الحافلة

إياد جميل محفوظ

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

في بداية الرحلة..عند المحطة الأولى صخب نهاري يشرع بالتلاشي.. أحلام ليلية تستيقظ بتأن وروية.. حفنة متناثرة من أنوار خافتة تتهادى بدلال.. أصداء موسيقى ناعمة تترامى.

بضع طاولات ومقاعد ترقب أجساداً تحمل رؤوساً يانعة.. نادل شاب يضع اللمسات الأخيرة على المسرح قبل رفع ستارته.. أما أنا فأقبع بجوار صديقي صاحب الحانة.. بينما ينتصب قبالتنا أربعة كراسيّ منفردة. لا أعرف على وجه التحديد عدد السنوات التي مضت على وجودي هنا.. الحقيقة الوحيدة التي لم تتغير على الإطلاق هي أن صاحبي يسعى كل مساء إلى أن أبدو في أبهى حلة.. يلاطفني.. يداعبني.. يعطرني.. يرسمني كدمية جميلة.. ترشح عذوبة وجاذبية.. مستعدة لاستقبال زبائنها.

وهذا ما يجعلني دائماً أشعر باللهفة لتلك النفوس المتوثبة التواقة للارتماء في أحضاني وارتشاف كؤوس النشوة التي لا تنضب أبداً.

غدوت كالحافلة.. وصاحبي المعلم خليل قائدها.. بعضهم يركبني من بداية الرحلة حتى نهايتها.. وآخرون يفضلون مرافقتي محطة أو محطتين ويغادرونني.

لا شك أنني أدين بالعرفان لتلك الفئة التي تعاملني بكياسة ولطف على نحو لا أكاد أشعر فيه إلاّ بملامسة وادعة من أطراف أصابعهم حين يرغبون بمزيدٍ من المتعة .. أما أولئك الذين يضرب الخدر رؤوسهم فأتلقف بضجر زنودهم الثقيلة وهي تهوي على جسدي وتتخبط فوقه كالكلاب المسعورة.

يتوالى تهافت الرواد.. غير أن صاحبي لا يكترث بهم.. فهو لم يعد مولعاً بأولئك الذين يتحلقون حول الطاولات البعيدة.

في لحظة ما.. تتبدد وحدتي حين يجلس أبو نعوم بجواري.. يستقبله صاحبي بابتسامة رحبة.. يبادر بالاعتناء به.. فقد بات يميل إلى الأشخاص الذين يسعون إليه بمفردهم .. لا ريب أنه أمسى نديماً ماهراً.. يمتلك أسلوباً مغرياً.. على نحو يدفعهم فيه إلى مزيد من الثرثرة.. وعلى الرغم من أن أحاديثهم غدت كخرافات محنطة.. إلا أن ذلك كان يمنحه إحساساً بالامتنان.

مع مرور الزمن لم أعد أميز.. أصاحبي أدمن الإنصات؟ أم أنهم يشعرون بالراحة حين يفرغون ما فاضت به نفوسهم.. تراه يصغي إليهم باهتمام وكأنه كاهن يتلقى بوقار بوح رعاياه الذين يجلسون أمامه على كرسي الاعتراف.

؟ ؟ ؟

قبل منتصف الرحلة بقليل.. عند إحدى المحطات

حزمة من أنوار متعبة تتساقط بكسل فوق سحابة رمادية لاهثة.. السحابة تتكئ على وسادة من ضوضاء هادئة.. الضوضاء تداعب آذاناً مرنة.. الآذان تستقبل بالشغف نفسه موسيقى كلاسيكية ناعمة تارة وأغنية شعبية صاخبة طوراً أخر.

الطاولات والمقاعد تغص بأجساد تعلوها رؤوسٌ مشبعة بأوهام اللذة.. بينما أجدني

مستغرقة في الإصغاء إلى الانسجام الروحي المتواتر بين صاحبي وأبي نعوم.

