السمك.. تغريب الأهلي فينا

السمك.. تغريب الأهلي فينا

ت + ت - الحجم الطبيعي

السمك: تغريب الأهلي فينا، حيث خط الاتصال مقطوع بينه وبيننا! إنه شريكنا في الحياة دون أن يكون المؤثر الحياتي المباشر فينا رغم دوره الكبير حياتياً، ابتداعنا الذي لا نهتم به وهو الممثّل لمساحة مائية أكبر من كوكبنا!

من الصعب، إن لم يكن مستحيلاً الحديث عن وجود أي صلة رحم مشتركة، من قبل الإنسان، بينه وبين السمك!

يظهر السمك في الطرف الأقصى من الاعتبار في سلَّم الكائنات الحية، انطلاقاً من البيئة المغايرة كلياً لبيئتنا.

إذ من السهل التلاعب بالسمك في الماء، أو استهدافه بمتعة، أو النظر فيه وهو معرَّض للنهش أو تمزيقه من قبل دب أو طائر جارح وغيرهما، دون أي تغيُّر عاطفي يذكَر أو من جهة التأثر بالمشهد اللحمي الممزق والمريع. أليس الاستئناس بصيد السمك بصنارة، مثلاً، أشبه بمطاردة أي حيوان برّي في بيئتنا؟ هل دُقّق في البيئة المائية وكيف يعبث بها؟ كيف يُراعى هنا مفهوم ( الجمال البيئي)، من خلال الثراء الهائل والمتكامل لأنواعه وأجناسه؟

ينطلق كل منا في ترتيب علاقته بالكائنات الحية، من ذات البيئة التي يعيش فيها، وذلك من خلال التركيب العضوي الذي يصله بغيره ولو بصورة لا شعورية، حيث القرابة العاطفية تتحدد على أساس طبيعة المشاركة أو نسبتها، لتكون البيئة فاصلة في ترسيم حدود القيم والأذواق التي نعرَف بها. لعل آلية التنفس لافتة في العلاقة هذه.

إن رؤية أحدهم وهو مقبل على تناول لحم حيوان بحري، مثلاً، وفي مطاعم خاصة، وبطرق لافتة، تبرَز نوعية المشاعر التي تلوّن رؤيتنا للبيئات المختلفة والكائنات التي تنتمي إليها، فنحن نسمّي بيئتنا إذ نتكلم قبل كل شيء.

والسمك هو أكثر استهلاكاً، وإذ يتم صيده دون حساب، يتراءى منزوع الروح كثيراً مقارنة بأي حيوان آخر يكون مجاوراً لنا في بيئتنا. إن شكل الكائن مقرَّر أيضاً هنا في تعزيز موقفنا الجمالي أو الأخلاقي، وفي السمك بجسمه المغزلي غالباً، حيث الحراشف تغطيه، وهو في عالمه المائي. نتعامل معه باعتباره لحماً حياً معفيً من أي شعور بالأسى أو الشفقة إزاءه. الآن المستهلك منه، وهو كثير جداً، يكون وراء سيرورة شعور من هذا النوع؟

إننا لا نلتقي بالسمك، ولم يحدث أن جرى حوارٌ ما بين بني الإنسان والسمك هذا، فلكل منهما عالمه الخاص، لا بل وما يميّزه كلياً عن الآخر، إذ ما أقل الحكايات الشعبية التي تتحدث عن أنسنة السمك أو تحيل السمك إلى شخصية حكائية مقارنة بأكثر الكائنات الحية إثارة للرعب وفق منطقنا، كالذئب أو النمر أو الحية القريبة من عالم السمك في القدرة على السباحة، ولكنها أقرب إلينا، وتصوَّر أحياناً بأنها مسِخت( ربما عروس البحر كانت مختلفة هنا، من خلال حيلة اختلاقية في أنسنة النصف العلوي منها للدخول في حوار ممكن، وحتى بالنسبة للدلفين، فإن المقدَّم حتى الآن لا يشفع بالحديث عما هو جدير بالتركيز عليه واعتباره مؤثراً!).

