الشباب .

وكان الشيخ أبو العلا قد أصبح علماً في دنيا الطرب أهداه رامي ديوانه الأول متمنيا عليه أن يختار إحدى قصائده لكي يلحنها ويغنيها واختار الشيخ أبو العلا قصيدة «الصب تفضحه عيونه» وغناها ثم أعطاها إلى تلميذته النجيبة أم كلثوم لتكون سبب اللقاء بينها وبين أحمد رامي وتشكل الثالوث الفني أبو العلا محمد وأحمد رامي وأم كلثوم.

كان العصر أزهى عصور الغناء والطرب في مصر حتى أنه كان يطلق عليه «العصر الذهبي» وكان من أعلامه عبده الحامولي وألمظ وسلامة حجازي ومحمد عثمان والشيخ أبو العلا محمد وعلى الرغم من أن الشيخ أبو العلا لم يكن فقيها .

أو عالما لغويا إلا أنه تأثر بتجويد القرآن ومدارس قراءته ومن هنا تميز بطريقته الفريدة وأسلوبه في الغناء والتلحين واختص بميزة مهمة بين كل من غنوا واطربوا في العصر الذهبي للغناء، اتجه إلى تلحين القصائد الشعرية واستغل أسلوب التجويد ليعطي ما يلحنه طعما جديدا مختلفا إذ حرص على أن تكون الكلمات والأبيات الشعرية .

واضحة النطق معبرة عن المعنى مع تفخيم الحروف ومخارجها والتأكيد عليها، وكان هذا اللون من اللحن الموسيقي جديداً تماماً على الغناء وكان يتطلب موهبة صوتية مميزة ويحتاج إلى جهد في الأداء إلى حد أنه أصبح مقياسا للموهبة الصوتية والحكم عليها.

وبلونه الجديد بدأ الشيخ أبو العلا محمد يحقق شهرته كمطرب واشتهرت له أغان وقصائد باللغة العربية الفصحى ولم تكن صناعة الاسطوانات قد راجت آنذاك، على أن قلة من الأغاني كانت تسجل على اسطوانات شمعية مستديرة محدودة الانتشار.

. اختار الشيخ أبو العلا محمد قصيدة للشاعر المصري الشبراوي ولم يكن اسماً مشهوراً في عالم الشعر يقول مطلعها «وحقك أنت المنى والطلب» وخرجت شهرته من حي الناصرية إلى كل أحياء القاهرة التي تتمركز فيها كبريات الأسر الراقية مثل عابدين والعباسية والحسين وباب الخلق والقلعة.

ولم تلبث أن تجاوزت شهرته وذاعت أغانيه في أقاليم مصر جميعا ومدن الوجهين البحري والقبلي و لم يلبث أن أصبح في مطلع هذا القرن الاسم البارز الأكثر شهرة وشعبية ومكانة على ساحة الطرب والغناء وتوالت قصائده المغناة تشتهر واحدة بعد الأخرى مثل أغنيته الشهيرة أفديه إن حفظ الهوى أو ضيعه ملك الفؤاد فما عسى أن أصنعه.

وقد كانت هذه الأغنية من أولى أغانيه التي سجلت على اسطوانات وأذيعت على الفونوغراف.. سجلت «أفديه إن حفظ الهوى» عام 1911 واشتهرت أكثر من غيرها.

وشجع نجاحها على أن يتوالى تسجيل أغنيات الشيخ أبو العلا على اسطوانات مثل غيري على السلوان قادر، ويا عازلي لا تلمني إن عبث ، وأنا من هجرك، وآه من قوامك، رائعته المأخوذة عن قصيدة للشاعر أبي فراس الحمداني:

أراك عصي الدمع شيمتك الصبر

أما للهوى نهي عليك ولا أمر

وهذه الأغنية عاشت وانتشرت بعد أن غنتها كوكب الشرق أم كلثوم واستخدمها المخرج نيازي مصطفى لتبدو النجمة سعاد حسني منشدة لها في فيلم «فارس بني حمدان» بصوت أم كلثوم، وكانت هذه المشاهد التي تبدو فيها سعاد حسني وهي تغني سببا في أن تجرب الغناء في العديد من أفلامها مثل صغيرة على الحب، وخللي بالك من زوزو ، وأميرة حبي أنا حتى أصبح الغناء مكملا لموهبتها كممثلة.

استطاع الشيخ أبو العلا محمد أن يصبح شيخ الملحنين في مصر في الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الأولى وكما كانت له الريادة في تلحين قصائد القدامى والمحدثين من الشعراء العرب كانت له أيضا في الثورة على الشكل التقليدي لما كان يطلق عليه «التخت الشرقي» من «سنيدة» وبطانة من المنشدين تقف وراء المطرب .

