فنون

العازف غزوان الزركلي : الموسيقى هذبت نفسي

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

الموسيقى غذاء للنفس وترنيمة للروح، لكونها تعبر عن مشاعر الإنسان وحالاته النفسية، إلى جانب مساعدته في استعادة سكينته وصفاء فكره. والموسيقى التي تصف بنغماتها أحوال الناس والأمكنة والحياة والطبيعة والكائنات الأخرى بلغة واحدة، تنساب ألحانها من الآلات الموسيقية التي اخترعها الإنسان على مر العصور.

من أبرز الآلات الموسيقية التي ابتكرها الإنسان في الغرب آلة البيانو، التي يتطلب إجادة العزف عليها ما بين ست إلى عشر سنوات من الدراسة والتدريب، أما كي يصبح العازف فناناً مبدعاً ومتميزاً فهذا أمر يتطلب الكثير من الجهد والثقافة والإرادة.ولمعرفة المزيد عن عالم آلة البيانو التي استخدمها مشاهير الموسيقى في تأليف المقطوعات الموسيقية أمثال موتسارت وبيتهوفن وشوبان ورحمانينوف، وما يحتاجه عازف البيانو ليصل إلى التألق والعالمية، التقت (مسارات) بالموسيقار السوري الدكتور غزوان الزركلي الذي استطاع الوصول إلى العالمية والتغلب على العديد من الصعوبات والتحديات.

والزركلي من الشخصيات المؤثرة في الحركة الموسيقية بسوريا، سواء على صعيد العزف والتدريس أو التأليف (قصائد وموسيقى تصويرية)، إضافة إلى الكتابة والترجمة. وحاز خلال أربعين عاماً على العديد من الجوائز الموسيقية من بلدان الغرب كروسيا وإسبانيا وإيطاليا والبرتغال، والشرق كالجزائر ولبنان وسوريا.

مقومات الإبداع

قال الزركلي، (في البداية يحتاج الموسيقي إلى العديد من المقومات ليصبح مبدعاً، فالموهبة وحدها لا تكفي. وفي حالتي، تهيأت لي في طفولتي التربة الملائمة، إذ كان العود أو القانون في الماضي جزءاً أساسيا من البيت الشامي.

وكانت ثقافة الموسيقى في العشرينيات وحتى والأربعينيات نسائية، وتبرز في الاستقبالات الدورية التي كانت تقام بين النساء، والتي كان العزف والغناء والرقص من أهم أركانها.

«حبي للموسيقى استقيته من عوالم والدتي، ومن والدي أيضاً الذي كان يعادلها في حبه للعود الذي شكل جزءاً كبيراً من طفولته. فقد عاش والدي يتيماً في كنف عمه الذي كان أسوة بجيله يعتبر الموسيقى لهواً وعبثاً. وروى لي أنه في أحد الأيام ضبطه عمه وهو يعزف في غرفته بعود والده الأثير إلى نفسه، وما إن حاول العم الغاضب ضربه لتحطيم العود، حتى حماه الوالد بجسمه».

وقال حول البيئة الخارجية، «في الأربعينيات وخلال فترة النضال ضد الاحتلال الفرنسي، كان عدد نوادي الموسيقى في دمشق يفوق ما هي عليه اليوم، وكان معظم مرتاديها من طلبة المدارس ومن فئات دون غيرها.

وخلال فترة الوحدة بين سوريا ومصر عام 1985، شهدت الثقافة نهضة وحراكاً قوياً، كان من أبرز نتائجه تأسيس وزارة الثقافة عام 1960، والتي أصدرت بدورها قراراً بإنشاء المعهد العربي للموسيقى عام 1961. وفي المعهد درست البيانو منذ كان عمري سبع سنوات، وهي مرحلة عمرية متأخرة نسبياً مقارنة بالغرب».

الخلية الأوسع

«خلال مرحلة دراستي استمع أحد الخبراء السوفييت لعزفي على البيانو، وأوصى بتقديم منحة لي لمتابعة دراستي الموسيقية في موسكو. عارضت أسرتي الفكرة، خاصة وأني كنت في الخامسة عشر من عمري.

