اللوحات الجداريّة..فن الناس

اللوحات الجداريّة..فن الناس

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

ما سكن الفن مكاناً إلا أحاله إلى جنة ترفل بالخضرة والجمال والنظافة والترتيب والحضارة، من أجل هذا، تحتاجه المدن والبلدات والقرى، سواء بشكله المجسم (كتلة في فراغ) أو المسطح (اللوحات الجداريّة المتعددة التقانات).

للفن الذي يسكن العراء، بين الناس في رواحهم وغدوهم، شروطه ومقوماته وتقاناته، لا يتكامل وجوده، ولا يؤدي دوره دونها، وهذا النوع من الفن يستدعي وجود الموهبة والخبرة في مبدعه ومنفذه، والوضوح في أشكاله وأفكاره، كونه اختار السكن بين الناس، على اختلاف أعمارهم وثقافتهم ووعيهم الاجتماعي. ولأنه في الأساس، صمم لهم، يجب أن تكون له علاقة بهم، وأن يوضع في المكان المناسب القادر من خلاله، على التواصل معهم، بيسر وسهولة، وأن ينسجم ويتآلف في الوقت نفسه، مع محيطه المعماري والطبيعي. للمدن والبلدات النظيفة، المرتبة، المنظمة التي تتنفس الهواء والضوء والعافيّة برحابة ويسر، نكهة خاصة.

وللمدن التي تزاوج جيداً، بين الكتلة والفراغ، تاركةً للهواء والشمس ملاعبهما الفساح، وسامتها الخاصة، وشكلها الجميل والمريح. وللمدن المزينة بالعشب والشجر والزهر والنظافة، سحرها المميز، ووقعها المنعش على القلب والعين. المدن والفنوللمدن الناهضة على ضفاف الأنهار، وشواطئ البحار، وفوق الهضاب وأقدام الجبال والذرا، أو بين أحضان السفوح والسهول والغابات، يسكنها الفن والترتيب ورذاذ الماء، جمالها الآسر النافذ في العقل والوجدان والروح. للمدن التي يسكنها الماضي والحاضر بتوافق وتآلف وانسجام، نكهة العتاقة الأصيلة، وشهية المستقبل الآمن الواثق. للمدن هذه، سحر لا يشيخ، وجمال لا يذبل، وتجدد لا يتوقف عن التناسخ السليم، والولادة الطبيعيّة، والاستمرار الصحيح. للمدن هذه، بوابات عريضة ووساعة مفتوحة على الحياة وللحياة.

وحده الفن مَا يصنع هذه المدن، مَا يرتبها وينظمها ويحقق معادلة انسجامها قديمها وحديثها. والفن هذا، متعدد الأشكال والخامات والمواد والأنواع، نقف اليوم عند إحداها وهي (اللوحات الجداريّة) المتعددة المهام. أما المظاهر الأخرى لفن المدن، فلنا معها وقفات قادمة.

اللوحات الجداريّة

اللوحات الجداريّة، فن ينتمي إلى التصوير أحياناً، وإلى النحت النافر والبارز (روليف) والغائر (بارليف) أحياناً أخرى، وقد يجتمع الفنان في اللوحة الواحدة.

قد تشغل اللوحة الجداريّة واجهة بناء، أو تغطي جدران نفق، أو تنهض على حامل أقيم خصيصاً لها، في الشارع، أو الحديقة، أو مدخل البلدة أو المدينة، أو الساحة. ومثل هذا الفن الذي يسكن العراء، يمكن له أن يُعمّق مهام العمارة، ويسعف الفن النصبي في تأديته دوره ويُجمّله. كما يمكن أن يؤدي وظائف ومهام عديدة، تزيينيّة جماليّة، وتعبيريّة توجيهيّة، واجتماعيّة ثقافيّة.

تنبهت غالبية الدول في أيامنا هذه، إلى أهمية هذا الفن، فبدأت تكثر منه ونشره في أكثر من مطرح وموقع، ولأكثر من غاية وهدف.

مهام اللوحات الجداريّة

يمكن للوحة الجداريّة أن تروي حكاية، أو تتمثل منجزة، أو تصّور معركة خالدة في حياة الشعوب والأمم، أو تؤرخ لحدث بارز، أو تقدم معلومة هامة، كما يمكن أن تكون عنصراً تزيينياً جمالياً بحتاَ!! على هذا الأساس، فإن للوحات الجداريّة أصولها ومقوماتها وشروطها التي يجب أن تتوفر فيها وفي مكان وجودها. مثلها في ذلك مثل النصب التذكاريّة والأعمال النحتيّة الساكنة في مرافق المدن، والداخلة في تنظيمها.

