الرماد والموسيقى

الرماد والموسيقى

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

في مكتباتنا العربية وفرة من الكتب والمجلات، التي تعني بالفنون وتحديدا الغناء. لكن الحديث عن هذا الفن، لا يستقيم عود له، ان لم يكن توسعا في كشف الفضائح وتعريفا بالفنانين والفنانات، الذين استحوذوا على العناوين الرئيسة للصفحات الفنية.

كاتبو سيرة هؤلاء يقصرون كتاباتهم على أخبار ومدونات، لا قيمة ولا منزلة لها، ان لم تكن وقفا على ما تثيره وتعرض له من حميميات الفنانين الخاصة، ستنشغل المجتمعات في تأويلها وتضخيم حوادثها لاحقا.عند هذا الحد تبلغ الكتابات الصحافية حالة الذروة. تاركة القاريء في رؤية ملتبسة، هي أقرب الى تحكمات المزاج منها، الى العقل، في غياب واضح لأعمال، تخضع هذا الفن لقراءات نقدية، تمزج بين التأريخ والسيرة، وبين ما تحاوله من قيم فنية تجديدية، انطوت عليه صياغاتها شكلا ومبنى. وهذا ما تعوضه دراسة أحمد الواصل الموثقة «الرماد والموسيقى» والمذيل بعنوان فرعي «حفريات في ذاكرة غنائية عربية»؟ان ما يشغل فصول الكتاب كما جاء في التقديم،هو حالات الصعود والهبوط بحسب عناصر كيمياء «الشخصية الثقافية» في ذراها وقاعها من ملامحها وتصورها، أو انعكاسها وفعاليتها هذا ما يتمثله الفصل الثاني (محمد عبده) وجزء من الثالث (كاظم الساهر).

والسادس (مروان خوري)، أما ما هو متصل بالحالة الاجتماعية وأزمة ذاكرتها، سواء في هويتها القومية المستعصية من تكوين موقف أو حال صناعة، جراء حدث سياسي موروث، أو قائم، فهو معتنى في الفصل الرابع (فلة الجزائرية) والفصل الأول (واصف جوهرية) وأما في تحولات استعصاء الهوية القومية بوعيها المفجوع ايدولوجيا فنموذجها الفصل الخامس (رجاء بلمليح).

لا شك أن الكتاب الموسوعة، والصفة هنا غير منوطة بعدد صفحاته التي تقارب ال450 صفحة وحسب انما بما تبلغه القراءة في مقاربتها لعشرات الاسماء ممن كانت لهم مساهمات في اطلاق الاغنية العربية من المحيط الى الخليج طوال قرن من الزمن، فيتسع قاموس الأسماء من المغنين والمغنيات حتى لمن كانت لهم محاولات خجولة ومحدودة.

لا يقف الواصل في قراءته النقدية هذه على بلاغة الآداء والموسيقى، مقصرا اياها، على ما يتيحه حسه النقدي وذائقته الفنية، انما على ما رافق الأغنية من تحولات سياسية واجتماعية وانتفاضات عسكرية، هكذا يتحول البحث في مكامن من أجزاء الكتاب الى استهلالات سردية تقوم على التوصيف السوسيولوجي والتاريخي والأدبي فتحضر أسماء العديد من الروائيين والمؤرخين وكتاب السيرة: ادوار سعيد، محمود درويش هشام شرابي حليم الرومي..

ينطلق الكاتب من مذكرات واصف جوهري تحت عنوان: «موسيقى الطربوش والعمّة» فيعرض لمفاصل نهضة الغناء والموسيقى العربيين خلال القرن العشرين المنصرم، وللتحولات الفنية العميقة المترافقة مع بدايات التدوين والتسجيل والسينما والمسرح، حيث تولد عن مخاضها، انتاج ورشة حداثة الغناء لتحظى مصر المكانة والريادة في الربع الثاني من القرن العشرين، «ثم تبعتها حظا بعض الأقطار العربية بعد المنتصف الثاني، الكويت ولبنان...» .

وقد أدرج الجوهري في مدوناته الفترة، التي كانت فيها القدس تحت الاستعمار البريطاني (1918- 1948) ، وكان قد أفرد قسما من بحثه لمرحلة سابقة على الانتداب، تناول فيها القدس العثمانية (1904 -1917) بدء عهد التسجيل والتدوين، للغناء والموسيقى الشغويين من قبل أصوات عرفها عالم الغناء والموسيقى العربيين.

لا شك ان الفترتين الزمنيتين التي شملتهما مذكرات جوهرية تشكلتا ضمير التحولات العربية الموسيقية، حيث ترافق تأسيس المؤسسات التعليمية وبناء المسارح وافتتاح الاذاعة، وصناعة السينما مع استقطاب كوادر بشرية مؤهلة وقادرة على تفعيل المواهب والقدرات.

تشغل القدس حيزا كبيرا من مذكرات واصف جوهري «ذلك الهاوي» العازف والمغني، المعلم ومناظر موسيقيا، الخبير الموسيقي، وصاحب المتحف...» تلك المدينة التي جعل منها تاريخها الذي يتجاوز آلاف السنين «مدينة ذات زخم جيو حضاري، اذا جاز التعبير الانترولوجي».

