رشا الأمير.. أقف إلى جوار المهزومين

رشا الأمير.. أقف إلى جوار المهزومين

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

لا يشبه كتاب رشا الأمير« البلد الصّغير» الصادر حديثاً باللغة الفرنسية، ما عداه من كتب ومؤلفات قد تقع عين القارئ أو يده عليه. إنه قصة للصغار شكلاً ومن المرجّح أن يشاركهم الكبار قراءتها. تروي رشا الأمير هذه المرّة وبخيال الأطفال وألوانهم ورسوماتهم ومفرداتهم حكاية بلد صغير «تمنّى الجغرافيون عدم رسمه على خرائطهم»؛ بلد يبدو من الخارج جنّة لكنه في الحقيقة جحيماً. تضع رشا الأمير إصبعها في الجرح، لا بل الجراح. تستحضر الكاتبة من ذاكرتها أحداثاً عديدة، ترويها للصغار، والكبار على حد سواء بأسلوب شاعري ممتع.

تخبرهم الكاتبة بين المزاح والجد كيف يتغنى بلدهم بأدبائه وأطبائه ومبدعيه وكيف يتحول مريضاً، واهناً، خائر القوى عندما يتعلق الأمر بتسديد حسابات البنك الدولي !..«مسارات ألتقت رشا الامير وكان معها هذا الحوار التالي نصه:

«البلد الصغير» ألبوم مكتوب بلغة فولتير، وهو مزيّن برسومات مدهشة بريشة دانيال قطّار. فما هي قصّة ظهورك، أنت الروائية باللغة العربية، على أجنحة هذا الكتاب، الموجّه من حيث المبدأ للناشئة، غير أنّه في الواقع لا حدود لفئته العمرية؟

وراء الكتاب غابة قصص! خواتم العام 2006 إتّصلت بي محرّرة مجلّة ديو السويسرية الناطقة باللغة الألمانية عشيّة استعدادها لإصدار عدد خاص عن النسوة المؤثّرات في المشهد العربي، طالبة منّي أن أكتب لها أقصوصة، وبعد الالحاح قلت لها إنني لن أكتب بالعربية وذلك رأفة بالمترجم كائناً من كان، أعطتني المشرفة على العدد الأمان : «اكتبي ما يروق لك وبلغة خيارك».

نُشرت أقصوصتي بعد شهرين في المجلّة ووصلني ممن قرأ النّص بالألمانية والفرنسية ردود فعل مشجّعة.أحب القراء لروح النّص.. حماسة هؤلاء دفعتني إلى التفكير جدياً بتحويل تخريفتي أو أرجوزتي إلى كتاب مصوّر.

دانيال قطّار ورندا عبد الباقي شريكتان أساسيّتان في كتابك المصّور.ما دورهما؟ كيف ترجمت دانيال نصّك إلى صور؟ كيف وزّعت رندا الكلمات على الصّفحات؟ هل قصّدتن أن تؤلّفن فريقاً نسائياً يعكس صورة البلد الصغير الحضارية؟

ما أعقد وأمتع العمل الجماعي ! ذات يوم بعيد. وقبل أن أتأكّد من أن الكتابة بلغة إقرأ هي مصيري تمنّيت أن أدير فريقاً سينمائياً هوليوودياً !.. إذا كان كتاب بفريق عمل متواضع قد احتاج إلى هذا الكمّ من البحث والعمل، فكيف بفيلم عملاق على النّمط الأميركي !

ليس «البلد الصغير» بسوبر برودكشن، بيد أنني، وأنا أتحرّق كي أراه كتاباً من ورق وألوان فكّرت بهؤلاء المخرجين والمسرحيين الذين يجالسون نصّاً ويحوّلونه إلى شخصيات من لحم ودم. يوم تكرّمت عليّ صدف الحياة وأهدتني اللقاء بدانيال التي وافقت أن تحمل معي مسؤولية «البلد الصغير»، كنت قد قطعت مفازة من مفازات الربع الخالي. أحببت عند دانيال حسّ دعابتها، فأنا لا أتخيّل حياة لا ضحك فيها، كما أحببت أريحيتّها ورحابة قلبها الذي اتّسع لكل المشاكل التي اعترضت تصوير «البلد الصغير».

