قارع الجرس

ت + ت - الحجم الطبيعي

لو أنني ذهبت إلى المدرسة لكنت لا أزال أقرع الجرس في هذا البناء الصغير الذي يمكنك أن تراه من نافذتك أدرج في هذه السطور، رسالة بعث بها إلي، المير غيروني، وهو قارئ دائم لهذا المقال، تتضمن قصة مثيرة للاهتمام، لا يعرف مؤلفها، كما أشار. ويذكرني قارع الأجراس فيها، بالعديد من الأشياء التي حدثت في حياتي، والتي واجهتها وقتئذ باعتبارها هزائم، لكن تبين لي، مع مرور السنوات، أنها كانت بركات حلت بي.

وأقدم في هذا الصدد، مثالا محددا، اختبرته وعايشته شخصيا، إذ عندما عرضت روايتي "الخيميائي" على مجموعات النشر الكبرى في فرنسا، لم يبد أحد اهتماما بها، لكن ناشرة وحيدة، تصنف دارها من بين ذات المستوى المتواضع في المجال، وكانت قد فتحت أبواب دار نشرها لتوها، تشجعت لها، فقررت أن تباشر في تدقيق مضمون عقد تبرمه مع ذلك الكاتب البرازيلي المجهول، في هذا الشأن.

ومن ثم اعتزمت أن تركز جميع جهودها على تحقيق توزيع جيد لذاك الكتاب. وبالفعل أصبح الكتاب في صدارة أفضل الكتب مبيعاً في السوق الفرنسية، في الأوقات كافة، وتجده لا ينفك يحطم الأرقام القياسية من حيث طول مدد بقائه في قوائم الكتب الأفضل مبيعا في فرنسا.

وخلاصة العبرة التي أجدها في مفاصل هذه القصة الشخصية، انني على يقين تام اليوم، وفي ضوء معرفتي الأفضل في السوق الدولية للكتاب، بأن هذا الكتاب، ولو كانت قد نشرته إحدى دور النشر الكبرى، لبقيت فرصي في الوصول إلى هذا النجاح في توزيع الكتاب، معدومة، على الإطلاق.

وذلك لأن كتابي هذا سيكون مدفوعا ومصنفا في خانة قائمة المنافسة مع كتب كثيرة غيره، لمؤلفين عظام يتعاقدون مع هؤلاء الناشرين. ومن هذه الزاوية كانت فرصتي مثالية، إذ رُفض كتابي من قبل كبريات دور النشر، لتتلقفه ناشرة مبتدئة، مفعمة بالحماس، وهي آن كارييه، والتي ألفت، في وقت لاحق، كتاباً متخصصاً بالحديث عن روايتي.

وأود هنا، أن أذكر القصة التي أشرت إليها في مستهل المقال، والمرسلة من قبل المير تدور، كاملة:

كان رجل متواضع، لم يتلق تعليما على الإطلاق، يعمل في كنيسة ضمن مدينة صغيرة في الداخل البرازيلي، وكانت مهمته أن يقرع الجرس في المواعيد المحددة.

لكن، ومع تغير القوانين، قرر مسؤول المقاطعة أنه يتعين على جميع العاملين في مثل هذه المؤسسة، أن ينهوا على الأقل تعليمهم الأولي، ظانا أنه، وبهذه الطريقة، سينشّط التعليم العام، إلا أن هذا القرار كان سيئا بالنسبة للرجل العجوز(قارع الجرس)، الذي كان أميا وأيضا يحول الايغال في العمر دون قدرته على أن يبدأ ويخوض الغمار في أي شيء جديد، وهكذا كانت اكتملت الحلقة، وكانت نهاية وظيفته..

ومن ثم منح تعويضا بسيطا، ووجهت إليه كلمات الشكر التقليدية، ثم سُلم خطابا يتضمن إنهاء عمله.

وفي صباح اليوم التالي، وبينما لم يكن لدى العجوز ما يقوم به، جلس على مقعد حجري في الميدان الرئيسي للمدينة، وابتغى لحظتذاك أن يدخن سيجارته، وبعد أن تناول علبة السجائر، وجد أن ما لديه من تبغ يوشك على النفاد، فاعتزم طلب التبغ من أصدقائه المحالين إلى التقاعد، والذين تصادف وجودهم في المكان نفسه.

ولكنهم جميعا كانوا يعانون من المشكلة نفسها، وبذا بدا أنه لا مفر من المضي إلى المدينة المجاورة، غاية شراء التبغ. وحينها، خاطبه أحد الرجال من هؤلاء: " لديك ما يكفي من الوقت، لذا يمكنك المضي لشراء التبغ، بشكل دائم، ومن ثم عرضه هنا، ونحن سندفع لك مقابل ذلك".

لم يمر وقت طويل حتى بدأ العجوز (قارع الجرس السابق) في القيام بذلك بصورة منتظمة، ولكنه لاحظ مع مرور الأيام، أن هناك الكثير من الأشياء التي تفتقر إليها مدينتهم، فشرع يحضر معه القادحات والصحف، وما إلى ذلك، وهكذا اضطر إلى فتح حانوت صغير عندما وجد أن الناس يطلبون المزيد من المنتجات.

ولما كان العجوز رجلا دمثا ومخلصا، إلى جانب اهتمامه بإرضاء عملائه، ازدهر حانوته وتوسع في نشاطه، ثم انتهى به المطاف إلى أن يصبح واحدا من أكثر رجال الأعمال الذين يحظون بالتقدير والاحترام، في المنطقة.

أخذ التاجر الجديد (قارع الاجراس)، يتوسع في أعماله، فكان مجبرا مع هذه الحال، على التداول والتعامل بأموال كثيرة وبمبالغ مالية ضخمة، فبات من الملح أن يفتح حسابا مصرفيا.. وهكذا توجه إلى المصرف حاملا حقيبة مليئة بالأوراق المالية، فاستقبله المدير بمزيد من الترحيب، وتم ملء استمارة ملفه، وفي نهاية المطاف، طلب منه أن يوقع عليها. وعندها رد العجوز : "إنني آسف.. لا أستطيع الكتابة".

ذهل مدير المصرف، ورد:" هكذا إذا.. فقد حصلت على هذا كله لكونك أميا: لا تقرأ ولا تكتب!؟". فأجاب العجوز: " لقد حققت ذلك بالجهد والتفاني". فقال مدير المصرف: "تهاني الحارة! .. إنك حققت كل ذلك النجاح حتى من دون أن تدخل مدرسة، فتخيل ما كان يمكن أن يحدث لو أنه كان بوسعك الذهاب إلى المدرسة!".

ابتسم الرجل العجوز وهو يقول: " يمكنني أن أتخيل ذلك تماماً، فلو أنني ذهبت إلى المدرسة لكنت لا أزال أقرع الجرس في هذا البناء الصغير الذي يمكنك أن تراه من نافذتك".

Email