نظرية الشعر في النقد الأوروبي القديم

نظرية الشعر في النقد الأوروبي القديم

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

الدكتور فؤاد المرعي، أستاذ النقد الحديث في جامعة حلب، له كتب كثيرة أهمها: مقدمة في نظرية الأدب 1980، والوعي الجمالي عند العرب قبل الإسلام 1989، الجلال والجمال 1991، دراسات في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية 2006، وله عدد كبير من الكتب المترجمة والرسائل الجامعية والكتب الجامعية والمقالات المنشورة.

في هذا الكتاب «نظرية الشعر في النقد الأوروبي القديم» يتابع د. فؤاد المرعي نظرية الشعر من نشأتها إلى عصرنا الحاضر، فقد وجد أن الشعر كان موجوداً دائماً في إبداعات أفلاطون من «دفاع سقراط» إلى «القوانين» مرة بوصفه جزءاً من الحياة التي تعيشها الشخصيات المصورة في الحواريات ومرة ثانية باعتباره موضوعاً للتحليل الفلسفي. لقد نظر أفلاطون إلى الشعر بعين اليونان الكلاسيكية، ورأى السلطان الشامل لفن الكلمة على نفس الإنسان وحدد من هذه الزاوية ماهية الشعر ووظيفته، لقد كشف أفلاطون ماهية الكلمة من جانبين:

1 ـ مصدره الخارجي، وسماه آلهة الوحي

2 ـ مصدره الداخلي: وهو حاجة الإنسان إلى المصدر والهارموني. ويشمل هذا المستوى ثلاثة مستويات:

آ ـ الأسطورة، ب ـ الأسلوب، ج ـ المرافقة الموسيقية. ويبزر أفلاطون في ذلك كله العلاقة بين الشعر وبين الوعي الباطن للإنسان بوضوح كاف ويجعلها في المقام الأول. ويرتبط بهذا التفسير الجديد لوظيفة الشعر معياره الجمالي الذي يقترحه أفلاطون والذي أضاف فيه عنصر الصدق إلى ما سبق أن عرفناه، من عناصر «المتعة والفائدة» و«الجمال والخير».

كل ذلك جعل أفلاطون يقترب كثيراً من مفهوم «النقد الأدبي» ويدخل هذا المفهوم إلى ميدان الأدب. إنه لا يسند مهمة الحكم على صدق المحاكاة الشعرية إلى الشاعر ولا المستمع، بل إلى شخص ثالث هو الناقد، القاضي المؤهل للقيام بذلك، والذي يجب عليه أن يمتلك معرفة دقيقة بموضوع الفن وتقنية الكتابة.

لقد كان الجدال بين أفلاطون وبين الشعر إحدى صيغ معارضته للتقاليد الحضارية الهيلنيستية في مجرى نضاله من أجل صورة جديدة للعالم. إنّ كتاب أرسطو «فن الشعر» يواصل العمل الذي بدأه البلاغيون في التقريب بين الشعر والبلاغة. فهو يحلل الشعر بمقاييس استخدمها في تحليل الخطابة (مماثلة الواقع والملاءمة).

ولكن عمله ليس مجرّد توسيع لحدود البلاغة. إنه في بحثه التجريبي عن الوسائل التعبيرية قدم تجديداً أساسياً مدخلاً في البلاغة مقاييس جديدة للقيمة وفهماً جديداً للمتعة الفنية. إنّ المجتمع في الفن عند أرسطو ليس الفائدة العملية وليس الخير المطلق بل المتعة الحاصلة بسبب المعرفة.

إنه يبحث في هذه التجربة عن دروس في المهارة، ويفتش في إبداع الكتاب المختلفين عن الوسائل التي تساعد في تحقيق متطلبات الجمالية الذهنية وهو هنا ينظر إلى الأدوات التعبيرية التي يستخدمها الفنان، إننا نكتشف ميله إلى الفن الهيليني الكلاسيكي وهوميروس وسوفوكليس وخطباء القرن الرابع، ونفوره من الشعوذة الكلامية التي تحول التجريب اللغوي إلى هدف بحدّ ذاته سواء أكانت هذه الشعوذة عند الشعراء التراجديين في القرن الرابع أم عند السفسطائيين في القرن الخامس قبل الميلاد.

إنّ هوراس ركز في «رسالته» إلى آل بيزون الأفكار النقدية في العصر الروماني ـ الهيلنيستي كله، إنّه يحاول الغوص إلى قلب العملية الإبداعية، فهو يهتم بحالة الوعي الفني إلى جانب اهتمامه بالصيغ المجردة، إنه يقوم بدور الواعظ الذي يقدم النصح والإرشاد، ومن السهل جداً اكتشاف ميله إلى توجيه الذات المبدعة وإرشادها.

