حياة

ترويض الدموع مشهدها المؤثر يلخص شخصية الإنسان في قوته وانكساره ووجده وحزنه

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

تشكل الدموع نهراً كونياً لا حدود له، وتشكل مع العيون الباكية لوحة عملاقة من لمحات الوجود الإنساني على تعاقب العصور والدهور وتباين الأزمان. وفي هذا الفيض المؤثر تنثر عيون البشرية شلالات الدموع لتكوّن فصلها الأثير في ملحمة الحياة الطويلة التي تكتنفها محاور من الأحزان والأفراح والآلام والسعادات. وفي كل محور يكون للدمعة بصمتها وأثرها وقيمتها في إكساء المشهد الإنساني لونه وطعمه وبقاءه.

ثمة دموع من حجر وأخرى من ماء وثالثة من عطور وغيرها من طيور..، يمكن لنا أن نتفنن ونستقطب فيض الأوصاف في شاعرية الدموع..، ففي الحس الإنساني ما يمكّننا من إضفاء لمسات توصيفية على شكل الدموع النازفة من العيون، فمشهدها الجمالي المؤثر والمثير هو تلخيص لكيان الإنسان وشخصيته في قوته وضعفه وتباهيه وانكساره. فالأداء البشري في تفصيلات الحياة يوجٍب على الدمعة الصغيرة أن تعبر حدود الإنذراف اليومي العصبي إلى ما تكونه بوصفها خلاصة وكيانا، تماهى العشاق والأدباء في التغني بأمجاد الدمعة وماهيتها وصفائها، حتى في أشد الحالات استسلاماً وقهراً.

دموع وأكاذيب تحجرت الدموع في عيني نابليون بونابرت وهو يقف مودعاً أهرامات مصر التي عشقها وتاه في معجزتها. وفي لحظة الوداع الأخيرة عرفت الدموع طريقها إلى حدقتي هتلر حين عزم على الانتحار مع معشوقته الجميلة «ايفا براون» فكانت دموع الهزيمة مثالاً على اليأس في أحرج اعترافاته. وعلى نحو أحدث، لا تزال صورة هلموت كول المستشار الألماني ماثلة في الذاكرة عندما بكى أمام الكاميرات التلفازية ورأى العالم انهياره الشخصي بعد هزيمة الحزب المسيحي في الانتخابات والذي كان يترأسه في تسعينيات القرن الماضي.

ويقرّب لنا التاريخ المعاصر دموع كلينتون بعد فضيحته في قضية عشيقته «مونيكا» عندما وقف أمام الشعب الأميركي، وهو يعتذر لتلك الفضيحة المدوية!، ويجب أن لا ننسى دموع صدام حسين الكاذبة عندما حاكم رفاقه مطلع سبعينيات القرن الماضي بدعوى الخيانة والتآمر، فكانت دموعه الشيطانية وهو يكفكفها مثالاً صارخاً على رخص الدموع في محفل السياسة. تشكيل الدموع عين المؤمن تبكي خشية من الله، فتهطل دموع التوبة والخوف الغامض في انغماس صوفي لا يُبارى، وهي دموع رقيقة ترى من خلالها الوجد الإلهي الصافي متجلياً في زجاجة خضراء لا يراها إلا من أذن له. ودموع رابعة العدوية في التوبة الإلهية لا تزال تنهمر في عيون البشرية الساعية إلى الخلاص من ملذات الدنيا، حباً بالخالد في السماء وشوقاً إليه.

دموع بن الملوح، دموع من عطور، تتساقط حروفاً وكلمات وموسيقى من الشعر العذري الخالد، ودموع بونابرت تتحجر في لحظة الوداع، فهي دموع المجد العسكري الحبيسة خلف خوذة واسعة بسعة الحرب. وذلك في ما كانت دموع هتلر المنتحرة، آخر غطاء لجسده المدجج بالأوسمة والنياشين في وهم البقاء الخالد. أما دموع هلموت كول فكانت عبارة عن اضطرابات في شخصيته المهزومة آنذاك، وتبقى دموع كلينتون الأكثر كذباً بين الدموع التي شاهدها العالم..

من القلب إلى الدموع

كل شيء يبدأ من القلب، فهو مفتاح الجسد، والعين إبصاره، وهي طاسة الدموع..، ويُنسب إلى الإمام علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه: (ما بكت عينٌ إلا ووراءها قلب)، والقلب صمام الفرح والألم معاً، فالإحساس بالحالتين، يتطلب سكب الدموع لإراحة الصدر والقلب من هموم كثيرة وكروب دائمة.

