لغة الذات والحداثة الدائمة

لغة الذات والحداثة الدائمة

ت + ت - الحجم الطبيعي

يعتبر الناقد السينمائي اللبناني إبراهيم العريس، مؤلف هذا الكتاب، واحدا من الأسماء اللامعة في مجال النقد السينمائي على مستوى الوطن العربي. درس السينما مطلع السبعينات في المعهد التجريبي التابع لـ « مدينة السينما» (شيني شيتا) في العاصمة الإيطالية، روما.

اصدر العديد من الأبحاث والدراسات في مجال السينما والنقد السينمائي، منها «رحلة في السينما العربية»، و«الصورة والواقع»، و«سينما يوسف شاهين»، و«سينما الإنسان».. وغيرها، كما قام بترجمة بعض أهم الكتب السينمائية من اللغة الفرنسية إلى العربية، مثل كتاب «علم جمال السينما»، وكتاب «هيتشكوك» الذي يتناول سينما المخرج الكبير الفريد هيتشكوك.

كذلك قام بترجمة سيناريو فيلم (المحاكمة) الذي حققه اورسون ويلز عن رواية لكافكا تحمل الاسم نفسه، وهو يشرف حاليا على الملحق السينمائي الأسبوعي الذي تصدره صحيفة «الحياة» اللندنية، إلى جانب ذلك يواظب على الكتابة للصحف والدوريات العربية المتخصصة بالفن السابع.

في كتابه الجديد «لغة الذات والحداثة الدائمة» ينحو العريس باتجاه منحى مختلف، إذ يقدم قراءات في حياة وأعمال أكثر من أربعين كاتبا برزوا في مجالات الفلسفة والشعر والرواية والمسرح.. وهم ينتمون إلى جغرافيا مختلفة تمتد من الولايات المتحدة إلى اليابان، ومن الدول الاسكندنافية إلى جنوب أفريقيا، وأنتجوا إبداعهم في القرن العشرين، باستثناء، مفكرين اثنين هما: سقراط وابن خلدون.

فسقراط الذي عاش في أثينا قبل الميلاد، يعتبره العريس رمزا للتمرد الإنساني، في كل العصور، فهو الذي تساءل مبكرا: لم لا نعرف أنفسنا؟، وهو الذي قال في إحدى لحظات محاكمته مخاطبا الأثينيين: «إن لدي مهمة جعلني الرب في سبيلها مرتبطا بمدينتكم، ولهذا لا أكف عن حثكم، وعن وعظكم، وعن توبيخكم حيثما وكيفما اتفق، من الصباح حتى المساء»، فسقراط «لو لم يوجد بالفعل، لكان من الضروري أن يوجد»، كما يقول العريس، وذلك كدلالة على الرفض الذي يعتمل في النفس البشرية، وسعيها للاحتجاج ضد العبودية والقمع والحقائق الجاهزة المعلبة.

ينتقل العريس من هذا التاريخ الإغريقي القديم إلى نهاية القرن الرابع عشر الميلادي في الشمال الإفريقي، ليختار أحد أهم الباحثين في مجال التاريخ، وهو عبد الرحمن ابن خلدون، صاحب أشهر كتاب، هو «المقدمة» الذي يعتبر إلى الآن من الكتب الفاعلة، والمؤثرة، ويرى العريس أن السبب في ذلك، يعود إلى أن الأسئلة التي طرحها لا تزال هي الأسئلة المطروحة على التاريخ حتى اليوم ـ

فالمقدمة يعتبر أول نص في التاريخ يربط الأحداث بأسبابها الاجتماعية والمناخية والجغرافية، ويقول بمبدأ «التوليد»، بمعنى أن الأحداث تولد من بعضها البعض، لا في تعاقب زمني بسيط، وإنما في تعاقب تعددي مركب.

ولعل ابن خلدون هو أول من انتقد، بشكل علمي ومنهجي، المؤرخين المسلمين الذين سبقوه مثل: ابن اسحق، والطبري، والاشدي، والواقدي.. وسواهم ممن قال عنهم في مقدمته: إن التاريخ على أيديهم صور تُجرّد من بوادرها.

وهم على الجملة، إذا تعرضوا لذكر دولة نسقوا أخبارها نسقا، محافظين على نقلها وهما أو صدقا، لا يتعرضون لبدايتها. ولا آيتها، ولا علة الوقوف عند غايتها»، ووفق هذه الآراء فان ابن خلدون ابتكر منهجا جديدا لكتابة التاريخ فلم يعد الأمر يقتصر على تدوين الوقائع فحسب، بل صار يقوم بتعليل الوقائع تعليلا علميا منهجيا يقوم على الملاحظة والمقارنة والموازنة والمعارضة، ولا سيما دراسة البيئة، وأصول العوائد، وقواعد السياسة، وطبيعة العمران.