إن لقاءنا بالذئب، مثلاً، قد يحدث في ذات البيئة ومن خلال تآلف معين، ونحن يمكننا رؤيته يتحرك ملء العين في بيئتنا الطبيعية، ويتنفس مثلنا كذلك( ما أكثر تشبيهاتنا بالذئب!)، ولكن السمك المختلف في طبيعة تنفسه، وشكل جسمه، لا يظهر أنه في المستوى الاعتباري ذاته، إذ يتدخل اللمس بالمقابل في عملية التقويم، مثلما يشار إلى الفم أو اللسان الذي يسهّل لقاء رمزياً بكائن خارج عُرفنا أو منطقنا البشري، وحتى مفهوم( تمزيق الأوصال) قد لا ينطبق عليه كثيراً.

السمك حيوان لا جلدي، حيوان تجاوزاً استجابة لثقافتنا الأقرب إلى البرّية لا المائية، لا رقبة له ودونما أطراف كالتي تخصنا (الزعنفة هنا لا يُعتَدُّ بها لإقامة علاقة ما)، وهذا يزيد في النظرة الاستغرابية إليه وإمكان التصرف به دون شعور بالندم أو العطف كثيراً، أضف عامل الصوت فهو حيوان مجرد من الصوت المؤثر كتوم غالباً، لا نعبأ به كما يجب.

ليس من ميزة فيه تقربنا منه، كما هو انطباعنا البرّي عنه وهو المتحرك المحمول في الماء دائماً، ليكون في الحالة هذه، الكائنَ الحيواني المائي الأكثر تمثيلاً فيه وبدم بارد كما يقال( تُرى من ساءل نفسه عما ينتابه من شعور عاطفي لحظة إخراج سمكة ما من الماء، وإزهاق روحها بضربة ساطور وهي تتلوى ألماً بطريقتها السمكية ومن ثم كشط حراشفها، وتنظيفها وطبخها؟ أو وهي تُنزع عن مائها وتحتضر لتموت سريعاً؟). يا للعنصرية البيئية الممارسَة تلك التي نشهدها في تسييد بيئة على أخرى و«استعبادها»!

السمك: تغريب الأهلي فينا، حيث خط الاتصال مقطوع بينه وبيننا! إنه شريكنا في الحياة دون أن يكون المؤثر الحياتي المباشر فينا رغم دوره الكبير حياتياً، ابتداعنا الذي لا نهتم به وهو الممثّل لمساحة مائية أكبر من كوكبنا!

إن التفكير في عالم يؤمّن لنا أطعمة كثيرة، لا وجود للسمك فيه، يعد ضرباً من ضروب القيامة الكوكبية المصغرة علينا، لا بل يصعب التهيؤ له، إن راعينا الدور الفاعل للسمك كغذاء متنوع الفوائد في تكويننا الجسمي وتوازننا البيئي، عندما نتجاوز خاصية التنفس العائدة إلينا، وتجاهلنا لهذا النَّصب على بيئة هائلة والعبث بها دون مساءلة!

ربما ما زلنا بحاجة إلى إحداث ثورة تنعطف بنا صوب هذا العالم الأكثر رهبة وهيبة: عالم الماء، والحضور السمكي فيه، وكيف تكون أطباق السمك بمثابة أضحيات نستعجل في تقديمها أو إبراز ملذاتها، العالم الذي يكون السمك «مواطنه» الشاهد على روعته، وهو في وفرة أنواعه وأجناسه وأشكاله، ليكون في مقدورنا إعادة ترتيب بيتنا الكوني:

المائي والبري، وتعميق ألفة مثمرة أكثر، يكون السمك وحده شاهداً على مصادقة هذا التحول المرتقب، أي على أننا نأخذ بعين الاعتبار كل ما هو قائم في الكون، والسمك لسان حال هذا التوازن كثيراً!

إبراهيم محمود

Email