«دانتيلا» الأخشاب ترفرف على بيوت الشرق

المشربيات.. «دانتيلا» الأخشاب ترفرف على بيوت الشرق

ت + ت - الحجم الطبيعي

معها يمكن الدخول في حوار رائع، تحكي هي عن نفسها، وتتذكر أنت مفردات الزمن الجميل.. زمن كان الناس يمعنون البصر في كل ما هو جميل ورائع وأصيل.. المشربية جزء من التاريخ الجمالي والمعماري والاجتماعي لزمن احترم فيه الفن.. والخصوصية والأصالة.. النحت على الخشب بأنامل من حرير توارثت هذه الصنعة أباً عن جد على امتداد أجيال وأجيال، غرست حب الجمال.. وقراءة ملامحه واستشعار قيمته من اللمحة الأولى.

بدأ ظهور المشربية في العصر العباسي الأول، وتدرجت هذه الصنعة حتى وصلت لقمة رقيها في العصر العثماني، انتشرت في مصر وبلاد الشام والحجاز والعراق واليمن.

والمشربيات في مصر انتشرت انتشاراً واسعاً وكان لها بعد اجتماعي يناسب زمنها الجميل، فكانت تحافظ على خصوصية البيت، فيمكن للنساء والفتيات الإطلال من ورائها على الشارع الممتد في رحابة وسكينة، دون أن يلمح المارة أو الجالسون على المقاهي أو المتواجدون داخل الحوانيت ـ أن يلمح أحدهم أهل البيت من النساء والفتيات، والطريف هنا حسبما عكسه الفن إن الفتاة ذات الجدايل يمكنها أن تطل على الشارع لمراقبة «ابن الجيران» خلسة دون أن يراها ودون أن يلمح ذلك أهل البيت، وهو موقف فطري يداعب الفتيات اللاتي تزداد حمرة وجنتيهن من الخجل.

ويقال إن كلمة المشربية تنحدر من كلمة «المشربة» لأن «القلل» الفخارية يدوية الصنع والمصنعة في صعيد مصر كانت ترص داخل صنية نحاسية لامعة، توضع وراء المشربية لتزداد مياهها برودة طبيعية منعشة عندما يمر الهواء على «القلل» المسامية، وكانت هذه «القلل» تقفل وتزين فوهتها بغطاء نحاس رشيق، تلميعه كان من ضمن مهام فتيات الدار، وكان يعلق عليه أحياناً مسابح فيروزية تزيده جمالاً وروعة.

أشكالها

من منا لم يتعلق نظره يوماً بالمشربيات الموجودة حتى الآن في منطقة الأزهر بالقاهرة، والتي تزين معظم المنازل التي دخلت التاريخ وما زالت تقاوم تحديات زمن جديد؟

من منا لم يتحرك فيه الحس الجمالي العالي عندما يلمح مشربيات بيت «السحيمي» وهو من البيوت القديمة العريقة في أزقة منطقة الأزهر وامتدادها، وهو البيت الذي تحول الآن إلى ساحة لممارسة الفن التشكيلي؟

من منا لم يقف طويلاً أمام بيت القاضي وهو البيت الذي شهد مولد كاتبنا العالمي نجيب محفوظ ـ ليدقق ويستمتع بالمشربيات التي تجمل البيت من الخارج وينعكس لون زجاجها الملون على الطريق في مداعبة غير مقصودة لشعاع شمس حط بنوره على المكان؟

تصنع المشربية من أرقى أنواع الأخشاب التي تحضر يدوياً من قبل صناع وحرفيين مهرة توارثوا المهنة وحافظوا عليها من الانقراض حتى الآن، برغم التراجع الشديد في صناعتها بالطريقة اليدوية ذاتها.

وتعتبر من فنون العمارة الإسلامية التي حققت التوازن فيما بين المعمار والتقاليد السمحة للإسلام، حيث وفرت الخصوصية لأهل المنزل من السيدات والفتيات، كما عكست جماليات رائعة في عناق الخشب المنحوت على شكل مربعات صغيرة أو مستديرات مع الزجاج الملون الذي يعكس ضوء الشمس داخل المنزل وتمر الهواء من فتحة المشربية للخارج بزاوية ضيقة.

