مؤلف هذا الكتاب هو واحد من أهم أساتذة الجامعات الفرنسية: جان بوبيرو. ويعتبر الاختصاصي الأول في موضوع العلمانية أو فصل الدين عن السياسة والتسييس. وهو الرئيس الشرفي لإحدى كبريات الجامعات الفرنسية: الكلية التطبيقية للدراسات العليا.

كما أنه مؤلف العديد من الكتب على مدار العشرين سنة الماضية نذكر من بينها: نحو ميثاق علماني جديد (1990)، التعددية والأقليات الدينية (1991)، الأديان والعلمانية في الاتحاد الأوروبي، العلمانية التطورات والرهانات (1996)، الأخلاق العلمانية ضد الأخلاق التقليدية (1997)، الدين والحداثة والثقافة في انجلترا وفرنسا بين عامي 1800-1914 (2002)، العلمانية بين الانفعالات الهائجة والتفكير العقلاني (2004).

وفي هذا الكتاب الجديد يقول المؤلف بأن العلمانية لم تعد استثناء أوروبيا ولا حتى فرنسيا، وإنما أصبحت ظاهرة عالمية منتشرة في شتى أقطار الأرض من إفريقيا إلى آسيا إلى أميركا اللاتينية. ولكنها تتخذ أشكالا مختلفة من بلد إلى آخر ومن حضارة إلى أخرى. فهناك علمانيات متعددة لا علمانية واحدة.

هناك علمانيات متصالحة مع الدين وعلمانيات متخاصمة معه. صحيح أن العلمانية الفرنسية كانت خلاصة صراع طويل ومرير مع الدين المسيحي والكنيسة الكاثوليكية على وجه الخصوص. ولكن العلمانية في انجلترا وألمانيا مثلا كانت متصالحة نسبيا مع الدين أو قل مع الفهم المستنير للدين.

ولا تمرد في ذلك. فالمذهب البروتستانتي السائد في هذين البلدين لم يكن معاديا لروح العصور الحديثة مثل المذهب الكاثوليكي البابوي الروماني السائد في فرنسا. وبالتالي فهناك حيثيات محلية تتحكم بكيفية تشكل العلمانية في كل بلد من البلدان.

ثم يردف المؤلف قائلا: ينبغي العلم بأن البلدان التي سبقت فرنسا إلى تبنّي العلمانية هي البرازيل، وكندا، والولايات المتحدة، والمكسيك. ولكن تظل فرنسا البلد الأكثر علمانية في أوروبا. والعلمانية لا تعني محاربة الدين أو منعه كما يعتقد الكثيرون وبخاصة في العالم العربي الإسلامي.

كما أنها لا تعني الإلحاد قطعا، فهناك علمانيون مؤمنون كثيرون. ولكن تعني فصل السياسة عن الدين أو عدم استخدام الدين لأغراض سياسية أو حتى انتهازية. كما أنها تعني حيادية الدولة تجاه الأديان والعقائد، بمعنى أن الدولة العلمانية تحمي جميع العقائد الدينية وتسمح للمواطنين بممارسة شعائرهم بكل حرية شريطة ألا يعتدي أحد على أحد، أو ألا يفرض أحد دينه على أحد بالقوة.

فالدولة العلمانية الحديثة على عكس الدولة الثيوقراطية القديمة لا تمنع كل الأديان والمذاهب لصالح فرض دين واحد أو مذهب واحد على الجميع. وإنما هي تعترف بكل الأديان والمذاهب وتحترمها وتعاملها على قدم المساواة.

ولكنها تفصل بين المجال العبادي الديني، والمجال الدنيوي السياسي، أي تفصل بين العبادات والمعاملات بحسب المصطلح الإسلامي الكلاسيكي. وعلى هذا النحو يستتب السلام الاجتماعي في الدولة وتخفّ العصبيات الطائفية والمذهبية حتى تزول تماما.

والسبب هو أن الدولة العلمانية تعامل جميع مواطنيها على قدم المساواة أيا تكن أصولهم الدينية أو المذهبية. فالدين لله والوطن للجميع ولهذا السبب فلا توجد توترات طائفية أو حروب مذهبية في الدول العلمانية المتقدمة كفرنسا، أو ألمانيا، أو انجلترا، أو هولندا، الخ.

نقول ذلك على الرغم من أن هذه الدول مشكلة من أديان ومذاهب مختلفة: كالمذهب الكاثوليكي، والمذهب البروتستانتي، واليهود، بل وحتى المسلمين الذين قدموا إلى أوروبا مؤخرا وشكلوا جاليات ضخمة في شتى أنحاء أوروبا.

ثم يضيف البروفيسور جان بوبيرو قائلا: إن العلمانية هي عبارة عن صيرورة تاريخية لعبت فيها الحداثة الغربية دورا حاسما. فلا علمانية دون حداثة. العلمانية هي ثمرة الحداثة الفلسفية التنويرية، وكذلك الحداثة العلمية والاقتصادية والاجتماعية والأدبية والفنية.