حيث تمثلت فيها ثقافة الغناء والموسيقى العثمانيتين كغيرها من الحواضر العربية الكبرى، فيرصد المؤلف أربعا من المدارس الموسيقية في الفترة الممتدة ما بين نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين : الاولى في شبه الجزيرة العربية (اليمن الحجاز..) والثانية في العراق، الثالثة في مصر وسوريا ولبنان، والمدرسة الرابعة في ليبيا وتونس والجزائر والمغرب.

المدرستان الأولى والرابعة حافظتا على صيغ الغناء العربي (الجاهلي والعباسي) في الجزيره العربية، أو (الاندلسي) في المغرب العربيين، حيث السيادة فيها للموال والموشح والأهزوجة، فيما نحت المدرستان الثانية والثالثة في اتجاهات لاءمت بين العصرنة والتقليد.

في تتبعه لسيرة واصف جوهري الذاتية يرصد احمد الواصل، البدايات الأولى للجوهري منذ عكوفه على تعلم الغناء العزف على عدة آلات، ويبرر الكاتب اغفال الواصل الارثوذكسي المسيحي عن سيرته أي ذكر للغناء والموسيقى الكنسية ذات الطقوس الكنسية الشرقية السريانية منها او البيزنطية الى «حال علمنة نفسية قطعت العلاقة عند جوهرية، مع المورث الموسيقي الكنسي وحال اغتراب الطقس البيزنطي عن الحال العربية في القدس».

ويعيد الواصل شخصية الجوهري الفنية المحافظة الى وقوعها في حال مستلبة بالتراث والأصالة ونفورا من حداثة الغرب وتقنياته. وهذه الفرضية تجاوزها الجيل اللاحق أمثال : ناصيف العرموني حليم الرومي ، خالد ابو النصر يحيى اللبابيدي حيث توفرت لهؤلاء فرص في غير فلسطين، فكانت بيروت مخبرا حقيقا لمواهبهم الفنية.

لا يرى المؤلف سببا مقنعا أورده جوهرية مبررا فيه توقفه عن الغناء بعد أن هاجر من فلسطين الى بيروت. فالاعتذار عن الغناء باعتبار «ان الحالة التي وصلنا اليها لا تمكنني من الطرب وانا رجل مشرد»، تنقضه مواهب فلسطينية فرضت نفسها، غنائيا وموسيقيا في بيروت مثل حليم الرومي أو محمد غازي أو سواهما ولا يستثنى المؤلف من اشارته تلك سؤالا ثانيا عن سرّ ما كتبه الاخوان رحباني وما غنته فيروز لفلسطين (1955 - 1968) لتسكن اسماء المدن الفلسطينية، من القدس العتيقة الى بيسان وحيفا ذاكرة الغناء الرحباني بصوت فيروز.

تؤسس قراءة أحمد الواصل المستفيضة عن الغناء العربي لصورة «من الاناسة الغنائية» من خلال دراسة الحالات والشخصيات الغنائية متجاوزا الأجزاء التقنية المنوط بها معارف وصناعة الأغنية وعلم العروض والسلالم والتوافق والطباق والتوزيع الى قراءة طبقات راسبة في كل أغنية عبر المجاز والصورة وحروف عالية ومنخفضة، الى صورة الحنجرة عبر شخصها ومجتمعها، وما يمكن أن تمليه ظروف الفترة الزمنية بكل مستوياتها الاقتصادية والايدولوجية والثقافية» باذلا عناية في تتبع تحولات صورة الفنان بعد أن أصبح الفنانون بعضهم ارثا قوميا ووطنيا لبلادهم.

الخاتمة التي شاء الكاتب ان يطوي بها صفحات كتابه، هي نص المقابلة التي أجرها الصحافي محمد الحجري معه. استفزازية الأسئلة مهدت لتحديد تعريفات تصلح لان تكون فاتحة للكتاب أو توطئة تسهل على القاريء النفاذ الى فكر أحمد الواصل النقدي والتعاطي معه بكثير من المرونة.

المؤلف في سطور

يعد «الرماد والموسيقى» الكتاب الثالث للشاعر والروائي السعودي أحمد الواصل، في الدراسات الثقافية عبر الغناء والموسيقى بعد كتابيه: «الصوت والمعنى 2003» وسحارة الخليج (2006) وللكاتب أيضا رواية يتيمة «سورة الرياض 2007»وله في الشعر أربع مجموعات شعرية:جموع اقنعة لبوابة منفى العاشق، دار الكنوز الادبية 2002.

و«هشيم جنازة لخطبة المارد التائه، دار النهار 2003 و«مهلة الفزع / سلوى لغير هذا الليل النجدي»، مؤسسة الانتشار العربي 2005و «تمائم فصول النبع أو صريخ الفاكهة»، مؤسسة الانتشار العربي 2007.

الكتاب: الرماد والموسيقىحفريات في ذاكرة غنائية عربية

المؤلف: أحمد الواصل

منشورات: دار الفارابي بيروت 2009

الصفحات: 450 صفحة

القطع: المتوسط

بيار شلهوب

Email