من هاتين المحطتين التاريخيتين، ينتقل العريس ليستقر في القرن العشرين الذي احدث ثورة هائلة في مجالات الفكر والفن والعلم والتطور التقني، كما كان قرنا مليئا بالمجاعات والصراعات والثورات والحروب. يختار العريس من بين مبدعي هذا القرن رموزا في مختلف مجالات الفكر والأدب والفن محاولا الإجابة عن السؤال الرئيس الذي يطرحه على نفسه، والمتمثل في: لماذا، ولمن يكتب الكاتب؟

والجواب عن هذا السؤال يتوضح بصورة تدريجية على مدى القراءات التي تحملها صفحات الكتاب، عبر التركيز على علاقة الكتابة بكاتبها، باعتبارها ـ كما يقول ـ العلاقة الحاسمة التي تجعل للنص هويته، وشكله ومضمونه، فالنصوص التي نطالعها في الكتاب تفترض أن الكتابة هي في المقام الأول «تعبير عن الذات»، أو حسب تعبير نيكوس كازانتزاكيس ـ أحد الحاضرين في الصفحات ـ هو تعبير عن لهيب الروح.

العريس يحاجج في «أن نص الكاتب ينبع، أولا، من همه الذاتي، من رغبته في تحدي الحياة والموت معا، بل وفي حدود قصوى من رغبته في الوقوف خارج الجماعة. ومن هنا يكون الفن (أدبيا أو غير أدبي) فعل مشاكسة. ولأن كل مشاكسة تجاوز، يصبح الفن لغة التطلع الدائم إلى الممكن، بل والى المستحيل.

ودائما عبر مرشّح الذات الخلاقة»، وبهذا المعنى فقط يمكن ـ في رأيه ـ النظر إلى فعل الإبداع كفعل تسام يحاول الإنسان المبدع من خلاله أن يجد لنفسه مكانا خارج حسابات البشر ويومياتهم الفانية، حتى وان كان من سمات الأدب الكبير والفن الكبير النهل من حياة البشر ومن أحزانهم، وأفراحهم، وآمالهم، وخيباتهم.

يتناول العريس، إذن، في مؤلفه تجربة عدد كبير من الكتاب الذين تختلف اهتماماتهم، لكن ما يجمعهم هو قرابة الحبر، فيتحدث عن أبرز كتاب اليابان، ويتوقف عند مبدعي الحداثة الأوربية المعاصرة، ويقرأ تجربة مؤرخ الأديان أو المنقب في تاريخ الأساطير، وتجربة اشهر كتاب ألبانيا وسويسرا.. وسواهم، محاولا رسم الأجواء الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي رافقت ظهورهم وولادتهم، مرورا بمراحل الطفولة، والصبا، والمواقف التي تركت في نفوسهم ندوبا لا تمحى.

وهو يقيم أعمالهم من خلال ذائقته الخاصة ككاتب متابع ومجتهد، عبر رؤية موضوعية تقرأ قسمات وجوههم، وتكشف عن الأسرار التي اكتنفت مصائرهم في محاولة منه للوصول إلى منبع الإشعاع الذي توهج، ذات إشراقه، في دهاليز روحهم ليشع بنوره على العالم، وتحقيقا لهذا الهدف فهو يضع أعمالهم وسيرتهم الذاتية تحت مجهر النقد مستعينا بخبرته التي اكتسبها عبر زاويته اليومية في صحيفة الحياة «ألف وجه لألف عام» والمخصصة للحديث عن أهم الإبداعات العالمية في مجال المسرح والسينما والتشكيل والأدب..

وما يقوم به في زاويته، يطبقه هنا أيضا، إذ يجهد في تأويل ما كتبه هؤلاء الكتاب عبر قراءة جديدة للمراحل والظروف والحالات التي مروا بها، والأمكنة التي عاشوا فيها، وهو يقارب عوالمهم بكثير من الشغف والحذر والدراية، وبلغة ترتقي إلى مصاف النص الأدبي الذي ينأى عن إطلاق الأحكام النقدية الحاسمة والصارمة، وإنما يكتفي بسرد هذه الحياة بكل تناقضاتها وتشعباتها التي تمخضت عن شخصيات لعبت دورا كبيرا في رسم ملامح القرن العشرين.