ولذلك فإن المجتمعات التقليدية لا تعترف بالعلمانية، ولكن العلمانية المنفتحة يمكن أن تتأقلم مع مختلف المجتمعات والتراثات الدينية. فهناك علمانية فرنسية، وعلمانية ألمانية، وعلمانية أميركية، وربما يوما ما علمانية عربية أو إسلامية. وهي لن تكون معادية للدين الإسلامي أبدا.

ولكنها ستكون مضادة للفهم الأصولي المتعصب للدين. فالفهم العقلاني للدين يؤدي إلى العلمانية بالضرورة وعدم تدخل رجال الدين في السياسة بشكل يومي أو كثيف. والتراث العربي الإسلامي يحتوي على بذور العلمانية، أي العقلانية.

نضرب على ذلك مثلا مؤلفات الفارابي أو ابن رشد مثلا، وممارسة الاجتهاد الديني في الإسلام تعتبر ضربا من ضروب العقلانية، أي العلمانية. وقس على ذلك. ثم جاء عصر النهضة الأوروبي وأحدث قطيعة مع القرون الوسطى والحكم اللاهوتي المسيحي الثيوقراطي. ومعلوم أن النهضة الأوروبية استفادت كثيرا من الفلسفة العربية الإسلامية وبنت عليها، ولكن مفكري هذه النهضة ذهبوا إلى أبعد من ذلك.

ويرى جان بوبيرو أن هذه النهضة تجسدت في أعمال المفكر الإيطالي السيئ سمعة: ماكيافيلي. قلت السيئ سمعة وكان ينبغي أن أضيف عن خطأ أو سوء فهم. فالرجل لم يكن سيئا إلى الحد الذي يصفونه به. فهو أول من أعاد الاعتبار للفضائل القديمة السابقة على المسيحية، والسبب هو أن المسيحية في عصره كانت قد أصبحت متزمتة، متعصبة، مليئة بمحاكم التفتيش. ولذلك فإنه نبش القيم الرومانية السابقة عليها وأعاد لها الاعتبار.

وفي عصر النهضة ظهر مفكرون كثيرون يدعون إلى التسامح فيما يخص الشؤون الدينية والعقائدية. نذكر من بينهم على سبيل المثال لا الحصر: توماس مور الانجليزي، أو ايراسموس الهولندي الملقب بأمير عصر النهضة. ولا ينبغي أن ننسى الدور الذي لعبه الفلاسفة الكبار مثل سبينوزا وجون لوك ولاينبتز في القرن السابع عشر. ثم فولتير وديدرو وروسو وسواهم في القرن الثامن عشر.

في الواقع أن المؤلف يقسم كتابه إلى سبعة فصول لكي يوضح فكرته العامة، في الفصل الأول يتحدث عن تاريخ ما قبل العلمنة. وفي الفصل الثاني عن الأسس الفلسفية للعلمنة، وأما الفصل الثالث فمكرس كله لدراسة الموضوع التالي: الاستبداد المستنير، والثورات، والعلمانية.

هذا في حين أن الفصل الرابع مكرس لدراسة العلمنة والحداثة الظافرة. وأما الفصل الخامس من الكتاب فمكرس لدراسة العلاقة بين المجتمعات الدنيوية والعلمانية. هذا في حين أن الفصل السادس مكرس كله للدراسة الجيوبوليتيكية للعلمنة، أي الانتشار الجغرافي السياسي للعلمنة في شتى القارات والأقطار.

وهنا يتحدث المؤلف عن الصياغات والأشكال التي اتخذتها العلمنة في أميركا الشمالية، وأميركا الجنوبية، وإفريقيا السوداء، وإفريقيا الشمالية أي بلدان المغرب العربي، وبلدان الشرق الأوسط أي الشرق العربي بالإضافة إلى تركيا وإيران وإسرائيل، وفي آسيا، وأوروبا.

هكذا نلاحظ أن المؤلف يرصد تجليات العلمنة في كل مناطق العالم تقريبا. ثم يخصص الفصل السابع والأخير من كتابه للتحدث عن موضوع خطير هو: العلمنة وتحديات القرن الواحد والعشرين. هكذا نلاحظ أنه كتاب مليئ بالمعلومات والمعطيات والتحليلات المضيئة. ولا غرو في ذلك، فمؤلفه هو أحد كبار الاختصاصيين في الموضوع وأحد كبار الجامعيين الفرنسيين .

*الكتاب:العلمانيات في العالم

*الناشر: المطبوعات الجامعية الفرنسية - باريس 2007

*الصفحات:128 صفحة من القطع الصغير

Les laïcités dans le monde

PUF- Paris 2007

P.128