جميل حمودي يستوحي الحياة من جمالية الحرف العربي

جميل حمودي يستوحي الحياة من جمالية الحرف العربي

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

شهدت صالة «فري هاند» للفنون التشكيلية بدمشق ما بين 14 و24 من مايو الماضي معرضاً استعادياً للفنان التشكيلي العراقي جميل حمودي ضم 48 لوحة ومحفورة ورسمة منفذة بالألوان الزيتيّة والمائيّة وقلم الحبر، وأربع منحوتات صغيرة الحجم، منفذة في الخشب، وهذه الأعمال مجتمعة «وجلها من الحجم الصغير» تُشكّل حالة بحثيّة لافتة، تملكت الفنان حمودي كما تملكت غيره من جيل الرواد وما بعد الرواد، في التشكيل العراقي المعاصر بخاصة، والتشكيل العربي بعامة.

لاسيما منهم الذين درسوا الفن في الأكاديميات الفنيّة الأوروبيّة، وكانوا على تماس مباشر معه، بأساليبه واتجاهاته الحداثيّة التي جاءت مع أقطاب المعاصرة في الفن الأوروبي أواخر القرن التاسع عشر وخلال النصف الأول من القرن العشرين، مثل: ماتيس الذي اعتبر الأب الروحي للفن الحديث، وغوغان، وفان كوخ، وبول كلي، وكاندينسكي، وبراك، وبيكاسو، وآرب، وهنري مور، ومودلياني... وغيرهم الكثير.

فقد حاول جيل الرواد من الفنانين التشكيليين العرب الذين عاصروا هذه التيارات الفنيّة الغربيّة الجديدة، »وبعضهم تعرف شخصياً على بعض روادها« تمثلها بأطيافها كافة، قبل أن يركنوا إلى أسلوب خاص، ظل يدور في فلك هذا القرين الأوروبي أو ذاك لدى بعضهم، وحمل لدى البعض الآخر، هَمّ التأصيل، ورغبة التغريد خارج السرب الغربي الذي كانت له سطوة قوية وطاغية، على فناني العالم ومنجزاتهم خلال القرن العشرين، ومازال كذلك حتى اليوم.

جميل حمودي واحد من الفنانين الرواد الذين خاضوا غمار كل ما أفرزته الفنون الأوروبيّة الحديثة من أساليب واتجاهات، قبل أن يعلن بوضوح، أن فنه الذي يستوحي الحياة من ثناياها التعبيريّة والتجريديّة، يتحرك بين القيم الإنسانيّة، معتمداً جمالية الحرف العربي، تعبيراً عن حضارته وقوميته، وفي نفس الوقت، ينطلق على طريق الزمن المعاصر.

يُعتبر جميل حمودي من أوائل الفنانين التشكيليين العرب المعاصرين الذين خاضوا غمار الاتجاه الحروفي، حيث حاول منذ العام 1942، إدخال الحرف العربي في بنية المنجز التشكيلي الحديث، بهدف الخروج بمنجز بصري جديد مفتوح على التراث العريق لبلاده، من جهة، وعلى عصره وخروقاته التكنولوجية المدهشة، من جهة ثانية.

في البداية، حاول مزاوجة الشكل المُشخص (مآذن، واجهات كنائس، عمائر قديمة) مع التشكيلات الحروفيّة المرصوفة بحسٍ تكعيبي هندسي رشيق، ومساحات لونيّة صريحة، تتدرج بين الحار والبارد، والفاتح والغامق، تتداخل تكويناتها المبنية بإحكام، مع الخلفية، لتصبح وإياها كتلة واحدة.

أو نسيجاً متكاملاً ومترابط العناصر والوحدات الشكليّة، وتارة أخرى، يبرز التكوين من الخلفيّة: قوياً، واضحاً، متماسكاً، كون عناصره من الحروف والكلمات، رُسمت بدقة، ولوّنت بصراحة، ووزعت بحركيّة جميلة ومتقنة، فوق خلفية مبنية بمساحات لونيّة متنوعة الأشكال، هادئة الدرجات، وهو ما خلق حالة من التضاد اللوني والشكلي، أكده وأبرزه على حساب الخلفيّة.

