شادي عبد السلام.. من مصمم ديكور إلى مخرج عالمي

«منذ أن بدأت أعمل وأنا أعتقد أن لي قضية.. قضيتي هي التاريخ الغائب أو المفقود.. الناس الذين نراهم في الشوارع والبيوت.. في الحقول والمصانع.. لهم تاريخ.. هؤلاء الناس أغنوا الإنسانية.. كيف نعيدهم للدور نفسه، كيف نستعيد مساهمتهم الإيجابية والقوية في الحياة، لا بد أولا أن يعرفوا من هم؟ وماذا كانوا؟ وماذا قدموا؟ لا بد أن نوصل بين إنسان اليوم وإنسان الأمس لنقدم إنسان الغد. هذه هي قضيتي».

قبل أن يرحل عن عالمنا بأشهر قليلة، كتب شادي عبد السلام هذه الكلمات، وكأنه أراد أن يترك لنا ما يعبر به عن مكنونات نفسه، ويسهل لنا الطريق لاكتشاف تلك الشخصية التي عشقت الفن فعشقها وفتح لها أبوابه على مصراعيها، فأسرع في دروبه، دون أن يخطفه بريق الشهرة والمال ليحيد به عن قضيته، فقد كان محقاًّ حين قال: (لقد حافظت على نفسي طوال حياتي من التلوث التجاري، كنت أبني نفسي بالقراءة والبحث والتعلم، ولقد مررت بلحظات كثيرة من الضيق الشديد نتيجة أنني لا أعمل.. إن العمر نطاق محدود جداًّ.. إنني لا أعمل السينما على أنها شيء استهلاكي.. ولكنني أعملها كوثيقة تاريخية للأجيال القادمة) وقد رأت إدارة مكتبة الإسكندرية أن تقتني تراث هذا الفنان، الذي وضع السينما المصرية على خريطة السينما العالمية، فأقامت قاعة (عالم شادي عبد السلام) كمعرض دائم بالمكتبة، يتضمن مكتبة شادي وأصول تصميماته للديكورات والأزياء، وهي القاعة التي تم افتتاحها بمناسبة الاحتفال باليوبيل الماسي لمولده.

والتجول داخل القاعة ينقل الزائر بحق إلى عالم شادي عبد السلام، فيجد نفسه محاطاً بلوحات تحمل أصول تصميمات الملابس والديكورات التي تحول بعضها إلى واقع جسدته أفلام: واإسلاماه، عنترة بن شداد، ألمظ وعبده الحامولي، وأمير الدهاء. وفي أحد جوانب القاعة نجد مكتبة شادي، تلك المكتبة التي عاش بين طيات صفحات كتبها يقرأ عن الحضارة المصرية القديمة، والحضارة الإسلامية، والفنون والعمارة، وتاريخ مصر، والسينما والمسرح، والحضارة الأفريقية، والأدب، فبنى ثقافته ورؤيته الشخصية وحدد رسالته التي حملتها أعماله.وفي جانب آخر يلمس زائر القاعة بنفسه جزءًا من حياة شادي الشخصية فيجد بعض مقتنياته الخاصة من قطع الأثاث والأواني النحاسية والميداليات والجوائز والشهادات التي حصل عليه في حياته أو بعد وفاته. وفي صالة العرض السينمائي الملحقة بالقاعة يستطيع الزائر وفقاً لمواعيد محددة مشاهدة أفلام شادي السبعة وجميع البرامج والأفلام التسجيلية التي تناولت شادي عبد السلام ومسيرته الفنية.

الرحلة

على الرغم من أن شادي عبد السلام تخصص في العمارة التي درسها على يد المعماري الشهير حسن فتحي، فإن حبه للفن جعله يطرق بابه، وقد كان المخرج الكبير صلاح أبو سيف الذي كان جاراً له في حي الزمالك بالقاهرة، سبيله إلى عالم الفن، الذي ما إن دخله حتى تنقل من مساعد مخرج إلى مصمم للديكور، إلى أن حقق حلمه بالوقوف وراء الكاميرا مخرجاً.

كان شادي عبد السلام قد قرأ قصة اكتشاف المومياوات في الدير البحري لأول مرة عام 1956، وكان لهذه القصة وقع كبير عليه، فثمة علاقة وجدها شادي بينها وبين قضيته الأصلية، فهذه المومياوات التي ظلت راقدة في الدير البحري لسنوات طوال هي إنسان الأمس، الذي أراد شادي أن يكتشف أسراره ليعلمها إنسان اليوم، ليصل إلى إنسان الغد.