واستبدلهم بموسيقيين حقيقيين مثل سامي الشوا ـ أمير الكمان فيما بعد ـ وأحمد صبيح عازف القانون ومحمود رحمي عازف العود، ويروى أن المطرب والملحن زكي مراد والد الفنانة ليلى مراد أصر على أن تغني في أول حفل تواجه فيه الجمهور على مسرح الريحاني قصيدة الشيخ أبو العلا «أفديه إن حفظ الهوى» وكان غناؤها لهذه القصيدة هو جواز المرور إلى احترافها الغناء وكان الامتحان الصعب الذي اجتازته بنجاح وهي لم تزل في الثانية عشرة من عمرها.

ويجمع مؤرخو الموسيقى الشرقية في مصر على أن الشيخ أبو العلا محمد لعب دورا مهما للغاية للارتقاء بمستوى اللفظ واللحن في مواجهة الإنحدار الذي ساد الأغنية في حقبة العشرينات والتي أصبحت تخاطب الغرائز بكلمات منحدرة المستوى .

وللمفارقة فقد سبح مع هذا التيار كبار الموسيقيين والفنانين في ذلك الوقت مثل الشيخ زكريا أحمد ومحمد القصبجي ومنيرة المهدية وعبد اللطيف البنا وصالح عبد الحي.

فقد لحن الشيخ زكريا أحمد أغنية شاعت في ذلك الوقت تقول كلماتها: «إرخي الستارة اللي في ريحنا.. أحسن جيراننا تجرحنا» وهي الأغنية التي أثارت الأزهر ورجال الدين وقادوا حملات الانتقاد ضدها واتهموها على أنها دعوة مباشرة للدعارة والانحلال والسقوط بالمجتمع إلى هوة لا أخلاقية.

وأمام هذه الموجة أتيحت الفرصة أمام اتجاه أخلاقي ديني راق يتمثل في الشيخ أبو العلا محمد ـ الذي كان يلقبه الملحنين في عصره بـ «عمدة الغناء» ـ أن يعثر على فرسين عظيمين للرهان .

وهما أم كلثوم وعبد الوهاب ليحدث الهزة التي غيرت مسار الأغنية وقضت على تيار الانحدار فيها.. يقول بعض المؤرخين أن بسبب ذلك لم تكد تفتح الحكومة الإذاعة الرسمية المصرية عام 1934 إلا وقد انحسرت تماما تلك الموجة من الغناء الهابط.

أما عن أعظم إنجازات أبو العلا محمد فكانت رعايته لموهبة أم كلثوم وتشجيعها على الانتقال من قريتها في دلتا النيل إلى القاهرة ويرى البعض من مؤرخي الأغنية أنه لو لم يكن للشيخ أبو العلا من إنجازات على ساحة الطرب والغناء سوى العمل على نقل أم كلثوم للقاهرة ورعايته لها لكان ذلك كفيلا له وجميلاً يشكر عليه.

ففي منتصف عام 1924 كان الشيخ أبو العلا يقوم بإحياء زفاف ابنة أسرة مصرية من الأسر العريقة في محافظة الدقهلية مع فرقته الموسيقية وبات ليلته هناك وفي اليوم التالي بدأ رحلة العودة للقاهرة فركب حماراً حمله من قرية الأسرة إلى محطة مدينة السنبلاوين ليستقل القطار إلى القاهرة.

وفي الانتظار سارع جمهور المسافرين المتجمهرين إلى التحلق حوله وذاع نبأ وجود الشيخ أبو العلا محمد على محطة القطار.. وحتى يكون للقدر تصاريفه وللصدفة كلمتها تصادف وجود أم كلثوم الفتاة التي لم تتجاوز الثالثة عشرة من عمرها وتغني في الأفراح والموالد أغاني أبو العلا محمد.

وكانت المفاجأة الكبرى لها وفرصة أيقنت بحسها الشاب أنها لن تتكرر فصاحت على والدها الشيخ ابراهيم البلتاجي على اصطحابها إلى استراحة المحطة حيث يجلس الشيخ ودخلت كالمسحورة ولم تتركه إلا وقد لبى دعوتها للذهاب إلى منزلها في قرية «طماي الزهايرة» لتناول الغذاء وسماعها وهي تغني أغانيه. وبخبرته تفاعل الأستاذ مع التلميذة وتمنى عليها الانتقال بأقصى سرعة إلى القاهرة.

حيث الأضواء والشهرة التي كانت في انتظارها . وأعطى الشيخ أبو العلا أم كلثوم أحدث ألحانه لكي تغنيها وهي قصيدة الشاعر أحمد رامي «الصب تفضحه عيونه».

على أن حياة الشيخ أبو العلا محمد لم تمتد طويلاً بعد لقائه بأم كلثوم فقد رحل عام 1926 ولم تطل رعايته وتدريبه لأم كلثوم لأكثر من 3 سنوات، فقد كان مصابا بمرض السكر الذي قضى عليه وهو لم يكمل الثانية والأربعين من عمره..

عادل السنهوري

Email