رؤية ابن رشد السياسية

رؤية ابن رشد السياسية

ت + ت - الحجم الطبيعي

مؤلف هذا الكتاب باحث تونسي عضو الجمعية التونسية للدراسات الفلسفية وله العديد من البحوث المنشورة في دوريات تونسية وعربية متخصصة منها «ابن رشد يحاكم الغزالي» و«ابن باجة .. من الوحدة الى الكثرة» و«قراءة نقدية في كتاب هشام جعيط .. الوحي والقرآن والنبوة». ويعرض المؤلف في كتابه لقضية جديدة على الفكر العربي تتمثل في رؤى ابن رشد السياسية وهو الجانب الذي ظل مجهولا من طرف القارئ العربي على مدى عهود طويلة.

وفي ذلك يشير المؤلف الى أن المعتاد هو النظر الى كتب ابن رشد المتداولة على أنها أبعد ما تكون عن السياسة وقضاياها غير أن المتمعن في كتاب ابن رشد الذي ترجم الى العربية عن العبرية بعد غربة طويلة وهو كتاب «الضروري في السياسة: مختصر كتاب السياسة لأفلاطون» لا يمكنه إلا أن يعود الى تلك الكتب دارسا إياها بعين جديدة.

وهنا يشير المؤلف الى أن الخطاب الرشدي المبثوث في مؤلفات أبي الوليد العديدة يشي بمجموعة من الأفكار السياسية التي لا تتطلب فقط الإحاطة بمفاصلها وتفكيك آلياتها وإنما كذلك فهم ما قاله ابن رشد في مواضع أخرى على ضوئها وفهمها هي ذاتها على ضوء ما قيل في تلك المواضع.

ويشير المؤلف الى أن المقاربة الرشدية للمسألة السياسية مشبعة بالعودة الى الأصول اليونانية والعربية حيث استحضر ابن رشد في ثنايا الكتاب الذي وضعه أفلاطون وأرسطو والفارابي. كما اعتمد النص الأفلاطوني الذي شرحه كنقطة ارتكاز لنقد واقع عصره.

وفي إطار الإشارة الى رؤى ابن رشد السياسية يقدم المؤلف نصوصا تشير الى اهتمامه بالمعضلات التي تعصف بالمجتمع الأندلسي وهو يعيش آخر أيامه مستعملا العقل سلاحا، هذا العقل الذي أضحت سهام الجمود الفكري كلها متجهة صوبه في لحظة تاريخية تكلست فيها الأطر الإجتماعية السياسية والفكرية بما استدعى خضها بقوة لفضح ما يعتريها من نقص وقد حاول ابن رشد القيام بذلك فجاء كلامه شهادة على ما انحط اليه المجتمع الأندلسي من جور وتسلط فساءت أحواله وأضحت كل العلامات تشير الى قرب انفجاره.

وعلى ذلك يشير المؤلف الى أن ابن رشد لم يكن مجرد ملخص للنص وإنما يتجاوز ذلك لكي يدلي بأفكاره الخاصة بشأن القضايا المثارة في صلة بالهاجس الإجتماعي السياسي الذي أملى عليه قول ما قاله بعبارة صريحة أحيانا والتلميح والإشارة أحيانا أخرى. ويصل الدكتور فريد العليبي في ذلك الى حد التأكيد على أن صمت ابن رشد إزاء بعض المشكلات كان يكفي لكي ينطق بما يفكر فيه.

ويذكر المؤلف في إطار استعراضه لرؤى ابن رشد السياسية أن اللافت للنظر أن المقاربة الرشدية بمضامينها المختلفة قد هاجرت بسرعة الى أوروبا فترجمت العديد من مؤلفات ابن رشد الى اللاتينية والعبرية واستثارات ردود أفعال متباينة قبولا ورفضا، ولكنها مارست في كل الجالات تأثيرها في تربة الثقافة الاوروبية.

غير أنه من الغريب رغم ذلك أن هذه الرؤى بالنسبة الينا نحن العرب أنها ظلت في منفاها القسري الى وقت قريب، الى الحد الذي يؤكد معه المؤلف عن حق أن الكثير من الطروحات الرشدية حول نمط الحكم والعلاقة بين الدين والسياسة وموقع المرأة في المجتمع والدور الذي على الفيلسوف أن يؤديه في المدينة لا تزال تعاني من غربة الى حد اليوم ولم تشق طريقها بعد الى نسيج الحياة الإجتماعية والسياسية رغم أن ابن رشد طرحها منذ قرون.

