المأمون-ميكائيل كوبرسون

المأمون

ت + ت - الحجم الطبيعي

مؤلف هذا الكتاب هو الباحث ميكائيل كوبرسون المختص بتاريخ الإسلام والحضارة العربية. وهو يقدم هنا لمحة تاريخية عن واحد من أعظم الخلفاء العباسيين: المأمون. ومعلوم أنه ولد عام 786 ومات عام 833 عن عمر لا يتجاوز السابعة والأربعين. ومع ذلك فقد خلّد اسمه في التاريخ بفضل إنجازاته الفكرية والسياسية والحضارية.ثم يردف المؤلف قائلاً:

إنه سابع خلفاء بني العباس. وقد استمرت خلافته مدة عشرين سنة من عام 813 إلى عام 833. وقد أثرت أفكاره وأعماله بعمق على مجرى التاريخ العربي الإسلامي. وكان عهده وعهد والده هارون الرشيد يشكل العصر الذهبي للعرب والحضارة الإسلامية. وكانت أمه إيرانية من الموالي، هذا في حين أن أم أخيه الأمين كانت عربية وتحظى بمرتبة الزوجة الشرعية لهارون الرشيد.

ويقال إن هارون الرشيد تردد قبيل موته في تسليم السلطة لهذا أو لذاك. فتارة كان يرغب في تسليمها للأمين، وتارة للمأمون دون أن يتوصل إلى نتيجة. وأخيرا حسم أمره وسلمها للأمين عام 792. ثم أعلن عن ولي العهد في شخص المأمون لكي يخلف أخاه على سدة الخلافة إذا ما توفي قبله أو حصل له مكروه.

وفي أثناء الحج إلى مكة عام 802 كتب هارون الرشيد وصيته. وكانت تقضي بما يلي: يعترف المأمون لأخيه الأمين بمرتبة الخلافة مقابل اعتراف هذا الأخير له باستقلالية كاملة فيما يخص حكم الأقاليم الشرقية، أي الإيرانية، من الإمبراطورية العباسية. كما ويعترف له بأنه ولي عهده. وهكذا اعتقد الخليفة بأنه سوّى الأمور بطريقة متوازنة وأعطى لكل ذي حق حقه ولن تحصل أي مشكلة بعد الآن.

ولكن الاضطرابات اندلعت عام 809 بعد موت هارون الرشيد. وحصلت أزمة كبيرة داخل السلالة العباسية، فقد راح كلا الأخوين يتهم الآخر بأنه لم يحترم وصية والده. ومعلوم أن الأمين كان قد أصبح حاكما لبغداد ونواحيها، وأما الأمين فقد أصبح حاكما لخراسان ونواحيها بعد أن استقر في «مرو» عاصمة الإقليم.

وازدادت الخلافات بين الأخوين وتفاقمت إلى حد الاشتباك العسكري المسلح. واندلعت المعارك الأخوية بالضبط عام 811 أي بعد موت هارون الرشيد بسنتين. وكانت بمثابة حرب أهلية طاحنة بين المسلمين ككل وليس فقط بين الأخوين.

والتقى الجيشان في منطقة الري حيث انتصر المأمون بشكل ساحق على الأمين. واستنجد هذا الأخير بالقوات العربية من سوريا وأمل بأن تنقذه أو تمده بالعون والعدد ولكن عبثا. فلم يتحرك أحد في سوريا لنصرته، وعندئذ مشى المأمون بجيشه على بغداد وحاصرها، ولكن الأحياء الشعبية قاومته بعنف ودافعت عن الأمين بكل ضراوة حتى آخر لحظة.

واستمر الحصار فترة طويلة حتى انتهى أخيرا بانتصار المأمون مرة أخرى وقتل الأمين. ويعتقد معظم المؤرخين أن المأمون كان أكثر ذكاء وعبقرية بكثير من أخيه الأمين.

ولكن الحرب بين الرجلين كانت تعكس الحرب بين تيارين في الواقع: التيار العروبي التقليدي المؤيد للأمين. والتيار التجديدي الذي يضم العرب وغير العرب وبخاصة في الأقاليم الشرقية. وهما تياران متنافسان داخل الإمبراطورية العباسية، بل وكان التنافس بينهما واضحا منذ عهد هارون الرشيد.

ثم يردف المؤلف قائلا: وبعد انتصاره وتنصيبه خليفة للمسلمين استمر المأمون في إقامته بمرو ولم ينتقل إلى بغداد فورا كما كان متوقعا. وقد اتخذ كوزير له شخصا كبيرا يدعى الفضل بن سهل. وقد وضع فيه كل ثقته.

ثم حاول المأمون لمّ شمل المسلمين عن طريق الجمع بين المذاهب المتضادة أو المتناحرة: أي بشكل خاص بين السنة والشيعة. ويبدو أنه كان فوق المذاهب والطوائف على عكس معظم الخلفاء الآخرين. من هنا أهمية المأمون في التاريخ العربي الإسلامي. فقد كان سابقا لوقته بكثير.