وعلميا يقال إن الدموع ما هي إلا رسالة موجهة من المخ إلى الغدة الدمعية، نتيجة انفعالات داخلية، فالدموع الأساسية هي التي تفيض من عيون جميع البشر، وتفرزها الغدة الدمعية بانتظام وتصرف من العين، أيضا، عن طريق مجرى الدموع.

نستطيع تشكيل الدموع بمسميات كثيرة، فدموع الفرح تنتج عن موقف مفاجئ، أو عن نجاح غير منتظر، أو مباغتة سعيدة تستقدمها لحظة خارجة من الحسابات الشخصية، وهي دموع متلألئة قصيرة ومبتسمة، لكنها تتكرر على نحو لا إرادي وتختلج وتبكي!

فتبرز عضلات العين ومسحتها الجمالية وتديم المسرّة في الوجه الباكي، وعلى نقيضها دموع الحزن التي تسوّد الوجه وتظهره بمظهر التشنج والتصلب والكآبة، فهذا النوع من الدموع مدرار كالمطر. لا ينقطع. ساخن. مؤلم. يحفر في الوجه ملامح الكارثة، ويوطّن الحزن في التجاعيد ويملأ الوجه قسوة لا نظير لها.

أما دموع الندم فخذوا أبا عبدالله الصغير مثالا، حين ما أضاع غرناطة، وأضاع الجاه والسلطان والمال والنساء والتاج والأبهة والفخامة، وكل اللذائذ الأرضية والدنيوية والاعتبارية، إنها دموع أكثر إيلاماً من الدموع كلها، وهي لا تخرج من العين، إنما من القلب ومن مسارب الروح.

هذه الدموع لها أسنان وأنياب وفكوك، تأكل الجسد والروح معاً وتزحف على الذاكرة فتخرب كل شيء فيها، دموع الندم عاصفة حارّة تقلع الأوردة والشرايين وتعبث في ملفات الماضي والحاضر والمستقبل، وتحيل المرء إلى كائن عشوائي خارج عن جاذبية الحياة.

قانون الحياة

هناك من البشر من لا يبكي مطلقا. وهؤلاء مصابون بمرض اضطراب الشخصية المضادة للمجتمع، أي أنهم يفقدون الحس البشري، ولهذا أمثلة كثيرة فمنهم من داخل أسوار السجون، فعادة ما يتحول صاحب هذا المرض إلى مجرم فاقد الحس، وهو مرض يصاب به الإنسان منذ الولادة وحتى الوفاة.

إن الذي لا يبكي له صفة حيوانية على الأرجح، هو كائن بلا عاطفة، اختلطت في دمائه بقايا أزمان ضائعة في بطون الحياة، فانعدمت فيه العاطفة، وانفقد الحس من تلافيفه الداخلية والخارجية، له عينان من حجر وقلب من قصب..، من يفتقد الدموع، يفتقد الحب، وعندما يفتقد هذه العاطفة يصبح طريق الإجرام سالكاً إليه، ومن الطبيعي أن يكون السجن مطرحا «مثالياً» لهذا النوع البشري، الخارج عن قانون الحياة ومعطياتها الجمالية.

دموع العشق السرية

بكاء الطفل معذّب، حتى وإن كان بسبب حالة بيولوجية. لا يبكي الأطفال بأحاسيس الكبار مطلقاً، فدموعهم رذاذ صافٍ هو عصارة المطر وخلاصته. بل هو رحيق مختوم من السماء..، ودموع الرجل موقف، نسميها الدموع الصعبة، وما يستحضره لنا التاريخ من دموع رجالية على مر الأزمان، إنما هي استثناءات تاريخية، بها حكمة ولها رؤية ومنها درس. الدموع الصعبة سرية في غالب الأوقات، وما يرشح منها علناً، فهو نادر. فالرجل عكس المرأة.

يمكنه أن يدرأ دمعته ويؤجل ولادتها إلى حينٍ..، ثمة بكاء عام لا يعنينا يحصل في أية لحظة، وبكاء المرأة فيه شروحات متتالية..، دموع الأم عذاب مزمن وتاريخ من الألم.

دموع قروية قاسية تنتج فضاء غريباً من الفراغ، إنه حكاية طويلة لا مفر من سماعها في الليالي الصامتة والتطبع عليها، وبكاء الأب تاريخ طويل من الأسى لم تقف عليه الأدبيات كثيراً، دموع الحب وردية أو بنفسجية، صامتة، ولها ليل مسهد طويل، تخالطها عَبَرات مخنوقة ونشيج صامت وأحلام زرق لا تنتهي.

