البحر.. رمز العطاء ووطن الذاكرة

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

البحر..«واهب»الذكريات الجميلة لأهل الساحل في الخليج، تفاصيل الأماكن وبعدها الإنساني في طبيعة العلاقة بين الإنسان والطبيعة، مونولوج يرسخ مبدأ العطاء والحب المتبادل بينهما. كيف لا.. وهو البحر الذي يحمل معنى الحياة والمعيشة لصياد المتربع على (الدجة ) لبيع ما ناله منها لسداد رمق اليوم وساعات الليل حتى الغد المجهول في أجندة العمل المليء بالرضى.

 

 

في كل زيارة لزوايا سوق السمك اليوم، يعيد تاريخ المكان نفسه في أذهان من عاصروا ذكرياته، حيث تربى بين جنباته رجال ونساء آمنوا بقيمة العمل كوسيلة للعيش والبقاء وممارسة فعلية لطبيعتهم البشرية. وانتشوا من خلاله عطر أخبارهم اليومية كوكالة أنباء محلية، تنفيذا لمبدأ ( الفزعة ) وتحقيقا لمعادلة ( الناس لناس.. والكل بالله ).

 

دجة السمج

دجة السمج هي الطبقة الأسمنتية القريبة من الشاطئ والتي يتم وضع السمك الطازج والطري عليها لعرضها للبيع، الناظر إليها يتلمس تفاصيل الحكايات والقصص لأشخاص عاشوا تلك الفترة وارتبطوا معها بمعنى روحي وكوني تعدى كونه وسيلة للمعيشة، ليخلد بذلك صناعة ثقافة العمل والعطاء. ويعبر عنها حمد الرحومي أحد المتخصصين في مجال سوق السمك والمتدرج من عائلة عملت في مهنة الصيد. أن الجلوس أمام ( الدجة ) والبيع إحدى وسائل التواصل بين الناس ليس فقط للبيع بل لتعاطي في منظومة العلاقات اليومية.

وقال في ذلك ( قديما في الإمارات .. يعتبر سوق السمك بمثابة لقاء عائلي لجميع المواطنين في تلك المنطقة، ومصدر مهم لمعرفة أهم الأخبار في المنطقة، بل أستطيع القول إنها وكالة أنباء محلية) ، لافتاً أن اللقاء عزز مبدأ ( الفزعة ) وهي دعم الناس لبعضهم البعض في السراء والضراء. مبينا أن النساء كن من يقدن البيع في السوق، بعد اتفاقهن مع الصياد حول نسبة معينة للبيع. حيث كن يتعاملن مع السمك الطازج ويسمى ( بالرق ) وهو من النوع الطري اليومي.

وذلك من خلال شبكة تواصل وعلاقة ثقة متبادلة تربطهن بالزبائن في عملية البيع. مؤكدا أن النساء لعبن دورا كبيرا في سوق السمك قديما. وأشار حمد الروحومي أنه كان يلاحظ اختلافا واضحا في طريقة تعامل أبيه معه في البحر عنه على اليابسة. (لم أكن أعرف أبي عندما نذهب للصيد).

وذلك لأن شخصية الصياد أثناء العمل ترتدي سمات القيادة والجدية والسرعة في تنفيذ الأوامر على ظهر السفينة. وعبر الروحومي عنها ( عندما يأمرنا والدي لفعل عمل ما معين أثناء الصيد ، فيجب علي أن أتلقاه وأفهمه من دون أن أسأل في التفاصيل). معتمدا في ذلك على سرعة البديهة، والخبرة التراكمية من العمل المستمر مع والده.

 

جدول يومي

وفي سياق أعراف البحر وتطلعات أصحاب المهنة، يتحدث الروحومي عن مراحل العمل قديما في المهنة والتي تتفعل ضمن جدول يومي، يبدأ بين الساعة الثانية أو الثالثة فجرا، يحمل معه السماك أدواته منطلقا للبحر، ليبدأ في عرض البحر بحثه المتواصل عن أسماك ليصطادها، إما برمي الخيط المخصص أو شباك الصيد ويستمر ذلك حتى الساعة السابعة والثامنة صباحا، وبعدها يهمون بالرجوع.

