مجتمع التسارع

مجتمع التسارع

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

ينتمي الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني هارتموت روزا إلى ما يسمّى بالجيل الرابع من مفكري «النظرية النقدية» الألمانية التي كانت قد عرفت جيلها الأول في فترة ما بين الحربين العالميتين مع هوركهايمر وأدرنو.

ويكرّس هارتموت روزا اهتمامه الأساسي لمحاولة فهم آليات عمل المجتمعات الحديثة ونقدها. وهذا هو الاهتمام الأساسي في كتابه الذي يحمل عنوان «مجتمع التسارع»، أو «مجتمع السرعة الفائقة». وقد اختار المؤلف عنوانا فرعيا هو: «نقد اجتماعي للزمن».وتنطلق تحليلات هذا الكتاب من ملاحظة عادية وبسيطة ويكررها جميع البشر تقريبا مؤداها أن السمة الأساسية للحداثة هي السرعة المتعاظمة، التسارع. «كل شيء أصبح أكثر سرعة؟، هذا ما يدركه الجميع ويعيشونه في حياتهم اليومية في المجتمعات الحديثة. ويشير المؤلف أن هذه الملاحظة على ما يبدو فيها من بساطة تشير إلى إهمال عامل الوقت والزمن من تحليلات الحداثة لصالح التركيز على عمليات الترشيد العقلاني والفرد. ولا يتردد المؤلف في القول أن الزمن وتسارعه يشكلان مع ذلك الوسائل الأساسية من أجل «فهم دينامية» الحداثة، كما يقول.

إن المؤلف يشرح كيف أن الحداثة تمثل نوعا من الهروب إلى الأمام وتدفع إلى تسارع إيقاع الحياة الاجتماعية مع زيادة الإحساس بالحاجة إلى الوقت. ذلك أن التسارع التقني وتطوّر التكنولوجيات في ميادين تمس الحياة اليومية للبشر مثل وسائل النقل والاتصالات أدّى إلى تسارع التبدلات الاجتماعية على صعيد نمط العيش والعلاقات داخل الأسر.

وهذا ما يتم شرحه تحت عناوين ـ أقسام أربعة هي بالتتالي: الأسس والمفاهيم التي تقوم عليها نظرية التسارع الاجتماعي ثمّ آثار ومظاهر التسارع الاجتماعي ثم الأسباب وأخيرا النتائج.

ويتم التركيز بصور مختلفة على مسألة تسارع نمط العيش وما يترتب على ذلك من قلق لدى أبناء المجتمعات الحديثة بالقياس إلى المجتمعات القديمة في العالم المتقدم. هكذا تتم الإشارة إلى أنه ليس بعيدا الزمن الذي كان فيه الكثير من الناس يأملون أن يؤدي التقدم التكنولوجي وحلول الآلة محل الإنسان في العديد من النشاطات إلى جعل شروط العمل أسهل وبالتالي الاستفادة من الوقت الفائض الذي يتم الحصول عليه لممارسات الهوايات المحببة في ساعات الفراغ.

لكن ما جرى في الواقع هو مناقض لهذا كثيرا. ولم تؤد الوعود والأحلام التي شهدها الغرب خلال سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية والمعروفة عامّة بـ «الثلاثينات المجيدة» بقدر أكبر من الهدوء والطمأنينة سوى إلى «أوهام». بل الذي حصل هو زيادة التسارع في نمط العيش وزيادة القلق وضيق الوقت.

إن الحداثة التكنولوجية غيّرت الكثير من المعطيات في حياة البشر. وكان من الضروري مثلا أن يمضي المسافر أسابيع بل شهورا طويلة في عرض البحار والمحيطات للوصول إلى الولايات المتحدة انطلاقا من القارّة الأوروبية، هذا بالطبع بعد اكتشاف العالم الجديد. أمّا اليوم فتكفي ساعات قليلة. بهذا المعنى يمكن القول أن التكنولوجا «ضغطت المسافات»، حسب تعبير المؤلف.

وتستطيع حسب الآلية نفسها زيادة إيقاع الإنتاج المادي بكل أشكاله وزيادة عدد وتردد العلاقات الاجتماعية حيث أن وسائل الاتصال الحديثة تلعب دورا جوهريا في هذا الواقع الجديد.

