حياة

البطاقات البريدية تراث يحفظه الورق

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

تطير في كل الدنيا، لتملأ العالم كله بالتواصل الإنساني بين كل البشر، وفي كل المناسبات هي مرسال حب، ومشاعر ود جميل وفرح تختزل المسافات، لا توقفها حدود ولابحار، عابرة المحيطات داخل مظاريف بلون الطيف وكلمات كنغم ناعسي ينطلق من أوتار الكمان، تهتز له القلوب وتستيقظ مشاعر ربما انزوت في اللاشعور.

البطاقات البريدية المعروفة عالمياً باسم « بوستالكارت»، ليست مجرد كروت تحمل صورا ومناظر طبيعية يتسع لها الخيال، أو ملمحا لمبان تاريخية، بل هي منظومة ثقافية وحضارية من خلالها يمكن رصد التسلسل الحضاري والمعماري والتاريخي لشعوب العالم.هي أيضاً شاهدة على العصور، تحكيها وتسجل أحداثها في صورة تطل من مظروف رقيق وكأن سجل تاريخ سُطر باللون والكلمة والمشهد، هي حكاية تُحكي ولوحة صغيرة لابد من الوقوف أمامها.. معاً نحكي عنها، ونقرأ تاريخها، وجمالياتها.على ورق البردي كانت بدايتها، بداية البطاقات البريدية «الكارت بوستال»، طلب لأول مرة في تاريخ العالم من الحضارة الفرعونية، ضفاف النيل ومراكب الزهور ومواكب الفراعنة والكهنة، والمسلسلات والأهرامات.

وأبو الهول شاهد صامت على تاريخ مصر منذ فجر البشرية، كل هذه الظواهر وغيرها، نقش على ورق البردي أول ورق يعرفه تاريخ الإنسانية على الإطلا. فكان الفراعنة يرسمون عليها ويسجلون كل دقائق حضارتهم يزركشونها ويكتبون عليها معاني الحب والتهنئة بالأعياد والدعاء بالأرزاق والحمد على نعمة الحياة وشريانها الذي يشق مصر بكل الحب والعطاء، نهر النيل الخالد.نجوى عبدالحميد الباحثة في علم «الإنثربولوجي»، علم الاجتماع الذي يبحث ويسجل حضارات الشعوب ومجتمعات البشر، توضح الباحثة ان أول بطاقة بريدية « بوستال كارت» وجدت على ضفاف النهر فوق حجر البازلت الملون مهداة من أحد الكهنة لنهر النيل الذي وهب الحياة لمصر منذ عهد الفراعنة وحتى اليوم، شاهد على العصور، صامت في كبرياء. باق في خشوع،.

ثم تطورت البطاقات البريدية الفرعونية كما تقول نجوى عبدالحميد لتأخذ شكل تبادل التهاني بين الأسر الفرعونية المختلفة في عيد الحصاد وفيض النيل، وكانت البطاقات الفرعونية تختم بكلمات الدعاء يتمنى السلام في الحياة الأبدية بعد الموت والفراق.تطورت، وتطور استخدامها مع الفتوحات الإسلامية للبلدان العربية، وأصبحت تتبادل بين الأمراء والسلاطين وسميت في هذه المرحلة التاريخية والحضارية «بالقراطيس» لأنها تطوي كالقرطاس الذي عندما يفتح تطل منه جماليات الرسم وعبارات التمني والتهاني.ولأن البطاقات البريدية «بوستال كارت»، شكل وصورة وكلمات، فكان تطورها سريعاً على مستوى العالم كله، فقد قام كبار الفنانين في أوروبا مثل الفنان الانجليزي «جون هورسلي» في العام 1846 صمم بطاقات بريدية ترصد جماليات وسحر الشرق الذي كان متيماً به عندما يوفد من قبل حكومته لمصر وسوريا والعراق، جماليات الشرق وسحره دخلت وجدان ولم تخرج مثلما عبر هو الفنان البريطاني لحكومته وقتذاك.

نقلة نوعية في حكاية تطور البطاقات البريدية «الكارت بوستال»، شهدها منتصف القرن التاسع عشر مع بداية ظهور فن التصوير الفوتوغرافي في أوروبا الذي رصد جماليات البلاد خاصة في وسط أوروبا، وقد تطور هذا الاهتمام ونما، الاهتمام بالتصوير الفوتوغرافي، مع انتعاش الحركة السياحية في العالم التي رصدتها عيون الكاميرات، مع التركيز على جماليات وسحر الشرق في مصر ودمشق وبلاد ما وراء النهرين هي بلاد تخرج وتطل من لوحة عريقة تحكي حضارتها الريشة والتعلم.

