من الجزيرة العربية إلى تشكيل الإمبراطورية

معاوية بن أبي سفيان

ت + ت - الحجم الطبيعي

مؤلف هذا الكتاب هو الباحث الأميركي ستيفن همفريز، وهو أستاذ في جامعة كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأميركية، وتتركز اهتماماته على الدراسات الإسلامية وتاريخ الشرق الأوسط، كما أنه مختص بدراسة العلاقة بين الدين والسياسة في العالم الإسلامي، وفي هذا الكتاب الجديد يتحدث المؤلف عن إحدى أهم شخصيات التاريخ العربي الإسلامي: معاوية بن أبي سفيان.

ومعلوم أن البعض اتهم معاوية بالخروج على النموذج المثالي والأخلاقي للدولة التي أسسها النبي (صلى الله عليه وسلم) في المدينة المنورة، ولكن البعض الآخر يقول بأنه كان شخصا عبقريا استطاع أن يبني إمبراطورية كبيرة ويؤسس الخلافة كنموذج ناضج للحكم. فما هي حقيقة الأمر يا ترى؟ هذا ما يحاول المؤلف أن يشرحه في كتابه من خلال تقديم صورة عامة عن شخصية المؤسس الأول للسلالة الأموية.

يقول المؤلف بما معناه: في الواقع أن معاوية وصل إلى سدة السلطة ضمن ظروف مأساوية وبعد حرب أهلية مدمرة حصلت بين المسلمين. وكان ذلك عام 661م بعد مقتل علي بن أبي طالب في الكوفة، وقد اشتهر معاوية بالدهاء السياسي والفعالية والتصميم وقوة الشخصية في آن معا. ولذلك انتصر على جميع خصومه من أتباع علي أو أتباع ابن الزبير أو سواهم.

من المعلوم أن معاوية كان واليا على سوريا لفترة طويلة في الماضي. ولهذا السبب فإنه نقل العاصمة من المدينة إلى دمشق، يضاف إلى ذلك أنه استفاد كثيرا من الإدارة البيزنطية التي كانت تحكم البلاد وقبل الفتح الإسلامي.

وأخذ عن البيزنطيين الشيء الكثير، ومن بين الأشياء التي أخذها كيفية تنظيم إدارة الدولة وتوحيدها بشكل مركزي، صحيح أنه أعطى الكثير من الاستقلالية الذاتية لولاة الأمصار ولكنهم كانوا تابعين له في نهاية المطاف وينفذون أوامره بصفته خليفة المسلمين.

وهكذا أعاد للخلافة هيبتها ووحد الدولة الإسلامية بعد أن كانت قد تعرضت للانشقاقات العديدة وضعفت هيبتها بسبب هذه الانشقاقات بالذات، فانقسام الأمة كان وبالا عليها.

ولكن المسلمين المحافظين أدانوه بتهمة الخروج على الإسلام لأنه نقل العاصمة من مكة المكرمة أو المدينة المنورة إلى دمشق، فدمشق لا قداسة لها على عكس مكة والمدينة.

يضاف إلى ذلك أنه حول السلطة إلى نظام وراثي بعد أن كان يتم عن طريق الشورى والانتخاب في عهد الصحابة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم.

ولهذا السبب فإن الكثير من المؤرخين المسلمين القدامى لا يعتبرون الأمويين خلفاء لكن ملوكا: أي أخذوا الحكم عن طريق الاغتصاب أو القوة المحضة. ولكن بعض الباحثين المعاصرين يردون على ذلك قائلين: إن معظم هؤلاء المؤرخين كتبوا مؤلفاتهم في ظل الخلافة العباسية. ولكي يرضوها فإنهم راحوا يذمون الأمويين ويقسون عليهم لأنهم كانوا الأعداء التاريخيين للعباسيين.

مهما يكن من أمر فإن معاوية بن أبي سفيان استطاع أن يؤسس دولة كبيرة مترامية الأطراف، دولة وصلت إلى حجم الإمبراطورية العظمى، وهذا ليس بالشيء القليل. فالرجل كان سياسيا محنكا لا يشق له غبار، ولا ينبغي أن نستهين بمقدراته وإمكانياته كرجل دولة من أعلى طراز. والواقع أنه لولا حكمته وصرامته لاستمرت الحرب الأهلية بين المسلمين ولربما انتهت الدولة الإسلامية أو فرط عقدها.

صحيح أنه صدم المسلمين عندما قال بأن الحكم بعدي سيكون وراثيا: أي سيرثه ابنه يزيد بن معاوية، ثم ابنه، الخ. ولكنه عرف كيف يخفف من حدة الصدمة عليهم عندما قبل بأن يعرض الأمر على مجلس الشورى المشكل من كبار المسلمين لكي يصدقوا عليه. وهكذا أوهمهم بأنهم هم الذين عينوا يزيدا كحاكم وليس هو، يضاف إلى ذلك أنه شكل مؤسسة ثانية لترسيخ الحكم ألا وهي: البيعة.