ويتحدث المؤلف في هذا السياق عمّا يسميه «أعراض» تسارع إيقاع الحياة، وكأن الأمر يتعلّق بمرض حقيقي. هذه الأعراض تشتمل على قائمة طويلة من بين محتوياتها الأساسية الوجبات السريعة ـ فاست فود ـ والاتصالات عبر شبكة الانترنت واكتساب عادة القيام بعدّة أعمال بالوقت نفسه...

. ومن سمات العصر الراهن أيضا تسارع التبدّل الاجتماعي والثقافي. يقول المؤلف:» لقد استغرق الانتقال منذ اختراع المذياع ـ الراديو ـ في نهاية القرن التاسع عشر وحتى امتلاك 50 مليون نسمة له مدّة 38 سنة. (...) بينما أن الأمر لم يحتج سوى إلى 4 سنوات لتعميم شبكة الانترنت على نفس العدد من البشر».

كل شيء غدا يجري بسرعة أكبر من التجديدات التكنولوجية حتى الموضة. كذلك غدا التبدّل السريع هو القاعدة في الحياة بالمجتمعات الحديثة. «إن البشر يبدّلون اليوم مهنهم أو شركاء حياتهم أو توجهاتهم السياسية أكثر بكثير مما كان يتم الأمر في الماضي»، كما يشرح المؤلف.

ويشير أن هذا يجري تحت عنوان عريض هو «المرونة». والحجج كثيرة أيضا في انتهاج مثل هذا السلوك «المتبدّل» وليس أقلّها غياب البعد الروحاني وسيادة الفلسفات الماديّة القائلة أن الموت هو نهاية النهايات، وبالتالي ينبغي أن يعيش الإنسان حياة «مليئة» كي تكون جيّدة.

وفي مواجهة هذا الإيقاع المتسارع توجد بعض استراتيجيات «تخفيف سرعة إيقاع العيش»، كما يرى المؤلف في تبنّي البعض العيش بعيدا عن مراكز التجمعات السكانية الكبرى أو «مديح التباطؤ» أو «المطالبة بتخفيف إيقاع التنمية».

وهو يؤكّد أن جميع الإستراتيجيات الكامنة في «الابتعاد عن الدوائر الفاعلة» ليست كافية من أجل الوقوف أمام إغراء الآلة الحديثة. ذلك أنه ليس هناك، برأيه، من يمكن أن يكون بمنجاة من نتائج تسارع إيقاع الحياة على صعيدي الحياة الشخصية والحياة العامّة.

على الصعيد الخاص تدل جميع الإحصائيات أن حالات القلق أو الاكتئاب أو الإفراط في النشاط أو الانهيار العصبي هي في تعاظم مستمر وأنها «أمراض العصر»، أي عصر السرعة.

وبالتالي أصبحت هوية الفرد هي نسيج من التجارب والمشاريع «المتراصّة» إلى جانب بعضها البعض بحيث أن «الإنسان لم يعد خبّازا أو محافظا أو كاثوليكيا بذاته، لكنه هذا وذاك للحظة معيّنة ولفترة يمكن أن تنتهي لسبب ما وتميل دائما إلى أن تكون أقصر»، كما نقرأ.وعلى الصعيد العام، صعيد المجتمعات، يرى المؤلف أن التطوّر الاقتصادي والتقني والسياسة لا يتم حسب إيقاع منسجم في المجتمعات الحديثة.

ويحدد القول أن شيوع خطاب الأزمة وتكاثر سياسات «الطوارئ» و«تفوّق السلطة التنفيذية على السلطة التشريعية» هي بعض نتائج ضغط التسارع على عالم السياسة.في المحصّلة النهائية يرى المؤلف أن «نواة التحديث» بإنتاجها أفراد بلا مستقبل وحكومات تحرّكها ردود الأفعال، إنّما «انقلبت ضد مشروع الحداثة».

ويُبدي المؤلف قدرا كبيرا من التشاؤم حيال توجهات المستقبل ويرجّح من بين السيناريوهات التي يعرضها من أجل المستقبل في خاتمة الكتاب الأكثر تشاؤما والمتمثّل في «السباق المحموم نحو الهاوية» في عالم عاجز.

الكتاب: مجتمع التسارع

تأليف: هارتموت روزا

الناشر: جامعة بنسلفانيا 2009

الصفحات: 280 صفحة

القطع: المتوسط

High _ speed society

Hartmut Rosa

Pennsylvania university press 2009

280p.

Email