الجسور .. جماليات معمارية وتواصل إنساني ومكان للرزق

الجسور .. جماليات معمارية وتواصل إنساني ومكان للرزق

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

الجسور حول العالم رمز لتواصل البشر من كل لون ومن أي مكان، ولأهميتها في حياة الشعوب والأمم برع في تصاميمها كبار المهندسين، ووراء كل تصميم فكرة ورمز وحكايات تُحكى. معاً نرويها، لأنها همزة الوصل والجمال في المعمار، أضواؤها ليلاً تداعب المدن وتنادي على كل بعيد ليقترب ويتواصل.

جسور القاهرة الكبرى واحدة من معالمها، أحد وجوهها المتعددة، وواحدة من العديد من تجليات هذه المدينة العاشقة للتواصل، وهي واحدة من أكثر مدن العالم ازدحاماً، اشتهرت به، ضاقت منه، ولكن أحبته مثل حبها للنيل والمزارع ورائحة الخبز، وخان الخليلي ونجيب محفوظ، والأهرامات، والحواري والأزقة في القاهرة الفاطمية، وقصور النخبة..إنها القاهرة، البعيد عنها قريب، بحفنة من الذكريات، ربما دخلت في مفرداتها الكباري والجسور رموز الحب والتواصل والمظاهرات السياسية وقت الاحتلال الإنجليزي. الكباري والجسور في مصر من الإنجازات المهمة في حياة المصريين، وزوّار المدينة المستيقظة حتى الصباح.

يصل عدد جسور القاهرة، في آخر إحصائية، إلى 68 جسراً، يربط كل منها بين ضفتي النيل من القاهرة والجيزة لتكون القاهرة الكبرى معاً على امتداد حوالي 60 كيلومتراً، وتربط الضفتين إحداهما بالأخرى عدة كباري، منها كوبري قصر النيل (1875) الذي يربط منطقة جاردن سيتي الراقية بالدقي، وكوبري الزمالك (1907)، وكوبري الجيزة (1908) وكوبري الجامعة (1957) وكوبري 26 يوليو والمعروف بكوبري أبوالعلا (1909) وكوبري الجلاء (1911)، والعديد والعديد من الكباري والجسور التي تربط القاهرة بعضها ببعض.

حكايات ولكل جسر من هذه الجسور وغيرها حكايات وأحداث غيّرت الشكل السياسي والاجتماعي على مدار السنين، فنجد أن كوبري عباس من أشهر الجسور المصرية، فهو شريان يربط بين القاهرة والجيزة، مكان منه نستشعر نبض الشاعر المصري في كل الاتجاهات، يعجّ بالحياة والحب. والرفض معاً، فهو المكان الذي شهد نضال الشعب المصري ضد الاحتلال الإنجليزي، شهد مظاهرات الطلبة الوطنيين وعشاق الاستقلال والحرية.

شُيِّد الكوبري في عهد الخديوي عباس حلمي الثاني، الذي يحمل الكوبري اسمه، وتم افتتاحه في العام 1908 ليربط بين منطقتي الجيزة والمنيل، وسيظل هذا الكوبري رمزاً للصمود الوطني المصري، ويذكِّرنا دائماً بمدى تأثير الحركة الطلابية الوطنية التي خرجت من الحرم الجامعي تهتف ضد الاستعمار وأعوانه.

وكان من أبرز المتظاهرين على كوبري عباس في احتجاج سياسي عارم المناضل السياسي إبراهيم شكري، الذي أطلق عليه «الشهيد الحي» لأنه أطلق عليه النار من قِبل الإنجليز واعتبره زملاؤه قد استشهد، ولكنه ظل حياً يناضل ومن هنا جاء اسم «الشهيد الحي».

