البيت الصامت

البيت الصامت

ت + ت - الحجم الطبيعي

لم يكن اسم الروائي التركي اورهان باموق غائبا عن التوقعات المتداولة في الأوساط الأكاديمية، والثقافية التي تنتقي الأسماء المتوقعة للفوز بجائزة نوبل الآداب، بل كان مرشحا قويا رغم صغر سنه (54 عاما)، قياسا إلى أعمار الفائزين بالجائزة في السنوات الماضية، وقد قطف الجائزة، فعليا، قبل أشهر، ليكون التركي الأول الذي يفوز بهذه الجائزة القيّمة التي تمنحها الأكاديمية السويدية منذ أكثر من قرن، والتي قالت في حيثيات منحها الجائزة ان «أورهان باموق اكتشف رموزاً روحية جديدة للصراع والتشابك بين الثقافات، في معرض بحثه عن الروح الحزينة لمدينة اسطنبول التي هي مسقط رأسه».

ومن جانب آخر فإن هذا الفوز لم يشكل مفاجأة للناشر والقارئ العربيين، ذلك أن غالبية رواياته قد ترجمت إلى العربية قبل نيله الجائزةمدينة اسطنبول هي مسقط رأس باموق، فهو لم يغادرها سوى ثلاث سنوات عندما ذهب إلى الولايات المتحدة الأميركية منتصف الثمانينات كباحث زائر في جامعة كولومبيا، وقد نهلت أعماله من هذه المدينة الملونة والواسعة، الحاضرة دائما في رواياته، ومثلما أن هذه المدينة تتميز بطابعها المعماري الجميل، وبتشابك الثقافات، وبتداخل الحضارات والأزمنة والوجوه والرموز في أزقتها وشوارعها ومبانيها، فإن أدب باموق يعد انعكاسا صادقا لتحولات هذه المدينة الاجتماعية والسياسية، ولإرثها الثقافي المتنوع.

يعد باموق واحدا من أهم الروائيين المعاصرين على مستوى العالم، وقد ترجمت رواياته إلى أكثر من ثلاثين لغة، وهو الأكثر مبيعا والأغزر إنتاجا في السنوات الخمس عشرة الأخيرة، واستطاع أن يعثر للرواية التركية على مكانة عالمية ناقلا عبرها الثقافة التركية وصورة تركيا الحديثة ذات الهوية الملتبسة.

ولد باموق في حي (طاش نيشان) في اسطنبول لعائلة تميل إلى الثقافة الفرنسية، بدأ حياته رساما، وانتسب إلى جامعة اسطنبول التقنية لدراسة الهندسة المعمارية ثم تحول إلى الصحافة حيث تخرج من المعهد العالي للصحافة دون أن يمارس هذه المهنة أبدا. في الرابعة والعشرين من عمره قرر أن يكون روائيا ولا شيء آخر، بعدما اقتنع بأن «الكتابة تعطي معنى للحياة، لأنها الحياة».

بهذا القرار تحول باموق إلى أشهر روائي في العالم عبر أسلوبه الرشيق السهل، ولغته السلسة...فأصدر عدة روايات نالت سمعة عالمية منها: «العتمة والنور»، «جودت بك وأبناؤه»، «القلعة البيضاء»، «الكتاب الأسود»، «الحياة الجديدة»، «اسمي أحمر»، «ثلج»، وقبل عامين اصدر باموق كتاب «اسطنبول» وهو عبارة عن يوميات يرصد فيها ملامح مدينة اسطنبول في ما يشبه المذكرات الشخصية المرفقة بصور من طفولة وصبا الكاتب العاشق لهذه المدينة والذي يعيش فيها في نفس المنزل الذي ولد فيه.

في رواية «البيت الصامت» التي يعود تاريخ كتابتها إلى مطلع الثمانينات من القرن الماضي، يسعى باموق إلى توثيق التاريخ التركي خلال القرن العشرين عبر ثلاثة أجيال، إذ يرصد ثقافة وميول هؤلاء الأجيال الثلاثة ليقدم توصيفا اجتماعيا وسياسيا دقيقا لبلد شهد الكثير من المحطات الحاسمة، بدءا من انهيار السلطة العثمانية في بدايات القرن الماضي،

وما رافق ذلك من تحولات جذرية مهدت لظهور مصطفى كمال أتاتورك الذي بنى تركيا الحديثة التي تمخضت بدورها عن حركات سياسية ذات نزعة قومية تركية متعالية، متطرفة، وصولا إلى الانقلابات العسكرية وبروز حركات يسارية، وأخرى معتدلة تسعى إلى قراءة الواقع التركي بموضوعية ولعل باموق ينتمي إلى هذا الصنف الأخير وهو ما قاده إلى المحاكم نظرا لمواقفه المعلنة المنتقدة لسياسية بلاده والتي سكتت عنها النخب التركية طويلا.