من ذلك انسجام حجمها أو مساحتها مع الفراغ المحيط بها، وتوافق شكلها ومضمونها مع الوظيفة المناطة بالبناء الذي احتضنها، أو المكان الذي حلت فيه، وملاءمة تقاناتها للمناخ الموجودة فيه (بحري، صحراوي، بارد، حار) وإمكانيّة مشاهدتها من قبل السابلة، بيسر وسهولة، وإحاطة العين بأبعادها وتفاصيلها ومضامينها دون عناء.

خصائص ومقومات

من أبرز وأهم الخصائص والمقومات التي يجب أن تحملها اللوحات الجداريّة، إمكانيّة الإحاطة بها شكلاً ومضموناً من قبل الإنسان العابر بها، راجلاً كان أو راكباً في وسيلة نقل، حتى دون أن يضطر للتوقف وتأملها طويلاً. كما أنيطت باللوحات الجداريّة مهام ووظائف جديدة في وقتنا الحالي، منها تحريك المساحات الواسعة في جدران الأنفاق والأبينة، لاسيما القديم منها، الذي يخلق مظهرها الفارغ، نوعاً من الكآبة للعين والإحساس، ونشازاً في محيطها، ووقعاً ثقيلاً على النفس.

وقد انتقلت هذه الحالة، إلى الأبنية الجديدة الحاملة لمساحات واسعة وفارغة من أية حركة تخفف من ثقلها وتحركها، ما يستدعي وجودها في مثل هذه الواجهات، بحيث تؤدي أشكالها وزخارفها إيقاعاً بصرياً جميلاً وأنيساً ومحبباً للعين والشعور، وأحياناً يمكن لهذه اللوحات أن تؤدي دوراً توجيهياً إعلانياً، يعكس طبيعة المهام التي يؤديها البناء الذي يحملها، أو قد تُشكّل مخططاً، أو خارطة للمدينة أو البلدة أو المنطقة الواقعة فيها، تسعف ابن البلد أو الزائر الغريب، في الوصول إلى الأمكنة التي يقصدها، والمواقع الراغب في زيارتها والاطلاع على معالمها.

لذلك تُعتبر اللوحات الجداريّة، من الفنون الجماهيريّة التي تقدم المتعة البصريّة للمتلقي، متماهية بالفائدة والتوجيه والدلالة، ولأكبر عدد من الناس، وبشكل دائم، ليلاً ونهاراً، ما يجعلها لا تقل قيمة عن الأثر النصبي، وتماثيل الشوارع والساحات والحدائق، فهي جميعها تسكن بين الناس، في أماكن تواجدهم الدائم، لتطالع عيونهم جيئةً وذهاباً، وفي كل الأوقات.

لذلك فإن هذه اللوحات قادرة بما تحمله من قيم تشكيليّة وجماليّة منسجمة ومريحة، ومن مضامين وأفكار ودلالات، على إفادة الناس وإمتاعهم وتثقيفهم وتنمية أذواقهم، إضافة إلى تجميل المواقع الموجودة فيه بصرياً.

تقانات مختلفة

تتعدد المواد والخامات والتقانات التي تُنفذ بها اللوحات الجداريّة الداخليّة التي تغطي الجدران، أو الأسقف، أو الأرضيات، والخارجيّة التي تُرصع واجهات الأبنيّة، أو تنهض مفردة في ساحة أو حديقة أو مدخل مدينة وبلدة.

فهناك الألوان الزيتيّة، والفريسك، والفسيفساء، والبورسلان والسيراميك، والمينا، والقاشاني. أما بالنسبة للوحات النحت النافر والغائر، فيمكن أن تنفذ من الحجر، والرخام، والبرونز، والاسمنت، والبوليستر، والمعادن المختلفة، وقد أثبتت هذه التقانات كافة، جدواها في مقاومة عوامل الطبيعة المختلفة، والاحتفاظ برونقها وجمالها، والاستمرار في الحياة مئات السنين، حاملة قيمها التشكيليّة والتعبيريّة لأجيال وأجيال.