ليقدموا ما ظفروا به للمتخصصين في البيع. ومن ثم يذهب للبيت بين العاشرة والحادية عشرة في فترة الضحى، ليكمل في الظهيرة إنجاز أعماله الأخرى، لتأتي (العصرية) ما بعد الظهر، ويتفقد عملية البيع وما كسبه خلال اليوم. ليعيد بعد العصر ترتيب أغراض الصيد لفجر اليوم التالي، وما يدعى ( بالدشة ) بمعنى الدخول للبحر. يشرك حمد الرحومي أبناءه في ممارسة المهنة، ليخلق لديهم ثقافة المهنة والعمل في أذهانهم.

حيث يعبر الروحومي في هذا السياق (أعلمهم كيف يتعاملون مع التفاصيل الدقيقة، والتي أسعى من خلالها لغرس أخلاق الرجال، والرغبة في تحصيل لقمة العيش بيده)، فهو يؤمن بأن لمهنة صيد السمك تأثيرا أخلاقيا وتربويا على أبنائه بعيدا عن المتغيرات الحالية، التي ألزمت الشباب العزوف، والانشغال بمهن تناسب هذا التغيير، معبرا عن أنه لا تزال هناك مساحات لنيل القيادية والثقة والعمل المتزن والمنتج من خلال مهنة أصيلة وذات بعد إنساني .

 

سوالف ثرية

(ما يميز الحياة الاجتماعية لسوق السمك، اصطحاب الصيادين لأبنائهم للعمل في السوق، وذلك لاكتساب الخبرة الميدانية وممارسة تدريجية للمهنة ) إشارة لعمر سيف المرزوقي أحد العاملين بمهنة الصيد والمعاصرين لتاريخ أسواك السماك في المنطقة، ورئيس سابق لمجلس إدارة جمعية دبي التعاونية لصيادي الأسماك في دبي. معبرا أنه من هنا يبدأ الابن بتلمس روح العمل والتعلم واحترام الكبير وكيفية تشكيل العلاقات.

موضحا أن السوق ساحة لتشكيل الحلقات النقاشية و ( السوالف) الثرية بالعديد من القضايا المجتمعية وقصص البحر والمواقف التي يصادفها الصياد أثناء ممارسته للمهنة. مشيرا أن الحلقات تقدم فوائد للابن من خلال الفهم الصحيح في كيفية إدارة الحوار واستخدام المفردات اللبقة وتداولها أثناء الحديث وبين المقبول والمفروض في المجتمع. معبرا أنها خطوة فعلية لصقل الأبناء على مفهوم الرجولة الحقيقية.

 

تباريز

توازياً مع مفهوم ( الدجة ) ينقلنا المرزوقي لمرحلة الحديث عن البيع في ما يسمى ( بالتباريز ) وهو عبارة عن حصير مصنوع من أوراق الخوص لشجرة النخيل، يعرض عليه محصول السمك للزبائن. لافتا للفئات العاملة في السوق في تلك الفترة، ومنهم الدلالون والحمالون وقال ان ( الدلال يعرض المنتج من السمك في مزاد والحصيلة النهائية ترجع للصياد، أما هو فله نسبة من البيع متفق عليها).

أما الحمالون فهم فئة شاركت في خط العمل في سوق، باعتبارها إحدى الخدمات المنوطة بالعملية الإنتاجية في داخل السوق من خلال حمل المنتج من السمك إلى البيوت. وكانوا يدعون قديما (بالمطراش) .

 

البحر في الأدبيات العربية

تفوح رائحة البحر في العديد من الأدبيات العربية، ناقلة تلك العلاقة الكونية بين الطبيعة والإنسان. حيث تتصدر الأعمال الفنية فكرة البحر بخيره وشره مختلف السيناريوهات، والحكايات لأفلام سينمائية وروايات وقصائد شعرية.

(كيف لهذه... أن تفهم أنها بسؤالها المتكرر عن حبه للبحر إنما تفجر سكون العاصفة، تهز شجرة الماضي البعيد فتتساقط الذكريات، متسابقة، توقظ كل شيء نام. آه لو تعلم أنها بسؤالها المستمر، إنما توقظ في قلبه وجهها، فتعود عيناها إليه، توجدان من جديد في كل مرة، جمرتين حارقتين، لؤلؤتين صافيتين، ثمرتين صافيتين، ثمرتين ناضجتين، تهتزان أمامه، فيشرق كل شيء فيها حتى اسمها... وسميّة...