وعارضا للظروف التي واجهها ابن رشد والتي انتهت بإحراق كتبه يشير المؤلف الى أن هذه الظروف والتي أحاطت بشكل الخطاب السياسي الرشدي تتطلب المساءلة الفلسفية والخوض في ذلك بالرجوع الى النص ذاته ودراسته باعتماد المقارنة بينه وبين الآثار الرشدية الأخرى من جهة ومن جهة ثانية دراسته على ضوء ما تضمنه النص الأفلاطوني الذي تعامل معه ابن رشد والنص الأرسطي الذي لم يحصل عليه وتأويلات جالينوس للنص الأفلاطوني والموقف الرشدي منها وما عرفه الفكر العربي من آثار فلسفية تخوض في الحقل نفسه.

ويذكر المؤلف ان ابن رشد حرص على تمثل علوم عصره فكانت محاولته تعقل الشأن السياسي من خلال التأسيس البرهاني للتدبير المدني لأجل ذلك أكد على ضرورة تحديد موضوع السياسة والأسس التي يقوم عليها وأوجه التماثل والإختلاف بينها وبين المباحث الأخرى وعند قيامه بذلك أعلن انحيازه الكامل للعلم الأرسطي بأقسامه المختلفة.

ويتطرق المؤلف في سياق تناوله لموضوعه الى أسلوب ابن رشد في تلخيص كتاب السياسة لأفلاطون فيشير الى أنه اذا كان الكتاب جاء في شكل حوارات فإن أبو الوليد صاغ مجموع آراء أفلاطون بخصوص السياسية وفق أسلوب يعتمد على تحليل القضايا وعند بحثه الكيفية التي يمكن أن يتأسس بها علم السياسة يعمد الى تناول الأرضية التي يمكن أن يقوم عليها ملاحظا أنها تتمثل في علم الأخلاق الذي يتأسس بدوره على علم النفس بما يعني أن علم الأخلاق وعلم السياسة يجدان في علم النفس أساسهما المشترك باعتبارهما ينتميان الى علم واحد هو العلم المدني ولذلك فإنه عندما يعرض لرئاسة الفيلسوف للمدينة يشبهها برئاسة العقل للنفس.

وعند الحديث عن نشأة المدينة يلاحظ أن ما يفرض تلك النشأة هو حاجة الإنسان الى الإجتماع واستحاله عيشه في عزلة عن بقية الأفراد المحيطين به اذ أن الإنسان يحتاج في حصوله علي فضيلته الى أناس غيره ولذلك قيل بحق عن الإنسان أنه مدني بالطبع. وفي هذا الإطار يفرق فيلسوف قرطبة وفق ما يذكر الكتاب بين نوعين من السياسات سياسة فاضلة وسياسة ضالة فمن جهة هناك المدينة الفاضلة ومن جهة ثانية هناك المدينة الأخرى التي تتصف بالضلال وتسبب للفرد الشقاء. فإذا كانت المدينة الفاضلة حكيمة وشجاعة وعفيفة وعادلة فإن المدينة الضالة فاسدة جاهلة جائرة.

ويستنتج المؤلف من ذلك أن المقاربة الرشدية لمسألة أنظمة الحكم تضعنا منذ البدء على أرضية الحد الفاصل بين نظامين متمايزين من حيث طبيعتها نظام فاضل ونظام فاسد. وهنا يذكر الدكتور فريد العليبي في معرض تتبع الرؤى السياسية لإبن رشد أنه اذا كان يتبع رئيسيا نفس التقسيم الذي وضعه أفلاطون لانظمة الحكم : المدينة الفاضلة، مدينة الكرامة، مدينة الأقلية الموسرة، المدينة الجماعية، مدينة وحدانية التسلط، فإنه يضيف الى ذلك نوعين آخرين وهما مدينة الضرورة ومدينة الشهوة في تفاعل واضح مع فلسفة الفارابي السياسية.

كما أنه يركز النظر بصورة لافتة على قضية تأسيس المدينة الفاضلة فيخوض في هذا الأمر من مختلف جوانبه بما في ذلك بحث إمكانية المرور بالمدينة الفاضلة من مستوى التصور الفلسفي الى مستوى التطبيق العملي. ويقدم بهذا الخصوص إجابة واضحة فالمدينة الفاضلة ممكنة التحقيق فعليا وفي الأندلس نفسها.

ويشير المؤلف الى أن ابن رشد في إطار الرؤى السياسية التي يقدمها وفيما يشير الى انها تتجاوز كونها إشارات عابرة يعطي أهمية كبيرة للممارسة السياسية أي لما يطبق واقعيا، اذ يمكن لهذا الحاكم أو ذاك أن تكون آراؤه جميلة ولكن ممارسته تناقض ذلك مما يتطلب الحكم على صنيع النظام السياسي لا من خلال ما يقوله أصحابه أنفسهم وإنما من خلال أعمالهم.

