روايات خالدة

عالم بلا خرائط

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

امتازت رواية «عالم بلا خرائط» المنشورة سنة 1982 فيما امتازت فيه أنها لروائيين اثنين كلاهما علمٌ في عالم الأدب. فجبرا إبراهيم جبرا المولود في مدينة بيت لحم في فلسطين سنة 1920 تفّجرت موهبته الشعرية وهو طالب صغير في مراحل الدراسة.

نال الماجستير سنة 1948 في النقد الأدبي وكتب أولى رواياته باللغة الانجليزية ونشرها سنة 1946 Passage in the silent night قبل أن ينشرها باللغة العربية سنة 1955 بعنوانها «صراخ في ليل طويل» وكان من نتيجة رحلته الطويلة مع الشعر والكتابة والترجمة 65 كتاباً مؤَلفاً ومترجماً منها ست روايات ومجموعة قصصية. هاجر إلى العراق لتدريس الأدب الانجليزي ومن ثم حمل الجنسية العراقية. أنشأ جماعة بغداد للفن الحديث مع الفنان جواد سليم. توفى سنة 1994. أما الروائي عبد الرحمن منيف المولود في عمّان سنة 1933 من أب سعودي وأم عراقية فحاصل على الدكتوراه في اقتصاديات النفط من بلغراد وله 15 مؤَلَفاً جّلها في الرواية وأهمها «شرق المتوسط 1975» و «مدن الملح» من 5 أجزاء ما بين 1984-1989، «ثلاثية أرض السواد/1999». توفى سنة 2004.

«إذا كان لي أن أتساءل، فتساؤلي هو: كيف رضينا معاً بأمرٍ لا يقبله المنطق؟ اللذة، الألم، الرعب. هذا ما أرادت، وما عرفته، هي أيضاً». هكذا تحّدث بطل الرواية علاء نجيب السلوم عن علاقته بنجوى العامري، وأضاف: وجعلتني أقوم بدور ربما هي التي اختطته لي أصلاً. أنا لم أفهمها قط منذ يوم عرفتها.. حتى الخسارة كانت لذيذة معها. كنت أقامر بكل شيء من أجل أن ترضى، خسارتي هي الشيء الوحيد الذي كان يرضيها.. يجب أن أتوقف عن ذلك المشوار. ولكنه كان في أعماقه يرفض التخلي عنها أو التوقف عن اللهاث وراءها، كيف لا وهو يتذكرها محدّثاً نفسه: اللمسة من يدها تزعزعني، هذه القاسية الماكرة، العاشقة عشق المخابيل، الطاهرة طهر الملائكة، الزنديقة زندقة الشياطين. رفض حتى حين طلب منه صديقه صادق أن يبتعد عن هذه المرأة بعد أن فاحت علاقتهما وباتت أحاديث الجميع حين قال له: عمورية مليئة بالنساء.

كل امرأة تتمنى لو تكون لك زوجة أو عشيقة، ألا ترضيك إلا هذه المرأة؟ أما هي فكانت تقول: وليتقوّلوا.. ما نفع الحياة إذا لم يكن فيها تقوّلات، إذا لم أَذب على صدرك، إذا لم أشعر أن البحر من تحت الدار يحسد نفسه على سماع أصواتنا من غرفتنا الصغيرة المقفلة.. مسكين هذا البحر الطويل العريض، كل مياهه لا تحوي عِشر معشار الهَوج الذي في دمي.

وعلاء السلوم، الراوي هنا، الأستاذ في أكاديمية الفنون والروائي الذي أصدر روايتين ويستعد لكتابة الثالثة ويروي حكايته يقول: وحدها نجوى العامري استطاعت أن تلملم شتات عالمي، بل عوالمي، واستطاعت أن تصنع منها ما يمكن أن يُرى ويُلمس ويُذاق ويُشم، وأخذ قلمي يجري في مسارات كنت أحلم بها ولا تتحقق، ولكنها مسارات كمسارات النجوم والأفلاك البعيدة.

وها هو علاء يتذكر موت أبيه بعد رحيل أمه من قبل وهو يخبره قبل الرحيل: لم يبقَ لي شيء من الحياة أشتهيه، أو أتمتع به. ولهذا حدّث علاء نفسه: سأشتهي. سأتمتع. سأتألم. سأفعل كل شيء. وسأكتب كل شيء.