يدعو هوراس الشعر أن يتصف من حيث الشكل، بالوضوح والوحدة والبساطة والانسجام، وهو يرى أن الرهافة والوحدة هما الأساس الذي يبنى عليه شكل العمل الفني وسَخِرَ سخرية مرة من الفوضى في الأسلوب ويطالب الشاعر أن يضع كل جزء من القصيدة في مكانه من خلال ترتيب صارم، ويلح في دعوته إلى طرق الموضوع مباشرة وعدم الإفراط في التفاصيل.

أما من حيث المحتوى فالشعر، بحسب هوراس، يقوم على الأفكار السليمة والتصوير الصادق لطبائع الناس، لقد كان هوراس من أنصار المحافظة على التقاليد من دون أن يعني ذلك بالضرورة مناصرته للقديم أو الحديث. إنه من دعاة التمسك بالدقة وصحة التصوير ومن أنصار التطور الطبيعي للحياة في الوقت نفسه.

بالإضافة إلى كونه يهتم اهتماماً كبيراً بالشاعر. فيطالب الشاعر بالاعتناء الشديد بعمله وتنقيح أشعاره قبل نشرها، فالدربة والتعلم لا يقلان أهمية عن الموهبة في تكوينه، وعلى الشاعر أن يقدم نصائحه بإيجاز ويتجنب التعابير المضجرة ويسعى إلى جعل عباراته مقبولة وسهلة الفهم وعندئذ فقط يستطيع أن يعلم الناس ويقنعهم.

إنّ هوراس يريد في نظريته الشعرية أن يكتشف الترتيب والتقسيم الواضح للموضوع، واكتمال بنائه في وعي الفنان وفي محتوى العمل الفني نفسه، إنه يتلمس الفنون الأدبية بهدوء ومن دون انفعال وبحيادية إغريقية صافية. إنه يريد للقصيدة أن تبعث في قارئها المتعة والإحساس بالرشاقة، وشعره يجسد الرشاقة الكلاسيكية حيث يحمل الحد الأدنى من الكلام الحد الأقصى من التعبير.

لقد وصلت إلينا مقالة (السامي) الشهيرة المنسوبة إلى كاسيوس لونجينوس اللغوي والبلاغي الذي عاش في القرن الثالث الميلادي، وكان من أتباع الفيلسوف الروماني أفلوطين. إن من يقرأ مقالة لونجينوس يكتشف أن مفهوم «السامي» الذي حملته عنواناً لها قد ظل مفتقراً إلى التحاليل والتحديد المنطقيان، ويجدر بنا هنا أن نشير إلى أن صاحب هذه المقالة المنسوبة إلى لونجينوس لم يناقش مفهوم «السامي» من زاوية فلسفية، بل عالجه من وجهة بلاغية شعرية خالصة.

لقد أصبح عنصر رفض القواعد الجامدة والترتيب الكلاسيكي الصارم، أمراً ضرورياً ولازماً لتحقيق الانسجام في الإبداع الفني، فبدت قضيته واحدة من القضايا الأساسية في الفكر الجمالي وتحرر «الجمالي» بفضلها من قيود التقاليد الكلاسيكية ليصبح تعبيراً عن الحياة كلها.

إن مقالة «السامي» هي النص القديم الوحيد الذي قدم دراسة للشعر والفن من زاوية الموهبة الذاتية وأقر بهيمنتها على موضوعية القواعد البلاغية، وهذا ما جعل مفكري القرنين السابع عشر والثامن عشر، بدءاً من بوالو وانتهاء بكانط، يجدون فيه ضالتهم، فوضعوا مسألة «السامي» في مركز اهتمامهم، تكسبها أبحاثهم شهرة واسعة بوصفها مسألة أساسية من مسائل علم الجمال وقضية محورية من قضايا الحضارة الحديثة كلها.

لقد وضّح كاتب المقال روح العمل الفني، فقال إنه ليس «ما فوق العقل» بل هو «توهج العقلي» هو القدرة المبدعة والملهمة التي يمتلكها مبدأ الترتيب والانسجام، ذلك المبدأ الذي يعده الكاتب أساس الوجود، ويرى أنه يخرج عن حدود الوجود، إنه هوى التفكير ولا عقلانية العقل. إن هذا البحث يظهر مدى قوّة المفاهيم الجمالية وعمق تجسيدها لحياة الناس ووعيهم وشدة ارتباطهم كمنظومة مفهومية بالتغيرات الكبرى في تاريخ الحضارة الإنسانية.

فيصل خرتش

*الكتاب:نظرية الشعر في النقد الأوروبي القديم

*الناشر:المركز الثقافي - دمشق 2007

*الصفحات:160 صفحة من القطع الكبير

Email