ويتسم كل جسر في القاهرة بطابع معماري متفرِّد، لأن معظمها شيد في زمن الخديوي عباس، الذي اهتم بالعمران وأرسل البعثات لأوروبا وخاصة إيطاليا وإنجلترا فعادوا لينفذوا أجمل مفردات المعمار الخاص بالكباري، وربما من أجملها كوبري قصر النيل، الذي يربط جاردن سيتي بمنطقة الدقي، يعكس رفاهية المكان، على بداية الكوبري أسدان من البرونز وينتهي الكوبري بمثليهما، وعلى امتداد الكوبري فوانيس على الطراز الإيطالي تداعب نجوم الليل وقمره.

وتنعكس على صفحة النيل نوراً وجمالاً، فندق سميراميس الكلاسيكي ذو الشرفة الواسعة التي شهدت حفلات على أنغام التانجو والفالس، تطل على كوبري قصر النيل العريق الذي شهد مئات ومئات من احتفالات الزفاف لعروسين في سيارات مكشوفة فارهة، لتصل بهما إلى فندقي النيل هيلتون وسميراميس وشبرد، لإقامة الأفراح والليالي الملاح.

بُعد آخر يشهده جسر الجامعة وهو رومانسية طلاب الجامعة الذين يتصورون أن «بالحب وحده يحيا الإنسان»، كل منهم تمنى أن يمتلك شقة فخمة تطل على النيل، وغالباً ستظل نهاية الحلم مفتوحة على طريقة «الأوبن إند» في الفن.

وللأعياد والمناسبات الحلوة مع الكباري ذكريات لا تُنسى، ففي الأعياد يتنزه الناس على الكباري خاصة الذين ينتمون للطبقة البسيطة من الشعب، يلتقطون الصور ويتناولون المشروبات الغازية والترمس واللب والمقرمشات وكأنهم يمتلكون كل الدنيا، فالحب والتواصل معهما تسقط الطبقية.

والجسور في القاهرة مكان للرزق أيضاً، عليها يفترش بائع الذرة المشوية مساحة من الرصيف وينادي على الذرة المشوية «الحمام المشوي»، فيتجمع حوله الناس، بائع السميط والجبنة والبيض يتجول ومعه سلته الضخمة، وهذه الوجبة هي الوجبة الشعبية المحببة لدى المصريين في متنزهاتهم فوق الكباري، ونجد الصغار يصنعون حلقات خبز السميط المفتوحة من الوسط في معصمهم، وتبدأ المشاغبات ولا تنتهي إلا عند بائع «الآيس كريم».

نابضة بمفردات الحياة

وربما نجد أن الجسور طرق المتناقضات، تشهد طبقات قانعة بالذرة المشوي، والأخرى تُزف في سيارات فارهة لليلة زفاف تتحاكى عنها القاهرة صباح اليوم التالي، فمثلاً جسر« كوبري أبوالعلا » يصل بين عالمين مختلفين، عالم ساكني الزمالك، الحي الارستقراطي المطل على نادي الجزيرة من خلال فيلاته وقصوره، وحي بولاق أبوالعلا بناسه البسطاء وعماله الكادحين. وللجسور قصص أخرى، ولكنها مأساوية، تشهد الجسور العديد من حالات الانتحار، يأساً من الحياة والفقر والبطالة أو فشل قصص حب دامت لسنوات، وهنا قد يتحول الجسر من مكان للتواصل إلى شاهد على الموت، تماماً مثلما يصبح مكاناً للحياة مع بداية قصص الحب البريئة فوقه.

وللفن مشاهد مع الجسور، فقد شهد كوبري أبوالعلا مشهد انتحار سناء جميل في كلاسيكية نجيب محفوظ «بداية ونهاية» عندما وقعت في الخطيئة، ودخلت في منطقة العار مع أخيها ضابط الجيش الذي لعب دوره «عمر الشريف» الذي بدوره قفز من فوق الكوبري لينهي قصة عار تهدد منصبه.

«نزوة»، فيلم للمثل الراحل أحمد زكي ويسرا وإخراج علي بدرخان، عندما عزمت يسرا المريضة نفسياً في أحداث الفيلم والعاشقة لأحمد زكي المتزوج وله ابنة، على اختطاف الابنة. وفي إطار موسيقى تصويرية موحية كانت ستلقي بالصغيرة في النيل من فوق كوبري قصر النيل انتقاماً من أحمد زكي، الذي هددها إذا لم تبتعد عنه.

