كتب في الذاكرة

ديوان الأخطل

ت + ت - الحجم الطبيعي

في أرض الجزيرة، وبين بني تغلب، هؤلاء القوم المتعالين بماضيهم المعتدين بأنفسهم، المتمسكين بنصرانيتهم، ، ولد «أبو مالك غياث بن غوث» الملقّب «الأخطل» سنة عشرين للهجرة، وكانت وفاته سنة اثنتين وتسعين للهجرة، في خلافة «الوليد بن عبد الملك» تفتحت عين «الأخطل» في صباه على الصراع الدموي بين المسلمين، وترامى إلى سمعه ما كانت تبذله قبيلته من مجهود في سبيل الأمويين، ولقف بأذنه الأشعار التي كان يهاجم بها شاعر قبيلته « كعب بن جعيل» أهل العراق،

ليكون ذلك كله رصيداً يسترفد منه في مستقبل حياته، وقد فشلت جميع المحاولات التي بذلت ليعتنق الإسلام، وقد شب على العناد والمشاكسة والميل إلى التحدي والتحرش بالناس وأغلب الرواة متفقون على أنه لم يلقّب بالأخطل، إلا لبذاءته وسفهه وسلاطة لسانه، وقد بدأ يقرض الشعر في سن مبكرة ولكنه لم يبدأ في التغني به وصفاً أو غزلاً أو فخراً،

وإنما بدأ بقول الشعر هجاء، ولعل ظروف نشأته الأولى من حرمانه لحنان أمه، وتسلط زوجة أبيه عليه وحرمانه من أبسط حقوقه . كان له الأثر في ذلك فقد كان الهجاء سبيله إلى الظهور فهجا شاعر تغلب « كعب بن جعيل» ولم تسلم نفسه هو من الهجاء .

والواقع أنه لم يبق لنا من شعر الأخطل، الذي قاله قبل أن يتصل بالأمويين غير بعض هذه الأهاجي، التي يغلب عليها الفحش وقد ذكر «كعب بن جعيل» اسم الأخطل أمام «يزيد بن معاوية « لاستخدامه في هجاء الأنصار، الذين كانوا من شيعة «علي» ووصفه بأنه شاعر فاجر ماهر، كأن لسانه لسان ثور، فاستقدم «يزيد» الأخطل، من الجزيرة إلى الشام،

وأمره بهجائهم والرد على شاعرهم «عبد الرحمن بن حسان» لتكون قصيدته أولى الصلات بالأمويين وقد أصبح نديماً ليزيد حين تسلّم الخلافة، يحضر مجالسه الخاصة في اللهو والغناء، ويقارضه الشعر ويطارحه الأحاديث والأخبار وكانا يتفقان في السن والنشأة، ويتقاربان في الميول والطباع وهكذا صار « الأخطل» شاعر بني أمية، يشيد بخلالهم التي أهلتهم للملك وأظفرتهم بالسلطان، وفيهم يقول :

قوم همُ نالوا التمام وأزحفت عنه مذارعُ آخرين قصار

و في قصيدة ثانية يقول لهم :

ويوم صفين والأبصار خاشعة أمدّهم إذ دعوا من ربهم مدد

فهو يرى بأن الله قد أمدهم بنصرهم يوم وقعة «صفين» بينهم وبين الخليفة «علي بن أبي طالب» رضي الله عنه .

وقد طرق باب البيت الأموي الجديد، لبيت المرواني، بعد الصراع الدموي العنيف، فاتصل بعبد الملك بن مروان، فلقي منه الصدر الرحيب، وظفر عنده بالإعجاب والتقدير، ولم يأل الأخطل جهداً في أن يقدم إليه خلاصة منه، ويعتصر عبقريته في مدحه والتنويه بشأنه ولم يتمالك «عبد الملك» حين أنشد الأخطل بين يديه «خف اليقطين» أن قال: هذه المزمرة والله لو وضعت على زبر الحديد لأذابتها، ويحك ويحك يا أخطل، أتريد أن أكتب على الآفاق أنك أشعر العرب؟

فقال الأخطل : أكتفي بقول أمير المؤمنين، ولكن هذه المكانة ضعفت في عهد « الوليد بن عبد الملك» الذي لم يكن يقدر الشعر، وكان جاهلاً بالعربية، فأرسل الأخطل في آخر أيامه إلى الوليد قصيدته الميمية، التي يؤكد فيها إخلاصه وولاءه لبني أمية، وبذلك يختم صلته بالأمويين .

على أن العصر الأموي خلّف لنا من جهة أخرى تلك النقائض، تلك القصائد التي تبادل الشعراء الثلاثة بالهجاء فيما بينهم، فقد كان الفرزدق والأخطل في جانب، وجرير في جانب ثان، وكانت هذه القصائد صورة ذلك العصر في تفاخره وقيمه، وتحزّب الناس لكل منهما، تبعاً للعصبية القبلية التي عادت من جديد.

ولا يسع من يتأمل شعر الأخطل، غير أن يعترف بأنه تأثر بالشعر الجاهلي، فلم يكن الأخطل من المطبوعين الذين ينظمون أشعارهم عند الخاطر كجرير، بل كان من الذين يعنون بالتنقيح والتهذيب وقد سئل محمد بن سلام أي البيتين عندك أجود : قول جرير :

ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح

أم قول الأخطل :

شمس العداوة حتى يُستقاد لهم وأعظم الناس أحلاماً إذا قدروا

فقال بيت جرير أحلى وأسير، وبيت الأخطل أجزل وأرصن وقد كان الأخطل قريباً في ذلك من الفرزدق الذي قيل أنه كان ينحت في صخر. وقد تمكنت من نفس الأخطل هذه النزعة القوية إلى التهذيب والتجويد، وقوّى ذلك المنزع عنده ملكة الخيال والتفكير .

لكن قصائد هؤلاء الشعراء الثلاثة كانت متوجهة لمدح بني أمية لتكون قصائدهم هذه سجلاً لأحاديث العصر الأموي

Email