ففي العام 1862، عينت الملكة فيكتوريا، المصور الشهير «دي فرانسيس برفورد» ليلتقط اللحظات التاريخية والأحداث الهامة بعيون عدسات الكاميرات في رحلة أمير ويلز إلى مصر وسوريا وقتذاك، والتقط «بدفورد» خلال هذه الجولة 210 صورة «كارت بوستال».

وللرحالة الألماني روبرت حليوم دور كبير في تطوير شكل ومحتوى البطاقات البريدية «الكارت بوستال»، لأنه كان من عشاق التصوير والترحال، وهما عنصران عن طريقهما كانت بداية تطور الكارت بوستال، فكان يرسل لزوجته «فراو هيلين روبر» بطاقات حب واشتياق من كل بلد وطأت عليها قدماه، وكان بداية ذلك في العام 1896 الذي خلد رحلة امبراطور النمسا بالصورة والتعليق إلى مصر والشام.

وبدأت البطاقات البريدية «الكارت بوستال» تشق طريقها للأسواق وأصبح لها موزعون ودور نشر في وسط أوروبا، وكان الشرق بكل جمالياته وغموضه وترحاب بالزائرين استحوذ على معظم مناظر ومشاهد البطاقات البريدية وقتذاك عن طريق كبار المصورين الذين رحلوا لبلاد الشرق.

وللبطاقات البريدية في رأي الفنان والمصور البريطاني «توم فيليبس» الذي قام بجمع ونشر صور ألف بطاقة بريدية مسلسلة تاريخياً اعتباراً من سنة 1900 وحتى سنة 1999 في كتاب له بعنوان «قرن البطاقات البريدية»، ـ رأي المصور ـ ان العامل الرئيسي المتحكم في سوق البطاقات البريدية هو قوة شعور الحنين إلى الماضي.. إلى الذكريات لدى المشترين، حيث أطلق على فترة السبعينات من القرن الماضي، العصر الذهبي للحنين للماضي الجميل.وربما من هنا بدأت تأخذ البطاقات البريدية البعد الثقافي في حياة الإنسان والشعوب.

ويرى «فيليبس» كذلك بأن أول ما يلفت النظر لدى المشتري في البطاقات البريدية «الكارت بوستال» أبراز ملمح قديم عتيق هو بمثابة التاريخ الذي يحرك مشاعر الإنسان فالماضي بالنسبة لأي إنسان هو الزمن الجميل.

تجديد

ومع تطور التصوير الفوتوغرافي خلال القرن الماضي ـ العشرين ـ بدأ المصورون يتعاملون مع بعض اللوحات الصغيرة «الكارت بوستال» بالتنقيح وإضافة رتوش وإبراز ألوان مثل ألون القرميدي الداكن الذي يضفي على الكارت بوستال توهجاً خاصاً، وبدأ الكارت بوستال ينتشر في الأسواق منذ بداية الأربعينات من القرن الماضي بعد انتشار المطابع وتطور التصوير والفكر الإنساني بصفة خاصة.

والآثار حول العالم كانت مادة خصبة لكروت البوستال، يرسلها المسافرون من ميناء لآخر للأهل في البلاد، بها كلمات حب واشتياق وطمأنينة، ووصف المكان، ووصف مكونات النفس خاصة إذا طال البعد.

وقد تأثر الفنان المصور الكويتي «جعفر إصلاح» بكل ما يدور في قاهرة المعز قديماً وحديثاً، فالقاهرة بالنسبة له كانت المحتوى والذكريات وتوثيقا لتاريخ شعبها بكل عاداته وتقاليده.. بكل هذا العشق جمع الفنان الكويتي جعفر إصلاح صور هي مادة خصبة لبطاقات بريدية أرخت لشعب عريق جمعها في ألبومه الأخير «روح مصر» بعد أن قدم ألبومي صور باسم «الأطفال» و«الدراجة».

وتعتبر ألبوماته هذه مقتنيات نادرة، تأخر صدورها نحو ست سنوات بعد طباعتها، ثم صدرت ضمن ملحق كتاب الشهر الذي كانت تصدره مجلة «نصف الدنيا» القاهرة التي ترأست تحريرها الكاتبة والفنانة التشكيلية سناء البيسي، وهي التي اهتمت بإعادة احياء تاريخ مصر على مر العصور في شكل البومات مصورة.