هناك أيضاً فيلم «اضحك الصورة تطلع حلوة» أيضاً للممثل أحمد زكي وليلى علوي، والذي كان يعمل مصوراً فوتوغرافياً فوق كوبري الجامعة.

«مرجان أحمد مرجان» فيلم لعادل إمام وميرفت أمين، شهد كوبري الجامعة موكب زفافهما على أنغام أغنية «مرجان بيحب جيهان».

إذا كان المعمار صدمة حضارية وجمالية يشهدها العالم في شكل ناطحات سحاب ومبانٍ غريبة التصميم الهندسي، فأيضاً للكباري والجسور غرائبها على امتداد العالم، ففي ولاية تكساس بالولايات المتحدة جسر مميزة يُعرف باسم «جسر المشاة» اهتم المصممون بأن يكون على شكل المعمار القديم للجسور، فهو مبهر لأنه قديم وسط نهضة معمارية لا تعرف الحدود، فهي إلى السماء طالعة بناطحاتها السحابية، وجسورها المعلقة.

«جسر الأقواس الثلاثة» يقع في مدينة برازيليا في البرازيل، وهو على شكل أقواس ثلاثة متدرجة، تعكس شكلاً جمالياً وغرائبياً، حصل مصممه «دون الفريد» على أرفع الجوائز في عالم هندسة الجسور والكباري.

أغرب الجسور

ولأن الصين بلد السحر والجمال والعبقرية، يقع في مدينة بكين العاصمة واحد من أغرب جسور العالم، وهو جسر خاص بالقطارات، يُعرف باسم «جويزهو»، تصميمه يوحي بالرعب لأنه بُني بين جبلين بينهما وادٍ عميق، ارتفاع الجسر يصل إلى 915 قدماً ويربط بين أحد أكثر المناطق فقراً في الصين وبين مناطق النخبة.

في سيؤول بكوريا، يقع جسر «بانبو» على نهر «هان»، عندما يمر السائقون عليه يمكنهم الاستمتاع بعرض مائي يصب في طرفي الجسر وكأنهم يمرون في بركة من الماء تفتح المياه من جوانب الجسر كنافورة ماء تتناغم المياه مع مئة لحن موسيقي مختلف. والنافورة تحتوي على عشرة آلاف فوهة على جهتي الجسر وتضخ معدل 190 طناً من الماء بالدقيقة الواحدة تستخرجها من مياه نهر «هان».

ومدينة النور والجمال، باريس، تتميز بوجود واحد من أشهر جسور العالم وهو جسر «ميلاو» الذي قام الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك بتدشينه، وهو أطول جسر طرقي في العالم، وهو جسر معلّق على ارتفاع 270 متراً، يمتد بين باريس إلى 2460 خط طرق فولاذية التكوين يقع فوق وادي «تاران» الموجود ضمن سلسلة جبال «ماسيف» قامت شركة إيفل بإنشاء هذا الجسر بإشراف المهندس نورمان فوستر.

والجسور والكباري مصدر إلهام الفنانين والرسامين، يجلسون حولها لرسم لوحات تشكيلية رائعة، أيضاً كانت إلهاماً للمبدعين والمفكرين فجاؤوا بأرقى الأعمال الأدبية، وهي أيضاً متنفس للمغتربين والمهاجرين في البعيد، تختلط أضواؤها بدموع الحنين للأوطان والأهل والأحبة والصحبة الحلوة.

فالتواصل بين البشر يكون من خلال القلب والوجدان وحفنة ذكريات، وأيضاً تكون الجسور والكباري رموزاً عملية للتواصل، الذي سيظل سمة من سمات الإنسانية، فبدونه لا يحيا الإنسان، عليه أن ينتظر النهاية ليتلقى الحساب، فبيننا العديد من الأحياء هم في واقع الأمر أموات يهيمون هنا وهناك في صمت وقطع الوصال، لعلهم يتواصلون، ففي التواصل حياة...

منى مدكور

Email