كان اسمها وسميّة، يا ذاك الوجه الأسمر النابض بلون الصحراء، يا نجمة الليالي المتلألئة بالسهر.. مقتطف من رواية ( وسمية تخرج من البحر ) للكاتبة الكويتية ليلى العثمان. حيث تناولت الرواية قصة حب لحقبة ما بين الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي في الكويت تتلمس فيها ثقافة العلاقات الإنسانية والبعد الارتباطي للأفراد بالبحر كمصدر للمعيشة والحب والغربة. وفي مجال الأفلام السينمائية، فإن لفيلم ( بس يا بحر ) الكويتي أيضا تفاصيل تتعدى كونها عرضاً لتجارب الإنسانية، بل حوار يحاكي إنسان الخليج والبحر..

حيث تتلخص رسالة الفيلم بأنه ( لم يخلق الإنسان ليهزم إلا إذا أفنى ) ، وهنا مقتطع من سيناريو الفيلم بين صياد يقوم بإعداد شباكه لتكون جاهزة لصيد، وبين غواص ينظر باتجاه البحر ويتذكر ملامح علاقة العطاء بينه وبين هذه الطبيعة المتمردة.

الصياد: ما الذي تنظر إليه

الغواص: ما أراه.. لا تراه أنت

الصياد: لقد سئمت النظر.. فلا أرى شيء..!

الغواص: أنني أنظر إلى تلك الموجة.. فأراها تبتسم لي.. لأنني أعرف أسرارها.. وخباياها.. وما وراء تلك الابتسامة.. وراء تلك الابتسامة .. طمع .. وبخل.. وعناد..

الصياد: البحر كريم.. والكويت كلها تعيش على البحر..

الغواص: البحر كريم للضعيف.. والصبور.. أنت تنتظر الساعات والساعات.. لعله يعطيك سمكة.. أو سمكتين أما الذين يحصلون على رزقهم بأيديهم.. فإن البحر.. يعاندهم ويصارعهم ويحطمهم ويحرمهم من كل شيء.. لأجل لا يأخذ منه شيء )..

 

أهزوجة البحر

أهزوجة (توب توب ) كانت تتغنى بها النساء قديما أثناء موعد القفال وعودة الرجال من رحلة البحر والغوص، حيث يشترط أن تكون بعد المغرب، وتجتمع النساء قرب الشاطئ، وتشرف امرأة قوية ونشيطة على الغناء وتتحمل مسؤولية تجميع النساء الأخريات اللواتي يلتزمن بجمع الحطب وسعف النخيل وحرقه، ويقفن بعدها على شكل دائرة متحركة وينشدن هذه الأهزوجة لتخويف البحر وتأديبه وتهديده.

وذلك لأنهن يعتقدن بأن تهديد البحر سيحمي رجالهن ويعيدهم لليابسة سالمين، ويرجع حملهن لسعف النخيل وإشعاله وضرب البحر به إلى نوع من التفريغ وبيان مدى اللوعة والحرقة التي تعيشها النساء بسبب فراق أهاليهن في رحلات البحر، وذلك لكي يتلمس البحر الحرقة نفسها.

ونقرأ للباحث في التراث الإماراتي عبدالعزيز المسلم كتاب (دروب الود) والذي أعد فيها مجموعة قراءات متعددة للعديد من الشعراء من ربطتهم علاقات بالمكان والطبيعة، مضيفا فيها لمحة لمهنة صيد الأسماك كونها العمل الثاني بعد الغوص في الخليج، ودورها كداعم في تأسيس مهن مصاحبة في تلك الفترة، معبرا في ذلك ( كان الناس يعملون في صيد الأسماك بعد انقضاء موسم الغوص، وترتبط بصيد الأسماك مهن وحرف عديدة منها صناعة الألياخ (شباك الصيد) وصناعة القراقير ( أقفاص الأسماك )، كما يرتبط بعملية الصيد عملية حفظ الأسماك كصناعة (المالح واليوبل والكسيف والجاشع والسحناه ).

مبينا أنها عمليات تقام على نوعية معينة من الأسماك يتم تمليحها وتجفيفها، أما في ما يختص بمراكب الصيد أشار المسلم إلى مسمياتها ومنها: الشوعي والبقارة والماشوه والشاشة والشاحوف.

ان مزاجية أهل البحر، وتعاقدهم مع أحوالهم الإنسانية بقدر محكوم بلون الأزرق وبياض اللؤلؤ المكنون، باعتباره مصدرا للرزق وممارسة فعلية للحياة من خلال أن يعتبروا أنفسهم جزءا من ايديولوجية الطبيعة وتبعاتها.

Email