في هذه الرواية يختار باموق بيتا واقعا في منطقة (جنة حصار) على أطراف مدينة اسطنبول تعيش فيه العجوز فاطمة أرملة صلاح الدين داروين أوغلو، وخادمها «القزم» رجب الذي هو في الواقع ابن زوجها من علاقة غير شرعية، ليكون البيت صورة مصغرة عن تركيا المعاصرة.

تسير الحياة في هذا البيت بهدوء ورتابة بعد أن رحل الزوج صلاح الدين وابنهما الوحيد ضوغان، غير أن باموق اختار موعد زيارة الأحفاد للجدة فاطمة كي يسرد تفاصيل حكايته، فمع زيارة الأحفاد الثلاثة: فاروق ومتين ونيلفون لجدتهم لم يعد البيت صامتا، بل صار صاخبا، وحيويا، ومع انتهاء هذه الزيارة القصيرة تنتهي الرواية.

تتناول الرواية، التي نالت العديد من الجوائز الدولية، تفاصيل الحياة المألوفة، بأحزانها وأفراحها وخيباتها وآمالها...غير أن الشخصيات التي يرسمها باموق، بقليل من الحذق وكثير من الواقعية، تشترك في تقديم رؤية بانورامية لصورة تركيا المعاصرة التي تمور بالصخب وتعيش إرهاصات سياسية أفصحت عن نفسها عبر انقلابات عسكرية كثيرة جرت خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي،

وكذلك يضيء الروائي تاريخ هذه البلاد عبر شخصية فاروق الأخ الكبير الذي يهتم بالتاريخ، ويعود إلى ماضي بلاده بغرض فهم الأحداث الحالية، ومحاولة الربط بين ما جرى في الماضي، وما يحدث اليوم، بينما يتطلع متين نحو المستقبل، والحداثة، وحياة البذخ والترف، فهو يمثل النموذج المتمرد على الإرث العثماني، والذي يرغب في الهجرة إلى الولايات المتحدة والاستقرار هناك هربا من هذا البلد، إذ «لا يمكن للإنسان أن يغدو شيئا في هذا الشرق المخدّر» كما يقول،

في حين تمثل الشقيقة نيلفون تيار اليسار، فهي تتعاطف مع الشيوعيين وتحلم بإقامة العدل والمساواة الاجتماعية، غير أن التيار القومي المتطرف الصاعد في تركيا ـ آنذاك ـ تتوعد الشيوعيين وتحاربهم، ولعل إقدام حسن (ابن إسماعيل شقيق رجب، والذي ينتسب إلى هذا التيار الشوفيني)، على ضرب نيلفون بقسوة وموتها إثر ذلك، يكشف عن العداء الذي كان مستحكما بين الشيوعيين والقوميين.

تشترك شخصيات الرواية في صوغ هذا العمل، فكل شخصية تقوم، وفي فصول مستقلة، بدور الراوي، وهكذا سنقرأ بضمير المتكلم ما يرويه رجب، وما يرويه ابن شقيقه حسن الذي لا يخفي تلك النزعة التركية الاستعلائية النابعة من الإرث العثماني الإمبراطوري، فهو يتساءل: «كيف أصبحنا لعبة بيد الدول الكبرى، والشيوعيين، والماويين، والإمبرياليين...كيف أصبحنا مضطرين لمد يدنا لأقوام كانت خدما لنا في يوم من الأيام».

أما الصوت الأكثر تأثيرا فهو صوت الجدة العجوز التي تناجي نفسها وطيف زوجها الغائب، وتعود بذاكرتها المتعبة إلى السنوات البعيدة لتستحضر شريط الذكريات مع زوجها الراحل صلاح الدين، وتتحدث عن أفكاره ومعتقداته الحداثية «المتطرفة» من وجهة نظرها، فهو كان يؤمن بنظرية الارتقاء لداروين (وقد لقب نفسه بهذا الاسم)، ويميل إلى ثقافة الغرب كثيرا، وهو ما لا يتناسب مع أفكار الجدة التقليدية. وتكتمل الصورة بسرد الحفيدين: فاروق ومتين، والغريب أن الكاتب لا يسمح للحفيدة نيلفون بالروي رغم حضورها الطاغي في الرواية.

Email