والمشربية هي الجزء البارز للخارج عن جدران المبنى فتضفي ظلاً على الشارع كذلك، وكانت المشربيات تأخذ أشكالاً متعددة عن طريق النحت، فكان ينحت عليها الكتابة العربية أو زخارف نباتية أو أشكال هندسية.

وبلغ إتقان فن صناعة المشربية مداه في العصر المملوكي بمصر، ويظهر ذلك واضحاً جلياً في نماذج المشربيات الموجودة في مدرسة السلطان حسن الأثرية، ومتحف الفن الإسلامي بالقاهرة، وفي مجموعة المشربيات في منزل زينب خاتون وغيرها.

وتجلى جمال المشربيات في العمارة الحجازية وبلاد اليمن التي كانت المشربيات فيها تصنع من الحجارة بدلاً من الخشب.

ومن مزايا المشربيات أنها تدخل الهواء والضوء داخل المنازل بنسبة مناسبة، وهذه الميزة تتفق مع الطبيعة المناخية لمنطقة الشرق الأوسط التي يكثر في أغلب بلاده الضوء والرياح الموسمية.

وصناعة المشربيات تعتمد على القطع الخشبية الصغيرة التي تنحت بأشكال جمالية متقنة الصنع، وتبطن أحياناً بالزجاج الملون، وتتحكم زوايا نحاسية مشغولة على طريقة «التفريغ» في لصقها في أماكن خاصة من المربع الخشبي، فتزداد قيمتها الجمالية، وتزداد صلابتها وإذا كانت المشربيات تعكس قيمة جمالية واجتماعية وتراثية، بالإضافة إلى أنها من مفردات وتفاصيل زمن جميل مازال يعلق بالقلب والوجدان ويملأ الذاكرة بالشوق إليه.. فلماذا انحسرت صناعتها برغم كل المنافع التي تحتوي عليها المشربيات؟ سؤال يحتاج للعديد من الإجابات.

هل ولى زمن الجمال الأصيل، أو غاب الحرفيون وضاعت من بين أناملهم صناعة مثل صناعة المشربيات؟ أم ارتفاع تكلفتها حالياً في زمن لا يعترف سوى بارتفاع الأسعار، وهل حلت سياسة النوافذ المفتوحة على مصرعيها مكان العادات والتقاليد وحماية الخصوصية مكان تعشيقات الخشب والزجاج الملون؟

البعض من ورثة هذه الصنعة الدقيقة وهو الحاج إبراهيم الخليل الذي يمتلك ورشة لصناعة المشربيات بحي الحسين في القاهرة يقول: هذه الحرفة قلت وانحسرت كثيراً، لغياب الصناع المهرة الذين فضلوا العمل بالميكنة عن النحت اليدوي، الذي يعطي نتائج مختلفة تماماً عن ما كانت عليه في الماضي، ولم يظل الطلب على المشربيات مثلما كان من قبل، فقد اختصر حالياً على الفنادق الكبرى التي تخصص في بعض صالاتها الواسعة أركاناً تأخذ شكل المعمار الإسلامي والعباسي والمملوكي، مثل وضع براويز محفورة يدوياً على شكل تعشيقات المشربية ـ أو «بارافان» محفور يدوياً حسب طلب الفندق، كذلك هناك طلب من قبل الأثرياء في مصر لعمل مكان فسيح في منازلهم البرحة يعكس فن التعشيق بالخشب والزجاج.

ويضيف عم إبراهيم، ربما ارتفاع سعر الأخشاب حالياً لا يتيح لهذه الصنعة التراثية الانتشار مثلما كانت من قبل، ولكن هناك بدائل يمكن استخدامها مثل خشب النخيل أو الأخشاب ذات الجودة الأقل والتي يمكن معالجتها لتكون أكثر صلابة عن طريق إضافات أخرى لها.

