لا تنم فهنا توجد أفاعٍ الحياة واللغة في غابات الأمازون

لا تنم فهنا توجد أفاعٍ الحياة واللغة في غابات الأمازون

ت + ت - الحجم الطبيعي

في سنوات السبعينات من القرن الماضي ذهب عالم اللسانيات الأميركي دانييل ايفريت برفقة زوجته وأطفاله إلى غابات الأمازون في البرازيل. كان هدفه المحدد هو اكتشاف عالم قبيلة «بيراها» التي تعدّ عدة مئات فقط من البشر.

وبعد ما يزيد على ثلاثين سنة من تلك التجربة يقدّم المؤلف حصيلتها في كتاب جرى نشره للمرة الأولى في نهاية عام 2008 ثم عرف طبعته الثانية «المنقّحة» في العام التالي وجرت ترجمته إلى عدة لغات عالمية. وعنوان الكتاب هو: «لا تنم فهنا توجد أفاعٍ» كعنوان رئيسي وموضوعه هو بالتحديد «الحياة واللغة في غابات الأمازون»، كما يقول عنوانه الفرعي.

لقد أمضى دانييل ايفريت ما يزيد على سبع سنوات في غابات الأمازون. وكانت التجربة عميقة إلى درجة أنها أحدثت تحوّلاً عميقاً في مسيرة حياته، وكذلك في مفاهيمه الجوهرية. ولا يتردد في القول أنه وصل إلى مقصده الجغرافي حيث تقيم قبيلة «بيراها» التي لا تزال تعيش على «الصيد والقطف» مثلما كان الأمر قبل تكوّن المجتمعات الحديثة، بذهنية المبشّر المسيحي.

لكنه اكتشف أن البشر المعنيين هم من البدائية والسعادة بالوقت نفسه بحيث أنه اعتقد بعدم حاجتهم إلى الحداثة أبداً وهم الذين يصفهم أنهم «آخر ممثلي ثقافة الصيد والقطف في البرازيل الحالية».

ويحدد المؤلف القول أن المغامرة الحقيقية للعيش وسط غابات الأمازون ليست في مواجهة الأخطار اليومية، وهي كثيرة، ف«الأفاعي في كل مكان»، ولكن بالأحرى تكمن المغامرة في العزلة عن العالم الحديث بكل تبدياته. ذلك أن أبناء ال«بيراها» يعيشون بعيداً عن كل حضارة ولا يعرفون أبداً أي نوع من أنواع الرفاهية والترف ولم تدخل حياتهم أبداً التكنولوجيات الحديثة. إنهم ينامون قليلاً، كما يصفهم المؤلف، ويمضون القسم الأعظم من وقتهم في صيد الحيوانات لتأمين عيشهم ول«التواصل» مع «الأرواح غير المرئية» التي يعتقدون أنها تتحكم بمصائرهم.

وتشكّل دراسة لغة ال«بيراها» أحد المحاور الأساسية في الكتاب. وبعد أن يشير المؤلف أنه كان قد قدم أساسياً إلى غابات الأمازون في البرازيل بغية دراسة لغات الشعوب البدائية انطلاقاً من اهتمامه أصلاً باللسانيات، يصف هذه اللغة أنها «لا تشابه اللغات الأخرى».

ذلك أنها تفتقر تماماً للأرقام وليس فيها أية لفظة للدلالة على الألوان ولا أي تعبير للدلالة على الحروب أو على الملكية الخاصة. وأبناء ال«بيراها» لا يعرفون تصريف الأفعال بصيغة الماضي وليست لديهم أصلاً أية «أساطير» تدل على أصولهم الأولى.

إن هذا الكتاب، يجمع في واقع الأمر بين الحديث عن تفاصيل التجربة الإنسانية لصاحبه ودقة البحث على معطيات الواقع والمساهمة النظرية في ميدان علم اللسانيات، حيث يخالف المؤلف أغلبية الأطروحات السائدة الشائعة وفي مقدمتها تلك التي يقول بها عالم اللسانيات الأميركي الشهير نعوم شومسكي.

