الفسيفساء.. حضارة بأبحدية الفلسفة

الفسيفساء.. حضارة بأبحدية الفلسفة

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

تزخر محافظة حماة بأهم اللوحات الفسيفسائية في سوريا، حيث إنها تضم أكثر من 50 بالمئة من هذه اللوحات المكتشفة، وأبرزها لوحة (طيبة الإمام) التي يعود تاريخها إلى سنة 242 ميلادية، وتزيد مساحتها على 600 متر مربع. كما تمثل لوحة (المريمين):

«العازفات»، الموجودة في متحف حماة الوطني(طولها 4.22 أمتار، وعرضها 5.37 أمتار) مشهداً موسيقياً فيه ست نساء عازفات، وتبرز فيها جودة إتقان الفنان في رسمهن، وأيضا تبدو في اللوحة آلات موسيقية، كانت تستخدم في تلك الحقبة الزمنية، مثل الأرغن و(الصنجات)، ومزمارين منفصلين ، وأخيرا القيثارة.وحول دلالات ومضمون هذه اللوحة (العازفات)، قالت الدكتورة ستيفانيا خلوفيراكي، أستاذة ترميم الفسيفساء في جامعة أثينا وعضو فريق العمل المكلف بتأسيس مخبر لترميم الفسيفساء في متحف حماة: «إن لوحة العازفات تمتاز بقوة التأليف ودقة التشبيه ووضوح البيان، فهي فرقة متكاملة تقدم برنامجاً موسيقياً تاماً، وهناك الكثير من الأمور اللافتة للنظر فيها، منها اللباس والتسريحات والشعر والضفائر ونعومة الوجوه والابتسامات الرقيقة واتساع العيون».

وأضافت: «يوجد في محافظة حماة، وفي متحف أفاميا تحديداً، لوحة فسيفساء مهمة للغاية، تمثل سقراط وحوله ستة حكماء، تزخر في جانبها الأيمن بزخارف هندسية رائعة ضمن إطار نباتي جميل، وتحيط برأس سقراط فيها كلمة بأحرف يونانية تشير إلى اسمه، وقد عثر على هذه اللوحة التي تعود إلى عامي 362/363 م، تحت بناء الكاتدرائية الكبرى في أفاميا. وهي تعكس بوضوح تام مدى الترابط الذي كان قائماً بين الثقافتين السورية واليونانية».وأوضحت خلوفيراكي أنه من اللوحات الرائعة في متحف أفاميا أيضا، لوحة «الوعل» التي تمثل وعلاً جميلاً في الوسط، فوق أرضية مليئة بعنصر نباتي مكرر يحيط به إطار ذو زخارف هندسية غاية في الجمال، وكذلك لوحة «الحوريات».

وهي من أجمل ما عثر عليه في مدينة أفاميا التاريخية، ووجدت في المبنى الروماني الذي أنشئت فوقه الكاتدرائية الكبرى، إذ يعود تاريخها إلى عام 362/363م، وتجسد اللوحة مجموعة من الحوريات والفاتنات في مباراة للجمال، وعليها كتابات تعرف بأسماء شخصيات هذه الفسيفساء.

قيمة وكفاءة

ترى الباحثة اليونانية أن الفسيفساء السورية أغنى وأعظم الفسيفساء في العالم، نظراً للتقنية العالية في تصنيعها، ولغنى الموضوعات الإنسانية والطبيعية التي تجسدها، إلى جانب تصويرها لأنماط الحياة البشرية على مدى الحقب الزمنية الماضية، باعتبار أن لكل رسم وشكل فيها دلالة وقيمة فلسفية ومعنوية كبيرة، منوهة إلى كفاءة الحرفيين السوريين في تصنيع مختلف أشكال اللوحات الفسيفسائية، والذين كانوا سباقين في شغلها، منذ بداية ظهور هذا الفن القديم الذي تبلور واحتل حيزاً واسعاً على الخارطة الفنية والثقافية في العهدين اليوناني والروماني.

وأشارت خلوفيراكي إلى أن هذه اللوحات الفسيفسائية هي قطع أثرية نادرة ومتفردة، وذلك من حيث أشكالها ورسوماتها البديعة وتصاميمها الساحرة، علاوة على الدقة والمهارة العالية في شغلها، وما تتضمنه من عناصر تزيينية لا تشكل ترفاً جمالياً فحسب، بل بمثابة شواهد وسجلات ووثائق تاريخية وحضارية في غاية الأهمية لمختلف العصور التاريخية.