المفكر الفرنسي لوي التوسير من الشخصيات التي يفرد لها مساحة في كتابه، وهو يركز على نقطة مهمة تتعلق برؤية التوسير ـ المتوفي في العام 1990 ـ للماركسية، إذ يرى العريس بان قراءة متأنية لأعمال التوسير ستضعنا أمام واقع يقول «إن عملية سلخ الجلد الأيديولوجي عن الماركسية، إنما بدأت مع التوسير الذي وقف على نقيض غرامشي وغارودي.. ليعلن أن الماركسية إما أن تكون علما أو لا تكون..

وان أية نظرة أخرى إلى الماركسية تحاول أن تؤنسنها، إنما يعني رمي الماركسية كفلسفة للاقتصاد والتاريخ في أحضان الأيديولوجيا، وتحويلها إلى دوغما تزعم حل مشكلات الإنسان كلها، وهي على هذه الشاكلة عاجزة عن ذلك».

ويكتب عن جورج دوموزيل (1898 ـ 1986) المفكر الفرنسي الذي قضى عمره يدرس وحدة الجنس البشري، ويعقد المقارنات بين مختلف الشعوب والحضارات، ويسجل نقاط اللقاء بين الأقوام، تلك النقاط التي كانت، بالنسبة إليه، أفسح وأكبر من نقاط الخلاف بكثير، لذلك كان يطرح سؤالا على قرن شهد صراعات وحروب مريرة: ترى لماذا يتصارع هؤلاء الناس ؟ وعلام هم مختلفون حقا؟

ويقف العريس عند تجربة ميرسيا ايلياد الإشكالي، فهو ولد في بوخارست عاصمة رومانيا عام 1907 واستقر في باريس، عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، بعد تنقلات كثيرة، وفيها بدأ بنشر أهم كتبه باللغة الفرنسية، فهو من كبار كتاب القرن العشرين ويصعب تصنيفه تبعا لتعدد اهتماماته الكتابية والفكرية حيث كتب البحث التاريخي كما كتب الرواية، كتب الشعر كما غاص في التأمل الفلسفي، فضلا عن دراسته لتاريخ الأديان.

وفي فصل تحت عنوان «حداثة القرن العشرين» يقف العريس عند تجربة الروائي الفرنسي مارسيل بروست، وخصوصا رائعته الذائعة الصيت «البحث عن الزمن الضائع»، التي أخرجت الرواية من المكان الذي وضعها فيه بلزاك، والجديد لدى بروست، بحسب العريس، هو ذلك التضاد الذي أبدعه بين الزمن الحقيقي المتآكل، والزمن الداخلي اللامتناهي، كما يتحدث عن تجربة الروائي الايرلندي جيمس جويس (1882 ـ 1941) وتحفته الروائية الخالدة «أوليس» التي تشتغل على الزمن بشكل مغاير للفرنسي بروست: إنها باختصار «تفلش» الزمن، تمده، وتدخل في تفاصيله، إذ أن أحداث الرواية جميعها تدور على مدى ثماني عشرة ساعة لا غير..

ثماني عشرة ساعة تتوزع على ما يقارب الألف صفحة، وهي بذلك تعتبر أعظم عمل روائي افرزه القرن العشرين، فهي رواية تتحدث عن بلوم (البطل) الذي يستيقظ صباحا، وينام بعد منتصف الليل، ويمضي حياة رتيبة إلى حدود الموت.. يمضي نهارا واحدا هو في عرف جويس الحياة كل الحياة. ومغزى هذا النهار في «أوليس» هو الذي أعطى لجويس مكانته كواحد من كبار كتاب الحداثة في القرن العشرين.

تلك هي الطريقة التي يقارب بها العريس عوالم الكتاب الذين اختارهم، وسيكون في مقدور القارئ التعرف في الصفحات اللاحقة على كتاب، بعضهم بلغت شهرته الآفاق، وبعضهم الآخر لم ينل حظه من الشهرة في العالم العربي، ومنهم: روبرت موزيل، لوي فردينان سيلين، توماس مان، أرنست جونغر، عزرا باوند، بيار لوتي، فريدريك دورنمات، كارين بلكسن، تشيزار بافيزي، نيكوس كازنتزاكيس، وليام فوكنر، تينيسي وليامز، ألبير كامو، ستيفان تسفايغ، غراهام غرين، لورانس داريل، البرتو مورافيا، يانيس ريتسوس، تانيزاكي، ياسوناري كاواباتا، يوكيو ميشيما، اسماعيل كاداريه، بول بولز، جان جينيه، فرانز كافكا.. وغيرهم.

* أبراهيم حاج عبدي

* الكتاب:لغة الذات والحداثة الدائمة

* الناشر: دار المدى ـ دمشق 2006

* الصفحات:408 صفحات من القطع المتوسط

Email