من جانب آخر، تُعتبر اللوحات الجداريّة المنفذة بتقنية النحت النافر أو البارز أو الغائر، أحد ضروب اللوحات الجداريّة التي يمكن أن تشغل واجهات الأبنيّة أو جدران الأنفاق أو تنهض مفردة إلى جانب المنشآت المعماريّة، كما يمكن أن تُرصع قاعدة تمثال أو نصب تذكاري.

لوحات الإعلان

مع التطور المذهل لوسائل الاتصال البصري، ظهرت (الآرمات) واللوحات الإعلانيّة والتوجيهيّة المختلفة الغايات والتقانات والوسائل، فهي ثابتة ومتحركة، تنفذ على الواجهات والزوايا وأسطح البنايات ومداخل المدن ومفارق الطرقات وداخل أنفاق المترو، وعلى واجهات وسائل النقل، كما قد تُفرد لها سيارات خاصة تجول في الشوارع والأسواق وأماكن وجود الناس، للإعلان عن منتجات، أو أحداث، وقد تُبث عبر شاشات، أو من خلال وسائل الإعلام المختلفة، وصار لبعضها لوحات وأماكن خاصة بها.

هذه اللوحات تختلف عن اللوحات الجداريّة المنفذة لتستمر وتدوم، مقدمةً ملامح عن ناس وزمن محددين. فاللوحات الإعلانيّة آنيّة وذات سمة ترويجيّة لمنتوج صناعي، أو مطعم، أو مشرب، أو ناد ليلي، أو مكتبة، أو مكتب خدمات، أو شركة، أو محل تجاري ... الخ، لهذا تنفذ عادة بمواد غير ثابتة أو دائمة (أفلام، لوحات كهربائيّة، آرمات متعددة الأشكال والطرز) تسهل إزالتها، أو نقلها من مكان لآخر، ويدخل في إنجازها الشكل والكلمة، الإشارة والصورة.

أما اللوحات الجداريّة ذات السمة الدائمة فهي تتناول عادةً حدثاً ما، أو إنجازاً بارزاً في مجال ثقافي أو علمي أو سياسي، وتؤدي دوراً توجيهياً، أو قد تكون ذات صبغة تزيينيّة تجميليّة بحتة، ولأنها خارج إطار مفهوم (الترويج) تُنفذ بمواد سرمديّة مقاومة، وبكثير من التأني والدراسة شكلاً ومضموناً وموقعاً.

فن عريق

تُعتبر رسوم الكهوف (وهي البدايات الأولى لفن اللوحات الجداريّة) أول أشكال التعبير الفني لدى الإنسان، فقد مارسها الإنسان البدائي على جدران الكهوف التي شكلت بيته الأول، حيث عبر من خلالها، عن هواجسه تجاه جملة من الظواهر الطبيعيّة حوله، كالحيوانات المفترسة، والعواصف، والبروق، والأمطار، حيث شكّلت هذه الرسوم، حالة من التوازن لكيانه المادي والروحي، فالأمور التي لم يستطع تحقيقها في أرض الواقع، كان يحققها عبر هذه الرسوم البسيطة.

بعد تطور الإنسان، وانطلاقه في مدارج الحضارة، وتعرفه على وسائل التعبير الفني البصري الراقيّة، ظهرت الرسمة، واللوحة، والمنحوتة، وقطعة الفخار، ثم الخزف، فالمسلات، واللوحات الجداريّة الداخليّة والخارجيّة، ومجمل هذه الفنون، احتضنت هواجس وأفكار ومعتقدات الإنسان ونظرته إلى قضايا حياتيّة متعددة.

كما وثّقت في الوقت نفسه، للكثير من الأحداث البارزة التي جرت في العصر الذي جاءت منه، بحيث يمكن القول إن جانباً هاماً من التاريخ الإنساني وصلنا من خلال الفن وعبره، نتيجة تنفيذه بمواد مقاومة لعوامل الجو المختلفة، كالرخام، والفخار، والخزف، والمعادن، والخشب، والعاج، والفسيفساء، والرقش، والزجاج، والأحجار ... الخ، وكانت اللوحات الجداريّة، في طليعة الفنون البصريّة التي لعبت هذا الدور، ومازالت تلعبه حتى يومنا هذا، رغم مزاحمة فنون بصريّة جديدة (كالسينما، والتلفاز، والصورة الضوئيّة) لها على هذا الدور.

محمود شاهين

Email