وعند سؤالنا لم عن هذه الإضافات ـ عبر الهاتف ـ قال وضحكته تسبق كلامه: «دي من أسرار المهنة».. واحترمنا كلامه وسر مهنته.

وبسؤالنا لعم إبراهيم، إذا ما كان عصرنا الحديث هذا في حاجة للمشربيات؟ ضحك وقال: يا ستي المشربيات كانت في عصر يحترم الخصوصية والآن كله «على عينك يا تاجر»!!

وعندما غابت المشربيات في زمن ارتفاع البناء واكتسى بالزجاج وهو نمط يعرف هندسياً باسم «معمار ما بعد الحداثة»، عندما غابت المشربيات، ماذا يفعل عشاقها؟

حلول بسيطة تفرض حضورها هنا ـ فما عليهم سوى السكون إلى ذكريات زمن جميل «بفتح هذا الملف في زاوية ما من دماغنا»، أو السير على الأقدام في قاهرة نجيب محفوظ، وأزقة دمشق، وشوارع المغرب الضيقة، لمشاهدة مشربية هنا أو هناك يتعلق بها البصر، ويخفق لها الفؤاد، وتنحني أمامها الرؤوس لزمن كانت لهم خصوصية أصبحت الآن كالحلم أو الطيف.

حل آخر للاستمتاع بمشهد المشربيات وغيرها من المشاهد الجميلة كصنية «القلل القناوي» ذات القمع اللامع الذي يغلقها بإحكام من الأعلى، وهو متابعة تلك الأعمال الفنية التي غاصت في عصر الجمال والأصالة، كرائعة كاتبنا الكبير أسامة أنور عكاشة «آرابيسك»، ذلك المسلسل الذي صورت أحداثه في «خان داوادار»، حسبما كانت تنطق بفتح «الواو» على امتداد المسلسل، والغوص في التركيبة النفسية لشخصية حسن ارابيسك التي جسدها صلاح السعدني صاحب ورشة خراطة الأخشاب وصناعة الآرابيسك وهي كلمة تركية تعني المشربية والحفر على الخشب.

وفي محاولة لفهم سكان «الخان» الذين تمسكوا بالأصالة، إلا أن البعض منهم حاول القفز خارج الزمن والاستقرار في المجهول الذي لم تتضح بعد ملامحه وقتذاك.

وماذا عن «السفيرة عزيزة؟» عندما كانت تختلس نظرة سريعة على جارها من وراء المشربية تحت تهديد زوجة أخيها المتسلط، فقط وظفت المشربية في هذا العمل الفني كانفتاحة بسيطة تحاول البطلة من خلالها التمرد على السيطرة والقمع وربما خنق المشاعر.

وفي ثلاثية نجيب محفوظ، استخدمت المشربيات كنوع من القمع من قبل السيد أحمد عبد الجواد، وتوظيفها كباب زنزانة يغلق على أهل بيته.

وأياً كانت الرموز والجماليات التي تقف «وراء المشربيات» فهي مازالت تخطف القلب وتحرك الوجدان لزمن كانت كل تفاصيله تنطق بالجمال والتلقائية والحميمية، زمن ولد عملاقاً حراً صعب المنال.

وربما نصادف يوماً معرضاً للفنون التشكيلية، يتذكر صاحبه انعكاساً لمشربيات على جدارياته أو حتى على كروت وبطاقات الدعوة لحضور الافتتاح الكبير لمعرض الفن التشكيلي لأحد الفنانين ذوي الولاء لزمن المشربيات.

المشربيات حضرت في أدب محفوظ بقوة

إذا كانت المشربيات فناً من فنون الإبداع خاصة في القاهرة القديمة، إلا أنها اليوم تقاوم الدخول في التاريخ وتقاوم كذلك فكرة الإهمال وعدم الترميم، لأنها كانت يوماً حكاية تروى، وفناً قضى الحرفيون فيه العمر كله. كان لها بطولة المكان في روايات نجيب محفوظ، وسينما صلاح أبو سيف فهل لنا أن نعيدها لمجد كان؟

منى مدكور

Email