أدب

ساراماغو.. الكاتب الذي أراد تغيير العالم

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

برحيل الكاتب البرتغالي خوسيه سارماغو، الحائز جائزة نوبل للآداب عن الدنيا في الثامن عشر من يونيو الجاري، لن تبقى الساحة الأدبية العالمية .

كما كانت على الإطلاق، فالأرض التي كانت تحبل بقامات إبداعية بهذا الحجم، بات يشق عليها إنجاب الكثير من المثقفين الملتزمين بمعادلة الجمع بين قضايا الإنسانية من جهة، والكلمة الحلوة من الجهة الأخرى، في آن. بعد رحيل خوسيه ساراماغو، ظهر في مدونته على الانترنت نتاج لحظة التأمل الأخيرة في حياته، وهو نص بعنوان «تفكير، تفكير»، يلقي فيه مؤلف «العمى» تحية الوداع على قرائه بمقتطف مأخوذ من مقابلة منشورة في مجلة «إكسبريسو» البرتغالية عام 2008، ويقول فيه: «أعتقد بأنه في مجتمعنا الحالي تنقصنا الفلسفة. الفلسفة بوصفها فضاء ومكاناً وأسلوباً للتأمل الذي قد لا يكون له هدف محدد كالعلم الذي يتقدم لسد الحاجيات. ينقصنا التأمل والتفكير، نحتاج لعمل التفكير ويبدو لي، بلا شك، أننا لن نذهب إلى أي مكان».

كي تكون الطفل

إنها دعوة لا تخلو من براءة طفولة لم تفارق ساراماغو لحظة في حياته، وهو صاحب مقولة «أترك لنفسك العنان كي تكون الطفل الذي كنت»، وتبدو منسجمة كذلك مع تأكيده أنه لم يرغب قط بأن يكون شيئاً في الحياة.

ولم يفكر يوماً بأن يصبح كاتباً مشهوراً، ومع واقع أن الشخصيات التي أبدعها وانعكست على صفحات أعماله الأدبية، إنما جاءت في سياق تثبيت حضور الشخصيات التي أحاطت به أيام الطفولة وخاصة جديه في الذاكرة، وأي ذاكرة أفضل من تلك التي يمتلكها طفل، والقادرة على صون هكذا لحظات يتقد فيها التفكير، تفكير إنسان عاش حياة مليئة دون إدراك منه.

مبدع شجب الجرائم

ظل ساراماغو طوال حياته منسجماً مع تفكيره السياسي ومخلصاً لمنشئه الاجتماعي الفقير، فرفع صوته مرات عدة ضد المظالم والتيارات اليمينية المحافظة، وحتى الكنيسة الكاثوليكية والشركات الاقتصادية العملاقة، ووقف إلى جانب قضايا الشعوب والناس البسطاء المضطهدين في أي مكان من العالم، بغض النظر عن العرق واللون والدين، ومن بينها القضية الفلسطينية، التي توج دعمه لها بزيارة قام بها عام 2002 إلى فلسطين، مع وفد ضم عدداً من المثقفين العالميين:

الروائي الأميركي راسل بانكس، رئيس البرلمان العالمي للكتّاب وول سوينكا ـ الحائز جائزة نوبل للآداب للعام 1988، الصيني بي داوو ـ أحد الأعضاء المؤسسين للبرلمان، الشاعر والروائي والفنان التشكيلي من جنوب إفريقيا برايتن باخ، كرستيان سالمون (فرنسا)، فيشنزو كونسولو (إيطاليا)، خوان غويتسولو (إسبانيا)، أوليفر استون (الولايات المتحدة) .

صديق فلسطين

قال الطوباوي خوسيه ساراماغو ذات مرة، بعد زيارته لمخيم جنين، إثر معركة بين شبان المخيم وجنود الاحتلال الإسرائيلي: «كل ما اعتقدت أنني أملكه من معلومات عن الأوضاع في فلسطين قد تحطم، فالمعلومات والصور شيء، والواقع شيء آخر، يجب أن تضع قدميك على الأرض لتعرف حقاً ما الذي جرى هنا.. يجب قرع أجراس العالم بأسره لكي يعلم.. إن ما يحدث هنا جريمة يجب أن تتوقف..

لا توجد أفران غاز هنا، لكن القتل لا يتم فقط من خلال أفران الغاز. هناك أشياء تم فعلها من الجانب الإسرائيلي تحمل نفس أعمال النازي أوشفيتس. إنها أمور لا تغتفر يتعرض لها الشعب الفلسطيني».