وفي ذلك يقول عند الحديث عن تحول المدينة الناقصة الى مدينة فاضلة «وبالجملة فتحولها الى مدينة فاضلة أقرب الى أن يكون في هذا الزمان بالإعمال الصالحة منه بالآراء الحسنة، وأنت تلمس ذلك في مدننا وبالجملة فلن يصعب على من كملت لديه أجزاء الفلسفة واطلع على طرق تحول المدن أن يرى أنها لن تؤول نحو الافضل بالآراء ـ وحدها».

كما أن من المسائل التي عرض لها ابن رشد وتكشف بحق عن أنها سبق عصره بكثير مسألة المرأة والموقع الذي ينبغي أن تشغله في المجتمع. وفي هذا الصدد قدم آراء بالغة الجراءة قد يساءل عليها من قبل بعض أهل العصر الذي نعيش فيه وليس عصره هو. وحسبما يذكر المؤلف فإن تحليله لهذه المسألة يكشف عن تمثلها من جهة كما وردت على لسان أفلاطون ومن جهة ثانية كما هي عليه واقعيا ضمن المحيط الثقافي الذي عاش فيه ومن ثم تبين الآفاق الممكنة لتحرر جمهور النساء لما لذلك من علاقة وثيقة بتطور المجتمع..

فالمشروع السياسي الرشدي إنما يهدف الى مقاصد كبرى تتصل بمجموع الشعب الذي يمثل جمهور النساء وفق ابن رشد سواده الأعظم واذا ما ظل ذلك الجمهور على تخلفه واستبعد من المشاركة في الحياة السياسية والإقتصادية والثقافية وسجن بين جدران أربعة فإن النتيجة تكون تخلف المجتمع بأسره الذي سوف يرزح لا محالة تحت عبء الفقر والجهل.

وتقوم استراتيجية ابن رشد في تناول هذه المسألة على نسف المرتكزات النظرية التي تعتمد تقليديا لاستعباد المرأة وإقصائها من كل مشاركة في الحياة العامة لأجل ذلك ينصب اهتمامه على تأكيد المساواة النوعية بين الرجل والمرأة من حيث امتلاك العقل مما يعني أنهما من طبيعة واحدة باعتبارهما بشرا مؤكدا أنه اذا كانت هناك اختلافات فهي اختلافات كمية وليست نوعية. ويذهب ابن رشد بعيدا في آرائه مؤكدا أن الكثير من المهن التي يعتقد عادة أنها حكر على الرجال يمكن للنسوة القيام بها ومن بينها أن يكن فيلسوفات ورئيسات ومحاربات.

وفي معرض تفسير حرص فيلسوف قرطبة على تأكيد المساواة بين الجنسين والبرهنة على ذلك عقليا وتجريبيا يقول المؤلف أن ذلك مرتبط بمشروع التجديد السياسي والإجتماعي الذي يطمح الى جعله حقيقة واقعة بالنسبة لمجتمعه وعصره، فالامر لا يتوقف مثلما ذكر على مجرد تلخيص وجهة نظر أفلاطون في السياسة وإنما الإنكباب على مشكلات واقعية تعوق حركة مجتمعه، فالنظرة الدونية للمرأة واستبعاد النساء من عملية الإنتاج عوامل من شأنها جعل المجتمع يتخبط في الفقر والتخلف.

كما عرض ابن رشد منطلقا من نفس هذه الروح النقدية التحررية الى مسألة الحرية ومعالجته لها تشي بنزعة تحررية لافتة اذا عارض آراء المتكلمين وخاصة المعتزلة والجبرية بخصوصها، وانتهى الى الخروج بمعضلة القضاء والقدر من مجال الدين الى مجال الفلسفة. كما لا يختلف تناوله لمسألة العدل حيث التزم في تحليلها حدود القول الفلسفي فالعدل برأيه إنما يتمثل في احترام كل فرد الوظيفة التي هو مؤهل للقيام بها بحكم طبيعته.

وحسبما يقرر المؤلف فإنه من الواضح أن الكثير من طروحاته لا تزال محافظة على قيمتها بالنسبة الى العرب على وجه الخصوص مثل موقفه من المرأة ونقده للجور والإستبداد ودعوته الى النظر في الشأن السياسي من موقع التفكر والروية وتصديه لتدخل رجال الدين في شتى مناحي الحياة الإجتماعية السياسية. وإن كان المؤلف يستدرك بالإشارة الى أنه رغم القيمة التي تتمتع بها مساهمة ابن رشد إلا أنه لا يمكن القول أنها لا ترتقي الى مستوى الفلسفة السياسية، وهو الأمر الذي لم يزعمه فيلسوف قرطبة.

مصطفى عبد الرازق

*الكتاب:رؤية ابن رشد السياسية

*الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية ـ بيروت 2007

*الصفحات:350 صفحة من القطع الكبير

Email