فبعد تنصيب يزيد جاءت الوفود من كافة القبائل العربية لكي تقدم له البيعة والطاعة، وهكذا خلعت عليه المشروعية الشعبية أو السياسية بعد أن كانت المشروعية الدينية قد خلعت عليه من قبل مجلس الشورى المؤلف من أعيان المسلمين وشيوخهم.

هنا تكمن حنكة معاوية السياسية، ولهذا السبب استطاع أن يتغلّب على خصومه ويرسخ أركان السلطة الأموية في دمشق. وهي سلطة استمرت مئة سنة تقريبا قبل أن يطيح بها العباسيون الذين ينتمون إلى بني هاشم على عكس معاوية الذي ينتمي إلى بني أمية.

ثم يردف المؤلف قائلا ما معناه: لقد حكم معاوية بن أبي سفيان مدة عشرين سنة تقريبا. وكانت كافية لإجراء الإصلاحات السياسية وترسيخ أقدام العائلة الأموية في الحكم.

ولكن ابنه يزيد لم يحكم أكثر من ثلاث سنوات، هذا في حين أن خلفه معاوية الثاني لم يحكم أكثر من سنة. بعدئذ انتقلت الخلافة إلى الفرع المرواني في العائلة الأموية، وكان أشهر خلفائهم عبد الملك بن مروان الذي حكم عشرين سنة مثل معاوية وربما كان لا يقل أهمية عنه من حيث الهيبة والمقدرة والإنجازات الحضارية.

في الوقت الذي استلم فيه معاوية السلطة كان العرب قد فتحوا كل بلدان الشرق الأوسط بالإضافة إلى مصر ومعظم مناطق إيران. وبالتالي فما بقي على معاوية بن أبي سفيان إلا أن يرسخ سلطته على هذه الإمبراطورية الواسعة المترامية الأطراف. ولم يكن من السهل عليه أن يحكمها كلها. نقول ذلك وبخاصة أنه لم تكن لدى العرب تقاليد عريقة في حكم الإمبراطوريات.

ولذلك قلّد البيزنطيين كما قلنا واستفاد من أساليبهم في تنظيم إدارة الدولة وجبي الضرائب وتوزيع الأراضي وضرب العملة، الخ. وهنا تكمن عبقرية معاوية ومهارته في تنظيم شؤون الحكم. وقد استفاد من خبرة رجال الدولة البيزنطية واستخدمهم في تسيير شؤون الإدارة على الرغم من أنهم ليسوا مسلمين. وبرهن بذلك على انفتاح عقلي وديني أيضا.

ثم أصبحت اللغة العربية لأول مرة لغة إدارة رسمية للدولة. واضطر الموظفون غير العرب إلى تعلمها وإتقانها. بل ابتدأت الترجمات العلمية والطبية والفلسفية منذ عهد الأمويين وإن لم تكن قد بلغت أوجها إلا في عهد العباسيين الذين سيلونهم في الحكم. وبالإضافة إلى ذلك واصل الأمويون الفتوحات غربا حتى وصلوا إلى شمال افريقيا واسبانيا، ووصلوا شرقا إلى الهند والسند.

ولكن ينبغي الاعتراف بأن توحيد لغة الإدارة الرسمية للدولة لم يتم بين عشية وضحاها. ففي البداية كانت اللغة الرسمية في الأقاليم الشرقية للإمبراطورية هي البهلوية أو الفارسية، وفي سوريا كانت اليونانية والبيزنطية، وفي المغرب أو الأندلس كانت اللاتينية.

ولكن عبدالملك بن مروان استطاع توحيد الإدارة وفرض اللغة العربية كلغة رسمية وحيدة للدولة. وهكذا أجبر جميع الموظفين على إتقانها كما ذكرنا سابقا. وكان من بينهم قسم كبير من غير المسلمين في البداية على الأقل.

وقد اضطر عدد كبير من سكان البلاد المفتوحة إلى اعتناق الإسلام لكي يخرجوا من وضع الذمّي. ولكن يبدو أن أغلبية السوريين ظلت مسيحية حتى القرن العاشر الميلادي: أي بعد ثلاثة قرون أو أكثر من حصول الفتح الإسلامي. بعدئذ قلبت الأمور وأصبحت أغلبية السكان إسلامية مع بقاء أقلية على دين المسيح. ولا يزال الأمر مستمرا على هذا النحو حتى الآن.

وما يقال عن سوريا يقال أيضا عن مصر حيث تحول الأقباط، سكان البلاد الأصليين، إلى أقلية أيضا بعد أن همشت لغتهم وحلت العربية محلها. على هذا النحو أسس معاوية بن أبي سفيان أول إمبراطورية عربية إسلامية في التاريخ.

* الكتاب:معاوية بن أبي سفيان

من الجزيرة العربية إلى تشكيل الإمبراطورية

* تأليف :ستيفن همفريز

* الناشر: وان وورلد بوبليكيشين نيويورك 2006

* الصفحات :145 صفحة من القطع الكبير

Mu'awiya Ibn Abi Sufyan :

from Arabia to empire

Stephen Humphreys

One world publications- New York 2006

p.145

Email