وبعد حصولي على شهادة الثانوية وتسجيلي في فرع هندسة مدني، وصلتني منحة من جمعية الصداقة بين سورية وألمانيا الديمقراطية التي كنت عضواً فيها منذ سنوات»، قال الزركلي عن المرحلة الأولى من دراسته الموسيقية.

ولدى سؤاله عن مدى انتشار الموسيقى الكلاسيكية في تلك الحقبة قال، «كان التناقض كبيرا بين مؤسسة الموسيقى الصغيرة والمجتمع الذي كان انتشار الموسيقى الكلاسيكية فيها محدوداً. وبالتالي كان ينظر إلى من يدرسون الموسيقى، باستهجان وأحياناً بتهكم خاصة في المدرسة».

وتابع، (بالطبع واجهت معارضة شديدة من الأسرة، خاصة من الوالدة التي كانت تنظر ببعد بصيرتها إلى صعوبات المستقبل التي كنت سأواجهها، وكانت محقة في ذلك، إذ لم يكن مجال الموسيقى في عالمنا العربي كما هو عليه الآن.

تحدث بعد ذلك عن مرحلة انتقاله إلى أوروبا ووصفها بقوله، (كانت البداية صعبة جداً سواء على صعيد الانتقال إلى مجتمع منظم وقاس أو على صعيد الدراسة، خاصة وأن المنهج المتبع في ألمانيا الديمقراطية متقدم بكل المقاييس.

ومع ذلك استطعت استيعاب الصدمة الحضارية والتقدم بدراستي. كان الضغط على الطلبة شديداً، وحينما أصبت بوعكة صحية نتيجة التهاب أعصاب شديد في يدي اليمنى منعني من العزف لعدة أشهر، فكرت بالانتحار أسوة بالعديد من الطلبة. كثيرون هم من انسحبوا منذ البداية خاصة من البلدان العربية. وكان التركيز الأكبر في المنهاج الألماني على الجانب النظري فيما يتعلق بتاريخ الموسيقى والنظريات والدراسات).

في الوطن تابع بعد ذلك الحديث عن مرحلة الدراسة التي تلتها في موسكو وقال، (عدت إلى سوريا بعد ذلك ودرّست البيانو في المعهد العربي للموسيقى بدمشق، حصلت بعدها على منحة من موسكو.

وهناك كان التحدي الأكبر، خاصة وأني التحقت بأكبر وأهم معهد فيها وهو معهد (تشايكوفسكي) الذي يضم نخبة أساتذة الموسيقى، وكان يقصده الطلبة من مختلف بلدان العالم. كانت المنافسة شديدة، والضغط عاليا جداً. خاصة وأن قدرات العزف لا تقاس بمن هو محاط بهم بل بنتائج أكبر العازفين. وبالطبع كان طموح الجميع عاليا جداً ويتمثل ببلوغ مرتبة الرواد).

بعد دراسته خمس سنوات في ألمانيا وأربع في روسيا عاد إلى سوريا مرة أخرى وقال، (بعد عودتي من موسكو عملت في المعهد العربي للموسيقى وواجهت صراعاً من نوع جديد، تمثل بما يسمى (عداوة الكار)، خاصة وأن الوسط الفني يتميز عموماً بالفردية القوية والنجومية والمرتبطة غالباً بحب الظهور.

وللأسف لم تكن المنافسة خلال تلك الفترة تصب في الصالح العام. وفي عام 1985 طلبت استيداع وسافرت إلى ألمانيا الديمقراطية للتدريس فيها ثلاث سنوات، وبقيت في سوريا فترة مماثلة، لأغيب مجدداً لمدة 10 سنوات.

(عدت مجدداً للوطن لأبقى مدة 10 أشهر فقط، كنت خلالها أستاذاً ونائباً لعميد المعهد العالي للموسيقى. وكان على نتيجة ضغوط المنافسة السفر مرة أخرى، وهذه المرة إلى القاهرة للتدريس في كونسرفتوار الأوبرا بصفتي خبير وبقيت هناك من 2003 إلى 2005. رجعت بعدها إلى دمشق، ولم تعد لدي الرغبة في الاغتراب مجدداً).