من يقرأ هذه الفقرة لا يستغرب أن يأتي نعي وفاة الكاتب البرتغالي من فلسطين على لسان النائب محمد بركة رئيس الجبهة الديمقراطية للعدالة والمواساة، الذي وصفه بأنه صديق لفلسطين ولشاعرها محمود درويش ولزعيمها التاريخي ياسر عرفات، فقد وضع القضية الفلسطينية والنضال من أجلها في مقدمة أولويات نشاطه السياسي والاجتماعي، مجسداً ذلك من خلال توليه الرئاسة الفخرية للحركة البرتغالية من أجل حقوق الشعب الفلسطيني التي رأت النور عام 2007.

رجل النظرية والممارسة

هو بحق مثقف عضوي ملتزم بقضايا الإنسان والإنسانية أينما كان، عاش حياة لم تكن مليئة بالأدب والشعر والذكريات فحسب، وإنما بالمعارك ضد الفقر والمظالم والنظم السياسية الفاسدة أيضاً، وكان لديه الوقت الكافي ليفعل ما اعتقد أنه كان يتعين عليه فعله.

مثقف برع في الجمع بين النظرية والممارسة ولم يقع في مطب التناقض بينهما، فلقد كان مسلكه منسجماً حد التماهي مع معتقداته النظرية، وربما يمكن رد هذا التناغم الفريد إلى منشأ خوسيه ساراماغو الخارج من كنف زوجين مزارعين بلا أرض، ولد تعلم القراءة في مكتبات حيه العامة عندما انتقل والداه إلى المدينة التي لم تضف إلى حياتهم سوى مزيداً من العوز.

هذا المنشأ جعل مؤلف «كل الأسماء» يقف إلى جانب قضايا آمن بها وبعدالتها فوقف إلى جانب القاضي الاسباني بالتاسار غارزون، الذي وصفه بأنه ضحية الفاشيين الجدد الذين يواصلون نشاطهم تحت اسم «الكتيبة الاسبانية».

وكان صديقاً لكوبا التي وصل إليها للمرة الأولى عام 1999، وعاد إليها عام 2005، لمعالجة مرحلة من البعد السياسي مع هافانا على ضوء إدانة 75 منشقاً وإعدام ثلاثة من خاطفي مركب كانوا يعتزمون الهجرة إلى الولايات المتحدة، وبعدها راحت الصلة مع الجزيرة تفتر، ولقد قال في تلك اللحظة: «لم اقطع العلاقة مع كوبا، لا زلت صديقاً لها، لكني أحتفظ لنفسي بحق قول ما أفكر فيه وقوله عندما أعتقد أنه يتعين علي قوله».

عرف كيف يطلب من الرئيس باراك أوباما أن ينهي الحصار على كوبا وأن يرفع يد واشنطن عن جزيرة غوانتانامو، كما شكل جزءاً محورياً من حركة «لا للحرب» التي تقف ضد العدوان الأميركي على العراق.

ثمة حكاية تقول إن، أحدهم، والغالبية ترجح أنها امرأة، دخلت عالم ساراماغو بباقة من الورود الحمراء، باسم جماعة تناضل ضد العنف الاجتماعي، ورود حمراء لرجل كان قد انضم منذ عام 1969 إلى الحزب الشيوعي، وفي تلك اللحظة السرية شارك في ثورة القرنفل التي انتصرت في أبريل 1974 على ديكتاتورية أوليفيرا سالازار، وأعادت دولة القانون إلى البرتغال.

ساراماغو المستفز تلقى انتقادات حادة عندما قارن، أثناء زيارة قام بها لمخيم للاجئين الفلسطينيين، سياسة إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة بمعسكرات الإبادة النازية.

كما وقف إلى جانب القائد ماركوس والشاعر خوان جيلمان، عندما كان الأخير يبحث عن حفيدته، وسافر العام الماضي ليلتقي بأمينة حيدر، المناضلة الصحراوية التي أضربت عن الطعام، وانتقد الزعيم النيكاراغوي دانييل أورتيغا، مثل ما أثار حفيظة الكثيرين عندما نشر كتابيه «الإنجيل حسب السيد المسيح»، و«قابيل»، وعدة كتب أخرى.

فلسطين في ضمير ساراماغو

يقول النائب محمد بركة، رئيس الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، إن الراحل خوسيه ساراماغو كان بوعي البرتغالي، قد وضع القضية الفلسطينية والنضال من أجلها في أولويات نشاطه السياسي والاجتماعي.

وكان مقرباً للرئيس الراحل ياسر عرفات وصديقاً حميماً لشاعر فلسطين محمود درويش، ولهذا ليس مصادفة أن يتولى الرئاسة الفخرية للحركة من أجل حقوق الشعب الفلسطيني، ومن أجل السلام في الشرق الأوسط، وهي الحركة التي اقيمت في العام 2007 بمبادرة كوكبة من المناضلين البرتغاليين، الذين نقشت أسماؤهم بأحرف من نور في المعركة ضد الفاشية والدكتاتورية في وطنهم.

باسل أبوحمدة

Email