فن

متحف الكاريكاتير في مصر..رسالة الفن بلغة ساخرة

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

الكاريكاتير خبز الصحافة اليومي ونصلها الحامي، وسبب مشاكلها، ومع ذلك نجده فنا حائرا بين اعتلاء أعمدة صفحات الصحافة، وخلق فضاء له على جدران المعارض.حائر بين البحث عن الاعتراف والوجود القسري، بين التعبير بحرية مطلقة، والالتزام بالواجب.

وخفة الدم والنقد اللاذع، فعلى الرغم من جرأة فناني الكاريكاتير وطول يد ولسان أغلبهم، إلا انه، وحتى الآن، لم يجد أي فريق من فناني الكاريكاتير مكانهم في المنطقة الفاصلة بين النشاط الصحفي المحموم، واعتراف المؤسسات الرسمية والثقافية والفنية بوجودهم، وفريق أخر تعتصره المطابع يوميا.تحمس مؤخرا فنان من خارج دائرة هذا الفن لإقامة متحف خاص بالكاريكاتير، وهذا ما كان جديرا بالتقدير، رغم أن نصيب المتحف من الجغرافيا، هو خارج دائرة الأضواء، حيث اتجه إلى الجنوب الغربي على الشاطئ المتداعي لبحيرة قارون بالفيوم، وفي قرية تونس بالفيوم بمصر،

اختار محمد عبلة مكانا احتضنته الطبيعة برفق، تبدو متسامحة مع الأيام والنسيان فتستقبل القادمين من دوائر الضوء والزحام بحذر. «نشاط للمبالغة»إذا كان الكاريكاتير يثير كل هذه الإشكاليات والقضايا، إلا انه فن لا يدرس أكاديميا، ويخرج من رحم التجربة، والاحتكاك والمشاهدة، والخبرة، وكلمة كاريكاتير لم يكتب لها الانتشار إلا بعد إن عرفه د. جيمس في قاموسه بأنه نشاط يهدف إلى المبالغة، وقد كان للصحافة فضل كبير في وجود هذا الفن المشاكس، بل إنه يعد ابنها الشرعي ولسان حالها، وقد يصل الأمر إلى حد أن يعبر رسم كاريكاتيرى عن صفحة من الكلمات والعبارات.

متحف فريد

يعد المتحف المذكور، الأول من نوعه على نحو غير مسبوق، سواء من حيث موقعه أو مستواه وطبيعة الأعمال فيه.واعتمد محمد عبلة على الجهود الذاتية، ومساهمات بعض المخضرمين في مجال الكاريكاتير، والفنانين الشباب، ويقول عبلة في هذا السياق:« تكونت مجموعة المتحف من إهداءات الفنانين المصرين الذين ندين لهم بالشكر، ومنهم:

الفنان جمعة فرحات، وسمير عبد الغنى، الأديب عبده جبير، الفنان نبيل تاج. كما منحنا هشام قشطة أشغال صلاح جاهين، وبضاف إلى تلك الأسماء كل من: حجازي، حسن حاكم، والفنان الشاب أحمد عبد النعيم الذي قدم كتابا توثيقا لتاريخ الكاريكاتير، وهذا علاوة على إسهامات عائلة الفنان صلاح الليثي، وجورج البهجوري.

وينتمي مبنى المتحف إلى العمارة البيئية، أو عمارة الفقراء، وأيضا اسماها شيخ المعماريين حسن فتحي بعمارة القباب التي تستعين بمواد البيئة.

وبنى هذا المتحف المعماري عادل فهمي، ضمن مركز الفنون بالفيوم، الذي أقامه محمد عبلة في العام 2006. وحظيت الأعمال الفنية المعروضة فيه بفضاء بسيط وإضاءة طبيعية، لكن في مناخ حميم.

إن هذا المتحف برهان حقيقي على أن الأفكار حقا لا تموت، بل تظل تحلق في سماء الحلم، إلى أن تجد طريقها إلى عالم الواقع، تعبر فضاءات، وسنين، وأيام يخامرها الشك وأحيانا اليقين، وتداعب الرجاء والممكن مهما كانت مستحيلة، بل تختبر جودتها وقدرتها على الصمود لحظة التحقق والميلاد، وهذا حتى لو كان المولود كاريكاتيري ينتمي إلى عالم الرسوم الساخرة، وهو بجوهره فن مشاكس.

نبت خيال

هكذا بدت فكرة متحف الكاريكاتير للفنان محمد عبلة، تلك الفكرة التي نبتت من خيال مع منتصف السبعينيات، وذلك على نحو مدهش، حيث يقول عبلة: تمنيت من البداية أن أكون فنان كاريكاتير، واعتقدت ضرورة أن يكون فنان الكاريكاتير دمه خفيف، هذه القناعة ظلت تلازمنى سنين طويلة، ولأنى أفهم الحياة بطابع جدي، ظل حلم عناقي مع فن البهجة، كامنا، ورغبة لم تحقق، في الوقت الذي كنت من أشد المعجبين بفن وشخصية الفنان زهدي العدوى، خاصة بعد أن عرفت أنه يمنح الفنانين الشباب، أوراقا وألوانا».

ويحكي عبلة حول رحلة البحث وجهوده في جمع ما يحتويه المتحف، وكذلك ما واجهه من مصاعب وطرائف خلال ذلك: «من المواقف الطريفة، في رحلة البحث عن الأعمال، أنه كانت وصلتني أعمال من فنان مستواها جيد.