وفي الوقت الذي نجح فيه الفنان حمودي، بتقديم منجز بصري حروفي تجريدي متكامل المقومات والخصائص التشكيليّة والتعبيريّة، في الأعمال الخالية من المشخصات، جافاه النجاح، في الأعمال التي جمع فيها بين الأشكال المُشخصّة والأشكال الحروفيّة التجريديّة، حيث بدت العناصر الواقعيّة مقحمة على المجردة، والعكس صحيح أيضاً!!.

لا شك أن ما قدمه الفنان جميل حمودي من تجارب حروفيّة، جاء برؤيّة حداثيّة أوروبيّة تجريديّة، لم تراع خصائص الحرف العربي وقواعده ونسبه، ولا أبعاده الروحيّة والدلاليّة، وهذا الأمر ينسحب بطبيعة الحال، على غالبية التجارب الحروفيّة العربيّة التي اكتفت بالأبعاد التشكيليّة للحرف العربي، وقامت بتوظيفها في منجزها البصري، وفق منظور تجريدي زخرفي بحت، مدفوعة بهاجس تحقيق فن عربي حديث، متفرد الخصائص الشكليّة والتعبيريّة.

والحقيقة المؤكدة، أن مساعي الفنان الحروفي العربي المعاصر، من أجل مزاوجة الدلالة التجريديّة الجماليّة للخط العربي، مع قيم التشكيل الفني المعاصر، لم تكن بالمسألة السهلة، بل كانت على الدوام مهمة صعبة وشاقة. على هذا الأساس، يجب على أي تجديد في هذا المجال، ألا يقطع الصلة مع إرثنا الجمالي في مجال الخط، بل بالأحرى السعي إلى الامتداد حضارياً، مع الاستثمار المتقن لزخم الحرف العربي، ومناخاته الفلسفيّة.

وإدراك بنيته التجريديّة، عبر صيغة تكامليّة، توفق بين البعد التشكيلي والبعد التعبيري والرمزي، لما يمثله الحرف العربي من قيم دلاليّة رفيعة بالنسبة للإنسان العربي والمسلم، كونه حرف القرآن الكريم، وحاضن تراث الأمة وحضارتها.

شاعر وتشكيلي

مارس جميل حمودي في باريس العديد من النشاطات الفنيّة العمليّة والنظريّة، وفي العام 1955 نشر ديوانه الشعري الأول باللغة الفرنسية (أحلام من الشرق) زينه برسوم من إبداعاته، وفي العام 1957 أصدر ديوانه الثاني باللغة الفرنسيّة أيضاً تحت عنوان (آفاق). أما في العام 1958 أصدر باللغة الفرنسية مجلة (عشتار الشرق والغرب) التي كرسها من أجل إيجاد تفاهم إنساني أحسن بين الشرق والغرب.

شارك في ندوات عالمية عديدة، ونشر مجموعة من الأبحاث والكتب حول شؤون وشجون الفن والآثار، وأقام عدة معارض فردية داخل العراق وخارجه، وشغل منصب أمين المتحف العراقي، ومديراً فنياً في دائرة الفنون التشكيلية العراقيّة، ومشرفاً على الفعاليات الثقافيّة والفنية في المركز الثقافي العراقي في باريس. حصل العام 2001 على وسام الشرف الفرنسي، وأسس جائزة للرسم تحمل اسمه، وفي العام 2003 توفي ببغداد.

إنجازات

انكب جميل حمودي بين عامي 1942 و1944 على دراسة فنون الحضارة العراقيّة القديمة، في مكتبة المتحف العراقي، وعام 1945 أنهى الدراسة في معهد الفنون الجميلة، في العام 1950 أقام أول معرض شخصي له في فرنسا، دخل بعدها عالم الثقافة الفرنسية، فدرس الرسم والنحت في المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة بباريس، والتخطيط في أكاديمية جوليان، وتاريخ الفن في مدرسة «اللوفر».

جميل حمودي

الفنان من مواليد بغداد عام 1924. دخل الكتاتيب، وتشبع بتعاليم الدين، وقراءة القرآن الكريم، ثم أتم دراسته وحصل على الدراسة الثانوية. أولى إنجازاته التشكيليّة كانت العام 1940 وهي عبارة عن مجموعة تماثيل لشخصيات تاريخيّة ومعاصرة، ما قاده إلى جمعية أصدقاء الفن التي انتسب إليها عام 1942 ليتعرف من خلالها، على الرواد الأوائل لحركة التشكيل العراقي المعاصر.

د. محمود شاهين

Email