وإذا بسيدة في الهزيع الأخير من ربيعها تقتحم خلوتنا.. وقبل أن يشرع المعلم خليل بالترحيب بها كانت قد استقرت فوق أحد المقاعد الخالية بجواري.. التصقت بي .. ثم ألقت بذراعيها المجهدتين نحوي.. استقبلتهما بحنو لا يخلو من استغراب.. جعلاني أتلمس طيف مشاعر قلقة.. لم يحل هذا دون أن يبادرها صاحبي بصوت ناعم ورصين:

- يسعد مساك ست كوثر.

ردت بنبرة هامسة:

- ومساك معلم خليل.. أعطني كاساً لو سمحت.

- تكرم عينك.. ويسكي أم تفضلين نوعاً آخر؟

- أوه .. أي شيء.. المهم بسرعة.

- لِمَ العجلة ست كوثر.. تبدين متوترة .. عسى خيراً.

أشعلت سيجارة وراحت تحرق تبغها بنهم.

- تفضلي كأس ويسكي مضاعف.

- شكراً.

- ما بالك اليوم يا سيدتي.. ألمح حزناً شفيفاً يتوارى خلف عينيكِ الجميلتين.

سحبت من لفافتها نفساً عميقاً.. حبسته في جوفها.. ارتشفت جرعة ويسكي.. ثم أطلقت آهاتٍ من الدخان المشبعة بالحسرة والألم.

خاطبها صاحبي باهتمام بالغ:

- هدئي نفسك.. عيناك الحلوتان لا تستأهلان سوى مسحة الفرح.

تنحنح ثم أضاف:

- ست كوثر..أراكِ اليوم بمفردك..أين صديقتك ناهد.. لِمَ لم تأتيا في أول الليل كعادتكما؟

ندت عنها شهقة غائرة وهي ترد بصوت مرتجف:

- ناهد .. ناهد بح.. تبخرت.

أجاب صاحبي بدهش:

- عفواً .. ماذا قلتِ ؟

لم ترد .. بل تنهدت بحرقة وهي تسحب بأناملها المرتعشة من حقيبة يدها ورقة حمراء.

التقطها صاحبي.. قرأها بحماسة بينما كانت ثمة دمعتان محبوستان توشكان أن تفلتا من عينيها.

رانت لحظات من السكينة قبل أن يبادرها ثانية:

- ما هذا ست كوثر ؟ .. لم أفهم شيئاً.

- أحقاً يا معلم خليل.. أين نباهتك؟.

- نعم.. نعم.. هي بضع كلمات .. كأنها رموز أو لعلها شيفرة .. لا أعلم سأعيد قراءتها.

ز آسفة يا عزيزتي.. ربما أبدو أنانية .. شيءٌ ما في داخلي جذبني إليكِ فالتصقت بكِ.. وشيءٌ آخر في داخلي قرر اختياره فرحلت معهس

أخذ صاحبي يطيب خاطرها.. في حين استقبلت شفتاها لفافة أخرى.. وارتاحت كأسٌ

جديدة في كفها المضطربة.. ثم ما لبث أن صدرت عنها آهات متقطعة.. ونحيب متهدج وكأنه خرير قطة محرومة.. ثم انغرست يدها في حقيبتها مرة أخرى.. أخرجت منها قرصاً مرناً.. رمته نحوي بازدراء.. تناوله صاحبي بفضول.. لاحت آمارات الدهش على محيّاه.. هتف باستغراب:

- أغنية هجرتك.. أتودين سماعها ست كوثر؟

ألقت عليه نظرة هازئة لا تخلو من عتب ثم قالت:

- لتهنأ به سلة المهملات.. ودع مسجلك يتصدق علينا بأغنية سليمى.

أذعن صاحبي بفرح .. وأخذت كوثر تدندن معه بصوت مفعم بالشجن.

أرى سلمى بلا ذنب جفتني

وكانت أمسِ من بعضي ومني

كأني ما لثمت لها شفاهاً

كأني ما وصلت ولم تصلني

كررها المسجل عدة مرات.. بينما كانت عيناها اللوزيتان تعكسان حيرة المعاني وهي تفنى بأسى في أعماق روحها.. إلى أن أعياها الحزن فانسحبت بخطوات واهنة وأنفاس لاهثة.