ويقول المؤلف في وصف القبيلة التي عاش بينها: «إن البيراها يضحكون من كل شيء، وحتى من الآلام التي يتعرضون إليها. هكذا عندما تقتلع الرياح كوخ أحدهم يضحك أصحابه أكثر من الآخرين. إنهم يضحكون عندما يصطادون كمية أكبر من الأسماك وعندما لا يصطادون أية سمكة. ويضحكون عندما تمتلئ بطونهم وعندما يكونون جوعى.

من الصعب تفسير هذه السعادة العامة العارمة. لكنني أعتقد أنهم واثقون من قدرتهم على مواجهة كل ما يفرضه محيطهم عليهم. هذا ليس كون حياتهم سهلة، ولكن بالأحرى لأنهم يجيدون ما يفعلونه».

ويروي المؤلف أنه قوبل كثيراً بقول بعض ال«بيراها» له: «إنك تريدنا أن نعيش مثل الأميركيين، لكن البيراها لا يريدون العيش مثل الأميركيين. نحن نحب الحياة وبإمكانك أن تبقى معنا. ولكن لا تتحدث معنا عن معتقداتكم». ويشير المؤلف أن «مبشّرين دينيين» آخرين كانوا قد حاولوا إدخالهم في المعتقد المسيحي منذ قرنين، ولكم دون الحصول على نتيجة.

وعن الحرب، يكتب المؤلف: «هناك شعور بالانتماء يأخذ منه البيراها قيمهم. إنهم يرون مباشرة افتقار الأجانب لهذه الصفة. ويعتبرون البرازيليين غشاشين ويعاملون البرازيليين الآخرين معاملة سيئة. وهم يرون الأهل الأميركيين يضربون أبناءهم. قد سمعوا أن الأميركيين يمثلون أعداداً كبيرة من الآخرين بل إن الأميركيين والبرازيليين يقتلون أميركيين وبرازيليين آخرين».

ويشير المؤلف أن لغة ال«بيراها» تحتوي على ثمانية حروف صامتة وثلاثة حروف صوتية ولم يحدث أن تكلم غريب لغتهم بطلاقة قبل وصوله. ويرى المؤلف هنا أن لغة البيراها تكذب الأطروحة القائلة ـ شومسكي وغيره ـ أن جميع لغات العالم تجمع بين فكرتين متمايزتين في جملة واحدة. البيراها لا يقولون أبداً: «الرجل الذي ذهب إلى الصيد يتوجه نحو القرية» ولكن: «الرجل ذهب إلى الصيد. إنه يتجه نحو القرية»؛ أي جملة لكل فكرة.

وال«البيراها» ليس في لغتهم ما يعني «أشكرك» أو «أهلاً وسهلاً» أو «صباح الخير». وبدلاً من «مساء الخير» يقولون مثلاً: «لا تنم فهنا توجد أفاعٍ» أي جملة لها هدف وليس تعبيراً «فارغاً» من أي معنى. إنها لغة غريبة لبشر غريبين عن تعقيدات الحضارة الحديثة.

وعبر المزج بين الحكايات «الطريفة والتنظير اللغوي ونقاش المفاهيم الحضارية يدعو دانييل ل. ايفريت، قارئه للتعرف إلى آخر ممثلي «عصر الصيد والقطف». هذا الكتاب اختارته مكتبة «بلاكويل» الانجليزية أفضل كتاب لعام 2009.

الكتاب: لا تنم فهنا توجد أفاعٍ الحياة واللغة في غابات الأمازون

تأليف: دانييل ل. ايفريت

الناشر: بانتيون بوك- لندن- 2009

الصفحات: 320 صفحة

القطع: المتوسط

Don - t sleep there are snakes

Daniel L. Everett

Pantheon Books - London - 2009

320p.

Email