هنري ماتيس..سحر من الشرق

هنري ماتيس..سحر من الشرق

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

كتب واشنطن ايرفنغ، في عام 1829، كتابه الشهير «قصص من قصر الحمراء»، متنقلاً بين عدد من غرف الصرح الناصري التاريخي ،«قصر الحمراء في الأندلس».

وهذا ما تذكره لوحة معدنية معلقة على بوابة إحدى تلك الغرف. وربما كان هو من استهل كتابة الملاحظات في كتاب زواره. وبعد مرور 81 عاماً وقع ذلك الكتاب زائر شهير آخر، وهو الرسام الفرنسي هنري ماتيس. يستضيف قصر الحمراء في هذه الأيام معرضاً يعيد رسم ملامح الرحلة التي قام بها ماتيس إلى قصر الحمراء قبل قرن من الزمن. ويسلط الضوء على السحر الذي ولدته تلك الزيارة المؤثرة، التي انتهت متحولة إلى مفهوم تصويري جديد. بين نوفمبر 1910 ويناير 1911، سافر الرسام الفرنسي هنري ماتيس (1869-1954) إلى إسبانيا من دون هدف واضح.

وزار مدريد وإشبيلية وقرطبة وغرناطة وطليطلة وبرشلونة. ورسم في إسبانيا ثلاث لوحات، اثنتان منها تنتميان إلى الطبيعة الجامدة واللوحة الثالثة عبارة عن صورة، لكن وقع ما شاهده وتأمله هناك كان كبيراً وألهمه الكثير. فبصمات حرفيي الخشب أو الجص أو الحجر التي تزين التصميم الداخلي للقصر، تظهر بقوة في خلفيات أعماله. محتويات المعرض ديكورات وزينة القصور الناصرية تأتي في المقام الأول في مجموعة لوحات رسمها ماتيس تحت اسم «الجواري»، في حين يعتقد على نطاق واسع أن تلك الأعمال جاءت من منبع شمال إفريقي صرف بالنسبة لماتيس.

حيث يظهر معرض «ماتيس والحمراء 1910-2010» الذي افتتح، مؤخراً، أمام الجمهور في قصر كارلوس فينتينا في غرناطة بالتفصيل، طبيعة العلاقة الخلاقة التي جمعت بين ما هو مرسوم وما هو مرئي، بين ما أبدعه وبين ما شاهده بين جنبات القصر وفي محيطه.

مئة عمل، بينها 35 لوحة قادمة على سبيل الإعارة من متاحف ومن مجموعات هواة جمع أعمال فنية من جميع أنحاء العالم، تظهر أن ذلك التأثير كان حقيقياً وأهميته كبيرة في جزء مهم جداً من إنتاجه.

توقيع

ماريا ديل مار فيافرانكا، مديرة تراث الحمراء، والمؤرخ فرانسيسكو خارواتا هما مفوضا المعرض، وتوضح فيافرانكا أن فكرة المعرض ولدت عن طريق صدفة صرفة عام 1991، بينما كانت تراجع أحد كتب الزيارات في أرشيفات القصور الغرناطية.

وهناك اكتشفت توقيع الفنان ماتيس في منتصف صفحة من الصفحات الأخيرة للمجلد. وتتابع: «لم أكن أعرف أنه كان هنا، في قصر الحمراء، من هذه النقطة بالذات بدأ العمل البحثي».

هذا على حد تعبير المسؤولة عن هذه المؤسسة التي زارها العام الماضي ثلاثة ملايين شخص، علماً بأن ماتيس نفسه اعترف في مقابلة أجريت معه عام 1947 بأن الوحي أتاه من الشرق.

زيارة حاسمة

على ضوء ذلك، أصبح من الممكن الآن تخمين أن تلك الزيارة التي قام بها ماتيس إلى غرناطة كانت حاسمة في أعماله تماماً، كما يقرأ في الرسائل التي كان يرسلها إلى زوجته وإلى أصدقائه من الأندلس، والتي كان يتكلم فيها بفتنة عن الطريقة التي يتغلغل بها النور عبر الأروقة والنوافذ، أو عن فردوس الينابيع والنوافير والأشجار الذي يلف القصور، حيث لا تزال ماثلة هناك أشجار القسطل والدردار والحور والنخيل والسرو.

يتكلم في الرسائل كذلك عن إعجابه بالأشكال الهندسية الدائرية في رواق الرياحين والآس، ويصف كيف يفتتن متأملا الزخارف المرصعة بالنجوم المنقوشة بطريقة كأنها تدعو الناظر إلى ولوج ذلك الفردوس.