كما تذكر كلمات أمه عن أبيه: يوم كان فقيراً كانت كلمة الله لا تقع من فمه، كان يحب بيته وأهله، لكن بعد أن أعطاه الله صار زنديقاً، صار يشرب ويكفر ويهرب من البيت. وهو أي علاء يتذكر أسرته، وتمردهم منذ جده حمدي سويلم المتمرد الأول وكأن تمردهم لعنة يجب أن يتوارثونها.

أخواه صفاء وأدهم المهتم بالمقاومة وكتابة القصائد السياسية وأخواته الثلاث اللواتي تزوجن جميعاً وكانت آخرهن صبا آثرهن عنده التي تزوجت من نبيل وخاله حسام الرعد اللاهي والمهتم بالخيل والمقامرة فآثر حياة الخيل على حياة البشر حتى مات فقيراً ووحيداً، وعمته نصرت وتدخلاتها في صغائر وكبائر الأسرة والمتهمة بدفع الأب إلى زواجه الثاني.

كان يريد أن يقارن كل ذلك، ويقارن حياته بحياة أبيه وعلاقة أبيه بأمه فبعد أن منَّ الله عليه بالمال جرى مسرعاً للزواج من أعجمية وركن إلى ملذاته الخاصة. ولما بات متأكداً من أن كل واحد منهم يعيش حياته الخاصة، بعيداً عنه صار يرى حياته مع نجوى

على الرغم من أنها متزوجة من خلدون قال عنها: نجوى هي الماضي، وهي الحاضر، ولقلت أيضاً هي المستقبل..لو كان لي بعد مستقبل!.. كيف لا ونجوى وعند زواجها وقبل سفرها لقضاء شهر العسل كتبت له رسالتين مطولتين ومثيرتين تنتقد فيهما روايتيه وتقول له بجرأة: بإمكاني أن أقول إنك في وادٍ والمرأة في واد.

إن تجربتك السياسية شوهت عواطفك. وفي رسالتها الثانية: وكأنني أشعلت ناراً بثيابي أريد أن أطفئها ولا أنجح، أو أنني أشعلتها بثيابك، أريد لها ألا تنتشر.. علاء لماذا جعلت سلوى تنتحر في روايتك الأولى؟ ويُحّدث نفسه: اسمعوا! هذه المرأة كانت شيئاً خارقاً.

بركاناً من الحيوية. واحدة من عشرة ملايين تقرأ كل كلمة أكتبها.. امرأة عجيبة، غريبة، عجائبية، لا يستطيع الوقت الضيق استيعابها. أجعل منها ضداً لكل تفاهة اجتماعية. أجعل منها مخلوقاً إشكالياً يخلق نفسه مرة واحدة لن تتكرر.

حبها وحشي وإلهي معاً. محيي وقاتل معاً.. نجوى تعرف كيف توّلد الشكوك في كل لحظة. حتى ابتسامتها، في أحيان كثيرة، تثير التساؤل أكثر مما توّلد الراحة. فعلاء وبنظرة إلى الوراء يتذكر ويقول: أفسدتني حياة التلمذة في مانشستر، حيث وجدتُ صداقة النساء سهلة، ووجدتُ في التنويع فيهن تأكيداً على حريتي.

نجوى العامري تكتشف مع علاء أن محسن العامري الذي تحمل اسمه ليس والدها، وأن والدها الحقيقي هو شهاب خالد أدهم، الثائر الذي أُعدم وهو سويلمي أي أنها في الواقع قريبة علاء وتجري في دمائها روح التمرد مثله.

وأن محسن العامري كان خالها وحين مات دون ذرية ترك لها أمواله الطائلة، ومن هنا طالبت خالتها مديحة وزوجها سليمان العامري بنصف الميراث تحت التهديد وكشف المستور، وبات زوجها خلدون يبحث عن فرصته للكسب وهو يتلمس خطيئتها.

أما علاء فبات يدرك أن علاقته بنجوى يجب أن تنتهي: أدركتُ أن انفصالي عنها لن يتم إلا بالعنف، بنوع من العنف القاتل. وما أن سنحت لعلاء فرصة علاقة جديدة مع إحدى طالباته ـ ميادة ـ حتى أسرع يصطحبها إلى «عين فجار» المكان الذي تملكه نجوى ويختلي بها فيه، راغباً في أن يتسبب لنجوى بصدمة قاتلة لعلاقتهما لكنه يجدها هناك قتيلة !

Email