لمّا تقدّمنا دانيال وأنا في العمل بحثنا عن رندا ووجدناها! رندا أمرأة استثنائية، رسّامة ومخرجة مرهفة تمكّنت من التغلغل في كلّ صفحات الكتاب.. ليس العمل الجماعي بتمرين سهل، علماً أن ثلاثتنا مشغول دوماً، واحدنا بالنشّر، وأخر بالتعليم و الاخر بإدارة حياته الخاصة.

«دوزنّا» مواهبنا وعملنا لشهور طويلة معاً أتاحت لنا أن نتعارف إنسانياً وفنياً.أنا فخورة بتعاوننا وأتمنّى أن لا تنفضّ عرى اجتماعنا وأن نخطّط معاً لمزيد من العمل المشترك. بقلمك وريشة دانيال قطّار وإيقاعات رندا عبد الباقي يتحوّل البلد الصغير، وهو على الأرجح بلدنا، إلى شخصيّة ذات ملامح. كيف عملتم على رسم شخصيّات الأبطال الثلاثة؟

ما يسمّى الكاستينغ بلغة السينما والتلفزيون، أي إختيار الممثل أو الممثلة هو، بلا شك، اللحظة الأدقّ والأصعب في أي عمل مشهدي. اخترنا ملامح شخصيّاتنا الثلاث بعد محاولات ونقاشات وتفكّر طويل. أظن أننا وبعد لأي وتردّد نجحنا في أنسنة «البلد الصغير» وشخصيّتي ألبي وثريا.

عمارة يعقوبيان سرعان ما صارت فيلماً، وتطفل ماريل ستريب استحالت مسرحية، والشعر يجنح اليوم أكثر وأكثر أن يصير مشهداً، أي أن الشاعر والكاتب المعاصرين مرشّحان أن ينافسا الممثلين والمنشدين، أتظنين أنّ الآداب على أنواعها ـ والمكتوب بشكل خاصّ ـ آيلة لا محالة إلى مشهد مسموع ومرئيّ ؟

نحن في خضمّ ثورة تكنولوجية، سياسية وإنسانية، تفرض علينا إملاءاتها وشيمها. الكتابة إلى تغيّر، هذا صحيح، بيد أنّها وإن حاول أهل السوق التلاعب بمكوّناتها الجينية قادرة على الدفاع عن نفسها .نجوم كثيرون يعيشون بيننا ويزدرون الإسفاف والدهمائية. فقران الأدب والمشهد، الشعر بالصّوت والغناء، والأدب بالمسرح والسينما قد يصالح الجمهور مع الأدب الشاهق.

إبن المقفع وأبو حيّان إمامان من أئمّتك حين تكتبين بالعربية. فهل وضعت أنطوان دو سان إكزوبري وأميره الصغير نصب أعينك حين كتبت بالفرنسية؟

الأمير الصغير واحد من كتبي الأثيرة. أهديته إلى كلّ أحبابي وله مكانة طفولية خاصّة على أرفف مكتبتي. إنّه كتاب على حدة في تاريخ الأدب والكتابة. لكم تمنّيت أن أتعرّف إلى كاتبه الطيّار أنطوان دو سان إكزوبري. قرأت كلّ كتبه واهتممت بسيرته، حتّى إنني تعطّرت لفترة بعطر يحمل عنوان أشهر كتبه: طيران الليل، فول دو نوي وهو من أوائل العطور التي ألّفتها دار جفنشي الشهيرة عام 1904.

أدب سان إكزوبري يعطّر قلبي جوار آداب أخرى. أعيد دوماً قراءة تيستو الأصابع الخضراء، الكتاب الوحيد الذي كتبه موريس دريون للناشئة، كما أعيد قراءة أليس في بلاد العجائب و روايات الإخوة غريم من مثل هنزل وغريتل. أحبّ هذا النوع من الأدب. يقدّم نفسه على أنه ساذج طفولي، بيد أنّه ممتع وشيطاني.

لمّا كتبت البلد الصغير، وكان لبنان خارجاً من حرب مدمّرة، حملت «حبري على كفّي» مقرصنة القصيدة الشهيرة (حملت دمي على كفّي) وكتبت. «عربيتّك الخاصة» مثار سجال وانتقاد. كثيرون ينفرون من «رخاميتّها» و«خياطتها العالية» ويعتبرون أنّ الرواية لا تكتب إلا بلغة كل يوم وأن العامّية ستنتصر لا محالة كما انتصرت الفرنسية والإيطالية على اللاتينية...