وألبوم «روح مصر» لجعفر إصلاح يعكس القاهرة الخديوية وصور لملكي مصر الملك فاروق والملك فؤاد وقسم خاص لرحالات السياسة والصحافة والأدب، وقسم آخر في ألبوم يعكس تاريخ السينما المصرية في مئة عام والمسرح وأهل الفن والمغنى، أم كلثوم، وحكايات ليلى مراد، وحفلات حليم وفريد وأسمهان وسيد مكاوي وسلامة حجازي، واختتم اصلاح البومه «روح مصر» بفصول عن الفن التشكيلي ورواده والنهضة السياحية، وطوابع البريد التي بدورها تؤرخ لمصر.

دمشق والقاهرة

ويلجأ التشكيليون إلى المادة المصورة الخصبة لإثراء الفن وخاصة فن الكارت بوستال الذي أصبح صناعة كبرى في مصر ودمشق وشمال إفريقيا، وجميعها بلاد وعواصم توحي بتاريخ عريق يطير في كل الدنيا فوق بطاقة بريدية وكأن الباعث بها تقول «أنا في دمشق» بلاد الحضارة وجماليات المساجد والأسواق التراثية، وآخر يرسل كلمات حب لأهله من الدار البيضاء وكازابلانكا وسوسة بتونس والمغرب..

وماذا عن خان الخليلي، قلب مصر وتاريخها العريق، مكان شهد مولد العالمي نجيب محفوظ، والعديد من الأدباء أمثال جمال الغيطاني الذي يهيم حبا للمكان وأهله والذي لخصه في أفلامه التسجيلية «تجليات مصرية»، مفردات جميعها رُصدت على البطاقات البريدية التي تطير إلى العواصم في العالم كله، فيقع مشتريها في حب المكان..

النحاسين والصياغ وصناع الجلود ونُقاش الفضة، وباعه العرقسوس، والسياح الذين يتكلمون المصرية بلكنة أجنبية وكأنهم وقعوا في عشق مصر، عشق التاريخ والنيل وهيبة الأهرامات وغموض الفراعنة، كل ذلك ينعكس في كارت بوستال، يحكي بالصورة والتعليق قصة حضارة.

مليارات البطاقات البريدية المطبوعة بأجمل المشاهد في العالم يتبادلها سكان الكرة الأرضية سنوياً تزن الأطنان، من لغة الحب والعشق والجمال والتمنيات والتبريكات، جميعها يشكل يوم عمال البريد لفرزها وارسالها في أساطيل الطيران عابرة القارات والمحيطات والبلدان، وقلما تخلو مكتبة في العالم في الشوارع والطرقات والحارات والميادين ومداخل الفنادق والبازارات جميعها تبيع بطاقات بريدية هي منظومة تاريخية وثقافية للعالم كله، تلبي كل الأذواق والاهتمامات والرغبات.

صامدة هي أمام طفرة التحديث ورسائل الانترنت والمحمول بالصوت والصورة، ولكن دائما البقاء للأعرق «ومن لا تاريخ له.. لا جديد لديه»، هكذا قال أجدادنا وقت الزمن الجميل زمن المشربيات وأوتار العود ورائحة البخور، زمن يقدر الجمال والحب، فيه يحترم الإنسان إنسانية الآخر، على ورق مقوى به منظر لافت يرسل الناس لبعضهم البعض كلمة، همسة حب.

وتمنيات لقاء، بكل هذا الشموخ لابد أن يكون الحضور للأعراق، فمازالت كروت البوستال تعبر القارات داخل مظروف بلون الطين، واخرى تصدر موسيقى أو صوت دونالد داك وميكي ومني وكأنها أساطير في عالم الطفولة الذي ينتظر كارت بوستال طفولي وجميل من قريب أو صديق في البعيد، ولكفة آت لا محال، في نهاية الترحال والغربة محطة عودة أكيدة نلمهم اشتياق السنين ونهديه لست الحبايب والأهل والجيران فالعود دائماً أحمدُ.

دبي..الحلم والواقع معاً

دبي.. لوحة لماضي تطلع للتحديث، فخرجت دبي تلقى العالم كله في رحابها، معالمها القديمة والحديثة على بطاقات بريدية «كارت بوستال» من المطارات العملاقة والفنادق والأبراج، وسباقات الراليات على رمال صحرائها، جماليات لأزيائها التراثية، ومراكب الغوص، ومراكز تسوق تلوح لسياح العالم، فيلبون ويحفرون، يفتنون بكل ما حولهم، ويعودون لبلادهم حاملين كروت بوستال وذكريات المكان تحوم من حولهم، فقط لأنها دبي، الحلم والواقع معاً.

منى مدكور

Email