هذا النوع من الدموع عاطفي مرحلي، لكنه عذب وجميل، لا يترك ندوباً كثيرة في الوجه غير الشرود، شرود العشق المستدام عبر أغنيات الليل وأناشيد الشعراء العشاق.

دموع الحب ملونة ولا لون لها، بطيئة، شقية، تتجمع في الحدقات ثم تنسحب وتتوارى وتذوب، كل دمعة عاشقة تقف وراءها آهة مستخلصة من مكان سري في الروح، لم يقف العلم بعد على ذلك المكان، وفشل التشريح الطبي في اكتشافها حتى كتابة هذه السطور.

دموع التماسيح لا العصافير

الرجل أقل بكاء من المرأة لأسباب كثيرة، والمرأة تستعمل البكاء سلاحاً فتاكاً في المناسبات والأوقات كلها، توصف دموعها بدموع التماسيح. لم يقولوا دموع العصافير مثلاً ولا دموع الفراشات أو دموع الظباء، ولكن لهذا قصة جاء بها العلم:

هناك صفة شائعة عن الدموع التي تذرف لإظهار حالة غير حقيقية وهي صفة «دموع التماسيح»، التي تُقرن بدموع المرأة، فللمرأة أسلحة كثيرة، أشدها براعة هي الدموع، لكن علينا أن نختبر الموصوف به وهو التماسيح، فالتماسيح لا تبكي، إذ لا يوجد في تركيبها العصبي مكان للعاطفة، لكن قصة دموعها الغزيرة هي عندما تتحفز للانقضاض على فريستها، تتكون لديها طاقة هائلة بفعل مادة الأدرينالين، وباعتبار أن جلد التمساح مكون من طبقات سميكة من أصداف صلبة، فهذا يعني أنه لا غدد تعرق في جلده لإفراز العرق المتشكل في جسمه.

ولذلك فإن كل العرق الذي يفرزه جسمه في مثل هذه الحالة، يخرج من مكان واحد لا يوجد غيره، وهو عيناه..، ولذلك نجد التمساح وخاصة عندما يأكل يفرز كمية كبيرة من الدمع والعرق، إضافة إلى هذا فإن هناك عنصراً ثانوياً يساعد على زيادة خروج الدموع من عيني التمساح في أثناء تناوله للطعام، وهو عندما يفتح فكه الطويل فإن منطقة الغدة الدمعية تتقلص فتتساقط الدموع بغزارة ويظهر التمساح وكأنه يبكي!.

قصة ظريفة لمخلوق وحشي قبيح لا علاقة تشبيهية له بكائن شفاف وجميل اسمه المرأة، وأعتقد أن التشبيه توصل إليه عاشق لم يُعشق بحق، أو عاشق داهمته الخيانة أو أخر تكررت عليه نساء قبيحات..، ربما هذا وربما غيره، دموع المرأة تُشبّه بهذا الفيض الدمعي «التمساحي» عندما تستعد لمواجهة الرجل، إنها دموع ظريفة، لعوب في أغلب الأوقات، متحولة، ضاحكة وباكية في آن واحد. دموع عارية أحيانا إلى حد الشبق، وأحياناً ترتدي معطفاً مطرياً نازكاً، دموع التماسيح في المرأة متدفقة، فقدت صلتها بأنوثتها وتحولت إلى رصاصة نافذة.

وتستطيع المرأة في لحظتها «التمساحية» أن تحوّل دموعها إلى حجر صلد أو إلى زقزقة عصافير أليفة أو تكسوها بطبقات من النحاس!، فدموع التماسيح المتحولة في عيني المرأة مطاطية، قادرة على أن تكون كيف ما شاءت وأرادت ورغبت. لا وقت لدموع الأنثى، ففي جميع الأحيان الأبواب مشرعة لها، كالسيوف المشهرة في حالات النفير الدائم لمواجهة الأخطار المقبلة، دموع من قُبَل ربما، ومن حب، وهي ربما من دلع أو دلال!

دموع «غرناطة»

بعيداً عن الحاضر يمكن لنا أن نستقدم دموع «أبو عبدالله الصغير» في قصة مؤلمة من قصص التخاذل العربي القديم، عندما خرج مع أتباعه خارج غرناطة ينتظر الفاتحين الجدد ليسلم المدينة إليهم، وينهي آخر عهد للمسلمين في الأندلس، وحين سلمها ألقى على المدينة آخر نظرة وداع، فهاجت نفسه وخرجت العبرات من صدره، فأخذ يبكي مريراً، وحين شاهدته أمه في هذه الحال المزرية قالت قولتها المشهورة:

«ابك مثل النساء ملكاً مضاعاً لم تحافظ عليه مثل الرجال».

وارد بدر السالم

Email