؟ ؟ ؟

في عمق الرحلة..عند محطة متأخرة

الضوضاء تزفر أنفاسها الأخيرة.. أنوار ضحلة تتصفح أجساداً هائمة.. المكان يضج

بالظلال المترنحة.. آذان مسترخية يحفها طنين موسيقى حائرة.. جيب النادل الشاب يزداد انتفاخاً كلما تحررت الطاولات والمقاعد من الرؤوس المحشوة بالمتعة.

أما أنا فأصابني نوع من الغضب والريبة بعد أن ابتلعت بوابة الحانة السيدة كوثر.. فقد أتعبتني حكايتها البليدة التي يبدو أنها لن تحظى بنهاية سعيدة.

ومع أن صاحبي بات يشعر بالفتور إزاء أولئك الذين ينضمون إلينا عبر محطات متأخرة من الرحلة إلا أن هذا لم يمنعه من الترحيب بالسيد أمين الذي يعد من أعرق مريديه.. ومن أشدهم إثارة وغرابة.. فهو لم يشذ إطلاقاً.

حين يأتي يبدو حانقاً وصدره مشبع بآهات الغيظ والقهر.. لا أدري متى سيؤوب إلى نفسه.. ويقتنع بأن زوجته لم تعد قادرة على تغييره بعد أن تعدى بوابة الخمسين بأعوام عدة.

خلال محطتين.. يلتهم كأسين.. يطول ويقصر على راحته.. ينشد بحرية ما لا يقوى على إنشاده في مكان آخر.. يصب ما تفيض به نفسه من عواطف ومعانٍ مكبوتة.. تتدحرج فوق سطحي.. يمتصها صاحبي.. يذيبها.. يصنع منها مصلاً من المسرات والرفعة.. يحقنها في صدر السيد أمين.. فتغزوه البهجة والأنفة من جديد.. لحظتئذ يمضي وقد شحنت روحه بزاد يحسب أن لن يجرؤ على امتلاكه أحد.

مع انحسار الرحلة.. يعتقونني واحداً تلو الآخر.. صفعة خفيفة أتلقفها من يد صاحبي بعد خلو

كل مقعد من المقاعد المنتصبة قبالتي.. تتلقفها مساماتي برفق.. فسطحي بات معنياً بالوجع

الذي يسكن صاحبي.. كم تمنيت أن تنبت لي يد غليظة لأصفعهم بها.. فعلى الرغم من أن كلا منهم يدعي بأنه صفيه وخليله إلا أن أحداً لم يخطر على باله يوماً أن يباغتني ولو مرة واحدة ويغدو كاهناً لصاحبي.

؟ ؟ ؟

في نهاية الرحلة.. عند المحطة الأخيرة

الهدوء يسود من جديد.. الليل الحالم يتثاءب.. جبهة الصبح تتمطى.. شتات من أنوار واهنة

تتبدد.. الموسيقى الخجلى تتنحى.. الطاولات والمقاعد تلفظ ما تبقى من أجساد مثقلة برؤوس قد جوفها من نشوة عابرة.. النادل الشاب ينسحب بعد أن يصلح ما أفسدته يد السهر الطويل.

أما صاحبي فلا يغادرني قبل أن يصلني ويعتني بي.. فأنا الطاولة الرئيسة التي يطل من وراءها.. يتلقى من زبائنه نداءات الاستغاثة وآهات الرضا.. فيهديهم المسرات ويوزع عليهم البركات.

تمتد نحوي يده الحانية.. تنساب فوق جسدي برفق.. تقتلع نتوءات المتعة التي انسفحت على سطحي.. تمحو بقايا الليل العفنة.. تلاطفني.. تداعبني.. تطيبني.. ترسمني كدمية جميلة.

حينئذ أشعر بالراحة والسكينة.. فأغفو غير مبالية بالصخب النهاري الذي بدأ يتنامى خارج حدود مملكتي.

المؤلف في سطور

اياد جميل محفوظ قاص سوري ولد في حلب 1956 لاعب سلة سابق يعمل في حقل الهندسة المدنية في مدينة« العين » أصدر حتى الان ست مجموعات قصصية هي : أحلام الهجرة العكسية، بين فراغين ،سياحة شرقية،ينابيع الحياة، إيقاعات الروح المنسية، ومجموعة اليوم الشاطيء الآخر.

Email