شخصية عازف البيانو

قال الزركلي في إطار السمات العامة التي يتميز بها عازفو البيانو عن أقرانهم في عالم الموسيقى، (ما يميزهم هو سعة الأفق والثقافة إلى جانب حرفية أعلى في الأداء. ودراستهم تؤهلهم للعمل بمفردهم ومع الأوركسترا وعن أسباب توقف العديد ممن تعلموا العزف بعد بضع سنوات قال، (السبب الرئيس في ذلك يعود إلى عيب في الأستاذ، التوقف يعني فشله كمدرس.

فعلى الأستاذ أن يزرع في نفس الطفل حب الموسيقى وهذه الآلة قبل كل شيء، سواء كان الهدف من التعلم الوصول إلى ذائقة سليمة أو الاحتراف، فالموسيقى متعة روحية قبل كل شيء).

مهارات

أوضح الزركلي فيما يخص مهارات عازف البيانو قائلاً، (لا تكفي كثافة التدريب ليصبح العازف ماهرا، حيث تعتمد المهارات بالدرجة الأولى على مفاتيح أساسية، ومن يمتلك هذه المفاتيح الأستاذ الجيد الذي يدرك ما ينقص المتدرب. بالطبع البداية المبكرة تساعد كثيراً في هذا الجانب.

ففي موسكو يسخرون رواد البيانو لتدريس الأطفال من مرحلة الروضة وفق مناهج خاصة أعدها الرواد).

في الزمن الراهن

قال الزركلي في إطار حال الموسيقى في زمننا الراهن، (النشاط الموسيقي أوسع الآن من ناحية الكم لكن مستواه غير جيد. والسؤال الذي يطرح نفسه هل الكم يبني ثقافة؟ بالتأكيد لا.. فالعمل السيئ يقتل ذائقة الجمهور، ويكسر الوهم في الفن الذي يفترض أن يضيف للحياة ويغير السلوك).

انتقل بعد ذلك للتحدث عن المنافسة غير الشريفة في هذا الإطار وقال، (ما زالت قواعد الاحتراف الموسيقي حتى يومنا هذا واهية جداً، وبالتالي فإن إلغاء الآخرين من المبدعين سهل جداً. ومع ذلك يبقى الفن الأصيل مضيئاً، خاصة وأن شعوب بلاد الشام محبة للمعرفة بصورة عامة.

وفي إطار الموسيقى الكلاسيكية فإن حضورها في بلادنا قديم، ويرجع إلى تاريخ اتصالنا بالحضارات الأوروبية، كما هو الأمر مع المسرح والسينما).

تطلعات المستقبل

في الختام قال عن أحلامه، (على الصعيد الشخصي، موسيقى حتى الموت. وعلى صعيد البلد، أتمنى أن يزيد عدد المعاهد والمراكز الموسيقية مع اهتمام أكبر من محافظات المدن، ففي حلب وحدها كان فيما مضى ما يقارب من63 معهداً للموسيقى، وفي يومنا هذا لا يوجد سوى معهدين! وهذا الأمر ينسحب على كافة البلدان العربية التي تتميز بأصالة الموسيقى الشرقية.

كما أبدي إعجابي في هذا الإطار بتجربة أبوظبي الجادة ومهرجان الموسيقى الكلاسيكية الذي تنظمه والذي يستمر على مدى العام، إضافة إلى المستوى العالي للفرق الذي تشارك فيه).

غزوان الزركلي في سطور

* ولد في دمشق عام 1954.

* درس الموسيقى الكلاسيكية في برلين وموسكو.

* حصل على الدكتوراه في أهلية التعليم من موسكو عام 1981.

* أصبح أستاذاً (بروفيسور) في فايمار بألمانيا عام 1988.

* مثّل بلده سورية في 26 بلداً.

* يحمل الجنسية الألمانية، وهو عضو تحكيم دولي (الإمارات، والمغرب، وقبرص، وروسيا).

* حاز على العديد من الجوائز الموسيقية من الغرب والشرق.

* ترجم العديد من الكتب الموسيقية إلى اللغة العربية.

**أصدر عام 2010 قرصين مدمجين، أحدهما من إبداعات (شوبان) والآخر من (مؤلفاته الموسيقية).

رشا المالح

Email