يصف أيضاً بعض الأحداث المثيرة للفضول، على غرار كيف تجمدت لحيته وأصبحت ثقيلة عندما مر بطليطلة وكانت درجة الحرارة حينها تصل إلى أقل من عشر درجات تحت الصفر، إلى درجة أن المشي بدا عسيراً جداً.

ويذكر خارواتا أن الفنان قام برحلته هذه في لحظة كان يمر فيها بأزمة شخصية وفنية في آن، وكان يسعى إلى نوع من التجديد الشكلي في ما يتعلق بما كان يفعله حتى تلك اللحظة.

فلقد كان عائدا للتو من زيارة قام بها لمعرض للفن الشرقي في ميونخ، لكن صالون خريف باريس كان قد رفض له عملين مستوحيين من عالم الموسيقى والرقص. وهنا فالمنافس الأكبر لبيكاسو يعيش حالة ركود إبداعي ويقرر تغيير الأجواء.

والمعرض الحالي ينطلق تحديدا بأعمال تنتمي إلى لحظة الريبة والشك والتجديد تلك. في لوحة» الجزائرية»، التي تعود إلى عام 1909، ثمة إعلان يشي بذلك التغيير، حيث الخطوط السوداء والمستديرة التي يرسم بها شكل المرأة والقماشات التي تزين الخلفية، كانت قد أعلنت تخليه عن الوحشية ووقوعه في سحر الزخارف الشرقية.

كما يعرض إلى جانب هذه اللوحة الزيتية المدهشة تلك الجرة الفخارية الناصرية الضخمة ذات الانعكاسات الذهبية، ولوحة لحصن من القرن السادس عشر، قادمة من متحف الحمراء والذي يظهر في العديد من أعمال ماتيس.

التأثير الغرناطي

لكن ربما كانت الأعمال التي رسمها للجواري هي التي تعكس، أكثر من غيرها، التأثير الغرناطي على الفنان الفرنسي، واللوحة الأولى في هذه المجموعة رسمها عام 1929، في لحظة كان جل ما يهمه فيها هو البحث في العري الأنثوي.

فالنساء شبه العاريات المتدثرات بأقمشة شفافة ومحاطات بأقمشة مظهرها خلاب، شكلن نجاحاً غير متوقع، فرسم أكثر من مئة لوحة لهن، الجزء الأكبر منها بطلب من هواة جمع أعمال فنانين أميركيين، وغالباً ما كان يستخدم النموذج نفسه، الراقصة هيرنتي داريكاريري، وهي امرأة فائقة الجمال يمكن أن يرى لها في المعرض الحالي العديد من الصور التي تعود إلى تلك الفترة.

كما يؤكد خارواتا أن الجمال المفرط لحمامات قصر الحمراء حاضر في الخلفيات التزيينية، التي يرسم عليها حريمه الجميلات، اللواتي يسكب فيهن عالماً بأكمله من الألوان الحارة، الحمراء والذهبية والمزرقة .

أعمال مطبوعة

يضم المعرض كذلك سلسلة من الأعمال المطبوعة على الحجر المستوحاة من مجموعة لوحات الجواري، التي أودعتها ابنة الفنان مارغريت في متحف فكتوريا وألبيرت في لندن.

وتعرض تلك الأعمال قبالة مجموعة مختارة من المنسوجات الإسلامية التي تعود إلى فترات تاريخية مختلفة كان الرسام قد خزنها بينما راح يعيد إنتاج تعبيراتها الزخرفية المرة تلو الأخرى. أما آخر هذه السلسلة فهو مكرس لأسلوب الكولاج الذي يعتمد على الورق، والذي أعاد ابتكاره الفنان بعد أن استبدل ضربات الفرشاة بالمقص.

جورج هيلفت، ابن أخ بول روسيمبيرغ، الذي كان مسوق أعمال ماتيس وصديقه الحميم، طوال عقود من الزمن، قال أثناء المعرض: «بيكاسو لم يعجب إلا بفنان معاصر واحد، وذلك الفنان لم يكن سوى ماتيس».

وفي كل مرة كان يزور فيها محترفه، كان يخرج مزعوجا للغاية، لكن على الرغم من ذلك كان يحترمه ويقدره. عندما كانت الأمور لا تسير على نحو جيد مع ماتيس، كان بيكاسو يساعده.

الاحترام كان متبادلا رغم أنهما شخصيتان حادتان للغاية، وبسؤاله عن ما إذا كان يعتقد أن ثقل زيارة غرناطة كان حاسما في أعماله إلى الدرجة التي يظهر عليها في هذا المعرض، أجاب هيلفت:» بلا شك، فزيارة عالم من الجمال كعالم قصر الحمراء، كان لها أهمية حاسمة في لوحاته، وألهمته عالما كاملا ظل يبهره طوال حياته».

باسل أبو حمدة

Email