وسألت جميع الناس عن اسم صاحبها، فلم يتعرف عليه أحد، وهذا ما يمثل فعليا دلالة على اننا لم نعرف شيئا عن تاريخ الكاريكاتير.كما وصل غلي على صعيد الوثائق، خطاب من الفنان عبد السميع إلى الفنان المهاجر نبيل السلمي، يقول فيه: لا تقطع علاقتك بمصر، وتعمل كالرجل الذي فقد ظله».

إصرار وثقة وقيمة

لا يشك عبلة في أن المتحف قيمة ثمينة في مجال الإبداع، وهو لهذا السبب يرى انه سيحفل بمستقبل حيوي مهم، وسيلاقي النجاح الكبير.ويستطرد عبلة شارحا طبيعة مخططاته والمشاريع التي يعتزم القيام بها لدعم وتغذية ركائز حجزه مكانة مرموقة: «الخطوة القادمة في هذا الإطار ستكون إنشاء موقع إلكتروني للمتحف، ليضم السير الذاتية لفناني الكاريكاتير، وأيضا قاعدة بيانات علمية سليمة لهذا الفن المشاغب».

أفق

لا نستشف في حديث عبلة عن المتحف، إلا ملامح العزم والإرادة الجادة للتطوير، بهدف جعله في صيغة أرفع وأشهر واكبر، في القريب العاجل، وهو يقول في هذا السياق: تعد المراحل المنجزة لغاية الآن بمثابة الخطوات الأولية المبدئية لمشروع أرغب في أن يكون كبيرا ومتمايزا، ولكن الأمر يحتاج إلى جهود اكبر للتعرف على هذا العالم المملوء بالبهجة والألم في الوقت نفسه.

كنوز فنية

تطالعنا في المتحف مجموعة غنية من الأعمال، ففي مقدمة المعروضات ارتفعت أعمال صاروخان على جدرانه، وهي مزينة بأسلوبه الذي يحتفي بقوة الخط، وظهرت لوحات رخا الواقعية، كما كشفت لوحات زهدي عن حكمة الفيلسوف، ونرى مع أعمال جورج البهجوري تمسكا بفنتازيا مميزة طالما اشتهر بها.

وأيضاً نجد في ركن معروضات أعمال مصطفى حسين عن النص الذي كتبه احمد رجب، كيف انه لم يخرج عن النص.وفي المحتويات كذلك يقدم طوغان نبوءة بان إسرائيل سوف تكون سببا في عزلة أميركا دوليا، وينفرد الليثي بأسلوبه الممتع المميز، وكذا جمعة في رسمه للمقهى وحكاياته.

وتشمخ رسوم شاعر الكاريكاتير صلاح جاهين كأننا نعيش معها في رحلة تاريخ مرسوم بخطوط الرسامين، ويلخص بهجت عثمان علاقة الحكومة بالأهالي في خطوط بسيطة، ويشترك معه حجازي، في المنحى فيرسم شخصين في زي اللصوص، يسحبون في نهر النيل.

كذلك يطرز كرم بدرة رسمه بالمفارقة الحضارية بين المجتمع الباريسي والقاهري، ليكشف عن فرق كبير في منهج التفكير، ويحلق حسن حاكم في خيال فضاء الحياة الاجتماعية المصرية، ويطالب نبيل تاج بحقوق الشعب، ويرسم عبد العال ملامح صدام حسين على نحو تعبيرات موجهة عابقة بالرسائل والآراء الشخصية، وكذا يجمع ناجى العلي بين رموز الإسرائيليين في شيء واحد، وهو دبابة تحولت مسورة الإطلاق إلى الشمعدان الصهيوني الشهير.

فن قديم

إذا كان المصريون القدماء عرفوا الفن الساخر في وقت مبكر، فالإنسان الأول البدائي عرف الرسوم الساخرة عندما امسك بحجر الصوان ليجسد معاناته في صيد فرائسه، وهو الأمر الذي يدعو إلى التفكير في أن حضارات أخرى قد تشترك مع المصريين في هذا.

ويذكر الباحث عبد النعيم ذلك في كتابه:

«وتستمر الرسوم الساخرة الفرعونية حتى العصور المختلفة، ففي العصر القبطي تسجل إحدى الصور المرسومة على جدران إحدى (الأديرة) القديمة في مصر العليا، شيئا من الدعاية الخفيفة وهى تبين صورة لثلاثة فئران تطلب العفو من القط الجالس في حالة غطرسة واضحة، بينما هناك من الفئران من يقوم بخدمته».

كما ظهر أيضا في إحدى المخطوطات التي يرجع تاريخها إلى العصر الفاطمي بعض الصور الهزلية في منظر يمثل قردا يمتطي عنزة ويمسك عكازا بيسراه ويرفعه لعله يرهبها لاستمرار السير، واللافت أنه خلا العصر المملوكي من أي إبداع في هذا المجال، وكذلك العصر العثماني.

الكاريكاتير والتشكيل

لجأ النحات وصانع التماثيل، الفنان المصري المشهور محمود مختار، إلى الحس الساخر في أكثر من عمل نحتي، فرسم مختار مجايله محمد حسن وهو يسخر من ممارسات محمد محمود خليل، صاحب المتحف الشهير على نيل الجيزة.كما قدم جمال السجيني عملا ساخرا في نحته البارز على النحاس، الذي يصور رجلا يعتمر طربوشا، بينما ظهر على الوجه أثر لقدم رجل غائرة، وأما جورج البهجوري فقد حاول جاهدا الجمع بين فن اللوحة والتمثال، إلى جانب ممارساته السريعة للفن الساخر، فأصبح يقف تائها في منطقة فاصلة بين العالمين.

سيد هويدي

Email