ظلت قصة اكتشاف المومياوات مسيطرة على شادي عبد السلام خلال فترة عمله كمساعد مخرج لصلاح أبو سيف في أفلام الوسادة الخالية والطريق المسدود وأنا حرة، ثم مع الأستاذ بركات والأستاذ حلمي حليم في (حكاية حب) وهو الفيلم الذي قام شادي بتنفيذ ديكوراته التي لفتت إليه الأنظار كمصمم للديكور، فقام خلال الفترة من عام 1960 إلى عام 1967 بتصميم ديكورات وأزياء 12 فيلماً مصرياًّ.

كان عمل شادي في السينما العالمية مرحلة هامة في حياته الفنية، فقد أكسبته خبرته مع المخرجين العالميين الذين عمل معهم دفعة نحو تحقيق رغبته في الانتقال إلى مهنة الإخراج، فمن تصميم ديكورات فيلم (كليوباترة) للفنان العالمي جوزيف مانكوفيتش عام 1964، إلى التأثير الفكري لروبرتو روسيلليني الذي صمم له ديكورات وأزياء فيلم (الصراع من أجل البقاء).

إلى المخرج العالمي كافليروفيتش الذي عمل معه مستشاراً تاريخياًّ للديكور والأزياء في فيلم «فرعون»، والذي يعتبر نقطة الانطلاق الحقيقية في حياة شادي، فقد وقف لأول مرة في هذا الفيلم وراء الكاميرا، إذ جعله كافليروفيتش يخرج إحدى لقطات الفيلم، وقد عاد بعد تصويره ليبدأ فيلمه الروائي الأول (المومياء) أو (ليلة إحصاء السنين).

بدأ تصوير «المومياء» في مارس من عام 1968، بعد فترة إعداد استمرت لسبع سنوات، وأتم تصويره في 18شهراً منها 40 يوماً في تصوير مشهد النهاية وحده، وهو فيلم مركب عن الهوية المصرية الممتدة بجذورها إلى الفراعنة، من خلال موضوع بيع الآثار المصرية، وإدانة الروايات الأجنبية التي تبرر نهب الآثار بحجة حمايتها.

أما «شادي عبد السلام» فقد قال عن فيلم المومياء: «أريد أن أعبر عن نفسي وعن مصر، إننى أسعى إلى شكل سينمائي مصري، بالعودة إلى أصول الفنون التشكيلية الفرعونية، وقد أردت من خلال قصة اكتشاف (أحمد كمال) عام 1881 لمومياوات الدير البحري، وهو من أخطر الاكتشافات الأثرية أن أعبر عن شخصية الإنسان المصري الذي يستعيد أصوله التاريخية وينهض من جديد».

كان تاريخ مصر الفرعونية هو الموضوع المفضل لدى شادي في كل أعماله على قلة عددها بداية من فيلمه الروائي الأول «المومياء» (1968) ثم فيلمه الروائي الثاني «شكاوى الفلاح الفصيح»، (1970)، والذي أخذ قصته من بردية يعود تاريخها قبل أربعة آلاف سنة، و«جيوش الشمس» و«كرسي توت عنخ آمون» و«الأهرامات وما قبلها» و«عن رع رمسيس الثاني».

وحتى الفيلم الذي لم يمهله القدر ليتمه، «مأساة البيت الكبير» أو «إخناتون» والذي أعاد كتابة السيناريو الخاص به أربع مرات، آخرها المرة التي عدل فيها السيناريو تماما وفقاً لدراسة بحثية في التاريخ والحضارة، وانتهى من إعداد جميع التصميمات للديكور والملابس، ولكنه لم ينفذه لعدم وجود التمويل اللازم.

اختير شادي عبد السلام، من رابطة النقاد الدولية بفيينا ضمن أهم 100 مخرج عالمي، خلال تاريخ السينما، فهو يعتبر من العلامات البارزة في فنون الإخراج والتصميم والديكور السينمائي، ارتبط بالثقافة المصرية والفرعونية وقدمها في كل أعماله، فكان له ذلك الطابع الخاص الذي تميز به.

«يا من تذهب سوف تعود»

«يا من تنام سوف تصحو»

«يا من تمضي سوف تنبعث»

بهذه الكلمات قدم شادي عبد السلام لفيلمه الأول المومياء، وها هو يعود من جديد في قاعته بمكتبة الإسكندرية ولكن ستظل محاولات إعادة اكتشاف شادي عبد السلام وفنه ورؤيته للواقع مستمرة ولن تتوقف.

خالد عزب

الأكثر مشاركة