كتب في الذاكرة

كشف النقاب المجازي عن دالية ابن الحجازي

ت + ت - الحجم الطبيعي

تعد الشروح والحواشي والتعليقات، من أهم الآثار العلمية والأدبية التي تم إنجازها خلال عصور الدول المتتابعة أولاً، والعصر العثماني ثانياً. وإذا كانت هذه الشروح وما تبعها ليس فيها سوى التنظيم والترتيب وسوق الفوائد المتفرقة مع التكرار، فإنها مع ذلك قد حفظت استمرارية العلم والأدب، كما حفظت كثيراً من النصوص التي ضاعت أصولها، إضافة إلى اعتنائها بالمباحث الدقيقة.

وهذه الآثار على كل حال هي وجه النشاط العقلي والأدبي الذي حفظ استمرارية الفصحى وعلومها في أزمنة صعبة مرت بها العربية. وهذا الكشف «كشف النقاب المجازي عن دالية ابن الحجازي» يقع ضمن ذلك، فالشاعر هو «عبد الله بن محمد حجازي بن عبد القادر» ذو النسب الرفيع، إذ يتصل نسبه من جهة أبيه «بالحسن بن علي» ومن جهة جدته لأمه بالشيخ «عبد القادر الكيلاني».

وهكذا يمكن القول إن الشاعر قد ولد في أسرة ذات شأن، تولى أبوه وجده من قبله نقابة الأشراف بحلب، وتقلد أبوه القضاء، لذلك لا غرابة في أن يتجه إلى طلب العلم، وقد ولد في حلب، ومات فيها سنة 1096 هجرية.

والقصيدة هي في المديح النبوي، ذلك الشعر الذي انبجس وبزغ في نفوس شعراء العرب على مدى العصور، تعبيراً عن حبهم العميق وإعجابهم المنقطع النظير، وتعلقهم بالمثل الأعلى الذي ملأ الدنيا نوراً وعدلاً، وهو الرسول الكريم محمد «صلى الله عليه وسلم».

وهذا الفن كان قد بدأ فعلاً في حياة الرسول الكريم، إلا أنه لم يكن يملك أي سمة صارمة تميزه عن سائر فنون الشعر، ومع تتالي القرون ازدهر فن المدائح النبوية، حتى صار فناً مستقلاً قائماً بذاته، منذ العصر الأيوبي، واستمر في عهد المماليك ثم العثمانيين وحتى عصرنا هذا.

وإذا كنا لا نجد شاعراً في عصر الدول المتتابعة يضارع «البوصيري» فإن استمرار هذا الفن، وبالتالي استمرار هذا التطلع إلى المثل الأعلى في عصور الظلمة، يعد بحد ذاته مؤشراً دالاً على إرادة وقدرة كامنتين.

سلك شاعرنا «ابن الحجازي» في بناء قصيدته مسلك البوصيري في «البردة» وإذا كانت الظروف الذاتية والموضوعية، قد أتاحت للبوصيري من التألق في بردته ما جعلها متجددة على مر الأيام والدهور، فإن شاعرنا لم يتح له ما أتيح للبوصيري وإن كانت قصيدته لا تخلو من مشاعر صادقة ونفحات ذكية تهب عليك من هنا وهناك،

ولكن الفرق فرق الدرجة يبقى كبيراً بينهما يتردد في قصيدة ابن الحجازي فكرة الحقيقة المحمدية، كما اشتملت قصيدته شأنها شأن سائر القصائد النبوية، على ذكر معجزات الرسول محمد « صلى الله عليه وسلم » وشمائله وخصائصه وحروبه، وكل ما تشتمل عليه السيرة، ولكن في الإطار الشعري، الذي يكتفي بالإشارة البعيدة، وقد تعرض لشرحها كثير من الشرّاح.

أما الشّارح الأساسي لهذه القصيدة، فهو الشيخ «شعيب الكيالي» وكان أديباً محققاً، ولد بإدلب سنة 1116 ه، وتلقى العلم على يد أفاضلها، ثم ارتحل إلى دمشق وتلقى العلم فيها، ثم عاد إلى حلب، وقرأ في المدرسة العثمانية، وظل مشتغلاً بالعلم والتحقيق إلى أن توفي سنة 1171 هجرية.

ويعد هذا الكتاب نموذجاً من نماذج التأليف في شرح القصائد النبوية في القرن الثاني عشر الهجري، وهو يصور اهتمام الشعراء والشرّاح بالمديح النبوي والسيرة، وما يتعلق بها من أخبار وآثار، كما يمثّل اهتمام الناس بشخصية الرسول الكريم محمد « صلى الله عليه وسلم » ويدل على تطلعهم واستشرافهم نحو المثل الأعلى.

ولعل ما في الكتاب من فوائد بلاغية وفوائد لغوية، وشروح أدبية تدل على علو كعب المؤلف في فنون العربية ومسائلها، والتمكن من أصولها. يعرفنا بالقصيدة أنها من البحر الكامل، ثم يتطرق إلى ما فيها من علل وزحافات ثم يتطرق إلى القافية وتعريفها، ومذاهب النحويين في ذلك، ومنها:

أنّى وفيه ذلك النور الذي بضياه يستهدي إلى المعبود

أعني به طه الأمين المصطفى سر الوجود خلاصة الموجود

قد ضاءت الدنيا به لما بدا في حرّ يوم مشرق صيهود

وهكذا وعبر الشعر يقدم لنا ابن الحجازي سيرة الرسول وعظمته.

Email