ثم كشف المأمون عن مواهب فكرية ضخمة عندما أمر بتشييد بيت الحكمة في بغداد وترجمة أمهات الكتب العلمية والفلسفية عن اليونانية والهندية والفارسية. وقد وظف فيها عشرات المترجمين وكان معظمهم من المسيحيين الذين يعرفون اللغات الأجنبية كحنين بن إسحاق وابنه إسحاق بن حنين وسواهما كثير.

وأرسل المأمون سفراءه إلى بيزنطة والروم من أجل البحث عن مخطوطات فلاسفة الإغريق وشرائها بأي ثمن. وعلى هذا النحو جلبوها إلى بغداد وابتدأوا بترجمتها إلى اللغة العربية.

وقد أدى ذلك إلى تعريب التراث الفكري والعلمي الإغريقي. وهذا التعريب ساهم في اغناء اللغة العربية بالمصطلحات والتراكيب اللغوية الجديدة التي لم تكن معروفة سابقا. ففي الماضي لم تكن اللغة العربية لغة علم وفلسفة. وإنما كانت لغة أدب وشعر وقرآن كريم وحديث نبوي شريف ومواعظ دينية، الخ.

ولكنها بدءا من المأمون تحولت إلى لغة علمية وفلسفية بالكامل. وساهم ذلك في هضم المسلمين للثقافات الأخرى وتشكيل حضارة رائعة بعدئذ. وهذا ما ندعوه بالعصر الذهبي للعرب.

ثم يردف المؤلف قائلا: نعم لقد كان المأمون هو رائد النهضة الفكرية العربية بدون منازع. ولذلك سجل اسمه على صفحات التاريخ بأحرف من نور.

فلولاه لما حصلت كل تلك النهضة الثقافية والطبية والعلمية والفلكية والفلسفية، الخ. ينبغي العلم بأنه كان السبب في ترجمة خمسة وعشرين كتابا لأفلاطون، بالإضافة إلى سبعة عشر كتابا لأرسطو، هذا دون أن نتحدث عن ترجمة كتب جالينوس في الطب أو بطليموس في علم الفلك، ثم كتب ابوقراط، واقليدس، وأرخميدس، وآخرين عديدين جدا.

والواقع أنه لم يكن من السهل على المترجمين العرب أن يترجموا العلم والفلسفة من لغة هندية أوروبية كاللغة اليونانية إلى لغة سامية كاللغة العربية. فالنحو مختلف، وكذلك التراكيب والصياغات اللغوية.

ولكن بما أن معظم المترجمين كانوا مسيحيين ومتعودين على ترجمة الكتاب المقدس من اليونانية إلى السريانية التي هي لغتهم الأصلية فإنهم استطاعوا القيام بهذا العمل والنجاح فيه.

والواقع أنهم كثيرا ما كانوا يترجمون الفلسفة من اليونانية إلى السريانية أولا قبل أن يترجموها مرة أخرى إلى العربية من خلال السريانية لا من خلال اليونانية مباشرة.

لماذا؟ لأن السريانية لغة سامية مثل العربية وبالتالي فيسهل أن ننقل العلم منها إلى العربية لأنها تشبهها من حيث التراكيب والمفردات.ومن أشهر المترجمين العرب المسيحيين يمكن أن نذكر أيضا اسم قسطا بن لوقا، ويحيى بن عدي بالإضافة إلى حنين بن إسحاق وولده وعائلته.

ثم يختم المؤلف كلامه قائلا:

مهما يكن من أمر فإن الخليفة المأمون كان شخصا متميزا عن معظم الخلفاء ومستنيرا جدا من الناحية الفكرية. ولذلك فإنه كان يهتم بشكل مباشر بالعلوم الدينية، والفلسفة، والعلوم المحضة كالفيزياء، والكيمياء، والفلك، والطبيعيات، وسوى ذلك...

وكان مقربا من الاتجاهات العقلانية في الإسلام، وهذا ما جعله يصطدم بالاتجاهات الأصولية المتشددة والمنغلقة على ذاتها. وللأسف فإن الاتجاه العقلاني والفلسفي هزم بعد موته بفترة ليست طويلة. وكان ذلك يعني نهاية الحضارة العربية الإسلامية والعصر الذهبي الذي تألق في بغداد ردحا من الزمن ثم انطفأ.

لهذا السبب يظل المأمون منارة في تاريخ العرب والمسلمين، ويظل قدوة للأجيال اللاحقة بما فيها الجيل الحالي الذي يتخبط في نفس المعضلة التي واجهته قبل ألف ومائتي سنة. ونقصد بها معضلة الصراع بين التيارات العقلانية والتيارات الظلامية في الإسلام.

*الكتاب: المأمون

*تأليف : ميكائيل كوبرسون

*الناشر: مطبوعات العالم الواحد لندن 2005

*الصفحات :144 صفحة ـ قطع كبير

Al Ma'mun

Michael Cooperson

Oneworld Publications London 2005

p.144

Email