حسناً، أعترف لك أنني واقفة جوار المهزومين والمهزومات. يقول القديس بولس في واحدة من رسائله إنّه «يبكي مع الباكين».هكذا أنا، أبكي مع الباكين، وسوف أضحك بلا ريب مع الضاحكين.. لغة « أطاعن خيلاً وإقرأ هي ما أستطيعه جوار لهجاتي ولغاتي الأخرى التي قد تظهر في كتبي المقبلة، إن أنا كتبتها. بطل يوم الدين شيخ متفقّه وقد كتب الكتاب بقلمه الهوت كوتور على حدّ قولك.

الأبطال، أبطال الرواية يملون على الكاتب لغتهم. فكم أحبّ أن أقول كما قال فلوبير عن مدام بوفاري بطلته الشهيرة إنّني وشيخي شخص واحد ! .. لغتي إلفي وسكني، ومن لا يطق منزلي هذا، الخرب والمترف في آن، فليبتعد وليكفّ عن التبجح أنّه ضليع ختم القرآن ألف مرّة وحفظ المعلّقات عن ظهر قلب !

وجدت رواية يوم الدين، وسط السجال الذي أثارته، قرّاءتها وسيجد البلد الصغير جمهوره العابر للفرنكوفونيات، ما هو طموحك لهذا الكتاب الخارج عن النمطيات؟

أريد له ـ ولكل الكتب التي تنتج وتنشر ـ أن يجد طريقه فيمتع ويؤنس ويحثّ على بعض التّفكر والتفكير. طموحي له أن يُقرأ كما كُتب ورُسم وخُططت صفحاته بحنوّ ورهف وولع لا حدود لجموحهم.

رشا الأمير في سطور

* ولدت الكاتبة اللبنانية رشا الأمير في بيت يزخر بالكتب، ووالداها كانا مجمعين على أن العلم قيمة بحد ذاته، وكانت نشأتها، هي وإخوتها، على هذه الفكرة الطوباوية النبيلة.

* قرأت، وككل أبناء وطنها الصغير، لبنان، في مدرسة خاصة أوروبية الهوى، تدرس العربية والفرنسية والإنكليزية والعصر..

* درجت منذ صغرها على تدوين يومياتها وما تنتقيه من جمل تختارها من الكتب التي تطالعها.

* كتبت في الصحافة هاوية في المرحلة الأولى، ثم محترفة.

* حققت بروايتها الأولى (يوم الدين) إضافة رائعة للمنجز الروائي العربي، أكدت على كونها روائية من طراز فريد، والتي أثارت الكثير من الجدل وحظيت باحتفاء نقدي واسع.

البلد الصغير

يتحدث كتاب «البلد الصّغير» عن ملامح رجل وسيم يحبّ مرآته وعضلاته المفتولة، ويتأمل بحنان طفلين من أطفاله: ألبي وثريا الراتعين في نعمه والدارسين بلغات كثيرة، وفي كتب تاريخ غير متناغمة. ثم إنّهما متحابّان حبّاً (لا يفهمه الكبار على الأرجح). حبّ لذيذ طعمه طعم السكّر والعسل الذي تصنع منه أم ثريّا أطيب أنواع الحلوى.

بعد صفحات من اللهو والفرح، تدق ساعة الحروب، وتنقلب الجنّة إلى جحيم مزروع بالأسئلة وبالدّمار.لا يقتنع ألبي وثريا بمصيرهما وبمصير بلدهما الصغير الذي يصير في هذا الجزء من الكتاب عالة عليهما. يفكّر الولدان ويقرران اختطاف البلد الصّغير لإرغامه على «قول لا لمصيره». يخطفانه إلى البعيد حيث «العصافير لا تعلَّم الطيران، بل تطير بأجنحتها مذ تولد». يتفكّر البلد الوسيم، المشروخة مرآته بحروبه ومآساته، ويقرر أن يطير كما أراده له ألبي وثريّا.

محمد الحمامصي

Email