وهي تؤكد في هذا السياق على أن سوريا لديها مخزون فسيفساء هائل ومهم في العالم، بدليل اكتشاف لوحات فسيفسائية جديدة وذات أشكال وصور متنوعة بين الحين والآخر، في مختلف مناطقها.

مخبر للفسيفساء

ولفتت خلوفيراكى إلى أن مشروع توثيق وترميم الفسيفساء في متحف حماة ينقسم إلى مرحلتين، بدأت الأولى في عام 2004، من خلال إعداد وتوثيق جميع لوحات الفسيفساء في سوريا، بالارتكاز على مرجع توثيقي وتاريخي لها، ومن ثم اعتنت المرحلة الثانية للمشروع بتأسيس مخبر للفسيفساء في متحف حماة، يكون كمركز لتدريب وتأهيل العاملين السوريين في مجال ترميم الآثار، إضافة إلى طلاب كليات ومعاهد الآثار، تدريبهم على أعمال الترميم والعناية باللوحات الفسيفسائية، سواء المحفوظة منها بالمتاحف أو المكتشفة في مواقعها.

وتشرح الباحثة اليونانية هدف هذا المشروع : «لا شك في أن أبرز أهداف عملنا نشر الوعي حول كيفية التعامل السليم مع مختلف اللوحات الفسيفسائية، لاسيما التي يتم نزعها من مواقعها بطرق بدائية لا تراعي قوام وخصوصية اللوحة وسلامتها، ما يؤدي إلى خسارة اللوحة جانباً مهماً من غناها الحضاري.

وتدلل خلوفيراكي إلى أنه من المفضل التركيز على بقاء اللوحة في موقعها وصونها وحمايتها وتغطيتها والحفاظ على معالمها لأن هذا الإجراء من شأنه جعلها ذات قيمة حضارية وأثرية أعلى، فضلاً عن جدوى هذا الأمر في الحد من نقل القطع الفسيفسائية وتراكمها في المتاحف.

كادر وطني

وبدوره، قال المهندس مجد حجازي، أحد العاملين في هذا المشروع: «إن أعمال تأهيل وتدريب الكوادر السورية العاملة في مجال الفسيفساء تشمل جانبين: نظري وعملي.

وهكذا فإن البرنامج التدريبي يعنى بتزويدهم بمختلف الحقائق والوقائع والمعلومات المتعلقة بتاريخ الفسيفساء وتقنياتها ومبادئ وعمليات ترميمها، وكذلك تحديد حجم الأضرار التي تعرضت لها نتيجة الظروف الطبيعية والعوامل الجوية القاسية وطرق وأساليب توثيق اللوحات الفسيفسائية، أثرياً وتاريخياً، باستخدام التقانات الحديثة وبرامج الحاسوب.

وذلك بهدف إيجاد كادر وطني مؤهل لديه الخبرات المطلوبة في إعداد وتوثيق وترميم لوحات الفسيفساء المكتشفة حديثاً، والموجودة في متاحف سوريا، خصوصاً وأن مخبر الفسيفساء في حماة، يعد الثاني من نوعه في سوريا، بعد المخبر الموجود في دمشق».

طرق حديثة

وعن طبيعة التعاون بين مخبر الفسيفساء في حماة، وطاقم الترميم، قال علي الأحمد، أمين المختبر: «إن التعاون مع طاقم ترميم الفسيفساء اليونانيين، والذي يضم 4 خبراء، أكسبنا خبرة كبيرة في مجال ترميم اللوحات الفسيفسائية واستخدام أساليب وطرق حديثة، وتجنب الطرق البدائية القديمة التي كانت تستخدم في الترميم مقتصرة على الاسمنت وتنفيذ شبكة من القضبان الحديدية.

والتي كانت تؤثر سلباً في الشكل الخارجي للوحات وجودتها، جراء تمدد الحديد بفعل العوامل الجوية ومرور الزمن، وعلى هذا الأساس فإن المواد والطرق المبتكرة حديثاً في الترميم، تمنح اللوحة القوة والمتانة الكافية والشكل البديع، دون التأثير في قيمتها الحضارية والتاريخية».

أحمد كيلاني

Email