تعال وأحكِ لي كيف تعيش

تعال وأحكِ لي كيف تعيش

ت + ت - الحجم الطبيعي

مؤلفة هذا الكتاب أشهر من نار على علم: انها الكاتبة الانجليزية آغاثا كريستي صاحبة الروايات البوليسية التي ملأت كل أنحاء العالم. ولكن هذا الكتاب يعتبر استثناء على كتبها. فهو ليس رواية بوليسية وإنما رواية حقيقية.

فمن كان يعلم ان آغاثا كريستي زارت سوريا وأقامت فيها فترة من الزمن أثناء الثلاثينات من القرن الماضي؟ من كان يعلم انها «أحبت تلك البلاد وأهلها» وقد حصلت القصة على النحو التالي: في عام 1930 كان عمر آغاثا كريستي أربعين سنة.

وكانت مطلقة منذ فترة وجيزة بعد زواج غير موفق. وقد تعرفت عندئذ على عالم آثار انجليزي شاب عمره ستة وعشرون عاماً: أي يصغرها بأربعة عشر عاماً. ومع ذلك فقد احبها وتزوجها دون أي اهتمام بمسألة العمر ولم يكن قد قرأ لها شيئاً قبل ذلك ولا يعرف عنها أي شيء تقريباً. نقول ذلك على الرغم من انها كانت قد أصبحت كاتبة مرموقة وذات سمعة أدبية ضخمة في انجلترا.

وهذا ما أعجبها في الشاب ماكس مالوان الذي تزوجها. فهو يتعامل معها كامرأة بغض النظر عن سمعتها وشهرتها ولا يتأثر بأي افكار مسبقة عنها.

ومعلوم ان آغاثا كريستي هي من أشهر الكتاب في العالم. فرواياتها مترجمة إلى أكثر من مئة لغة، وقد بيع منها ما لا يقل عن مئة مليون نسخة! وهذا رقم خيالي لا يحلم به أي كاتب آخر مهما علا شأنه.. وكانت قد ولدت عام 1890 وماتت عام 1976 عن عمر يناهز السادسة والثمانين عاماً.

ولكن عندما زارت سوريا برفقة زوجها عالم الآثار كانت في عز شبابها. وهي تروي قصة رحيلها من لندن ومن محطة فيكتوريا بالذات إلى المنطقة بواسطة القطار الشهير للشرق.

هو القطار الذي ستخلده لاحقاً برواية بوليسية شهيرة تحمل العنوان التالي «جريمة قتل في قطار الشرق السريع» وقد صدرت للمرة الأولى عام (1934): أي بعد رحلتها إلى سوريا مباشرة تقريباً.

وبالتالي فقد استفادت من تجربتها الواقعية لكي تكتب روايتها البوليسية التي أذهلت العالم وأخرجت في فيلم سينمائي شهير.

والواقع انها ركبت هذا القطار من لندن واجتازت العديد من البلدان الأوروبية قبل ان تصل إلى تركيا أو إلى اسطنبول تحديداً. ومن هناك ذهبت إلى حلب فبيروت ثم عادت من بيروت إلى منطقة الجزيرة لكي تبحث عن آثار الحضارات القديمة مع زوجها وفريق عمله.

تقول المؤلفة عن كتابها هذا ما معناه: لقد ابتدأت كتابة قصة رحلتي إلى سوريا قبل الحرب العالمية الثانية ثم تركتها جانباً وشغلت بأشياء أخرى. ولكن الآن وبعد مرور أربعة أعوام على الحرب العالمية الثانية أشعر بأن كل مشاعري متجهة نحو تلك السنوات الرائعة التي قضيتها في سوريا.. ولهذا السبب شعرت بالحاجة لإخراج مذكراتي والملاحظات التي كنت قد كتبتها عن هذا البلد عندما كنت فيه.

ثم اعتمدت عليها وعلى ذاكرتي ورحت اكتب هذا الكتاب. رحت أكمل ما كنت قد ابتدأته قبل عشر سنوات خوفاً عليه من الضياع. وكان ان نتج هذا الكتاب.

ثم تضيف آغاثا كريستي قائلة: وذلك لاني اعتقد انه من المؤسف ان تضيع تلك الذكريات وألا يعرف القاريء باسماء تلك الاماكن التي زرتها أو باللحظات الحلوة التي عشتها في ربوع سوريا.

من المؤسف ان تتبخر ذكريات تلك التلال المحيطة بالحسكة أو القامشلي أو دير الزور. من المؤسف ان تضيع تلك اللحظات الهنيئة على ضفاف الخابور وكأنها لم تكن.

ولذلك أردت تخليدها في كتاب قبل أن تمحى من ذاكرتي وتموت. وذلك لأني بعد اربع سنوات أمضيناها في لندن تحت القصف والقنابل اشعر الآن كم كنا سعداء في سوريا. وبالتالي فإن مجرد «استذكار تلك الفترة واجترار أيامها الهنيئة كان بمثابة ترويح عن النفس لا مثيل له.وتأليف هذا الكتاب لم يكن أشغالاً شاقة بالنسبة لي. على العكس، لقد كان شهادة حب. فقد كتبته بسهولة واستمتعت كثيراً بكتابته.

ثم تردف اغاثا كريستي قائلة: نعم إني أحب هذا البلد الخصب والهاديء، وأحب طبيعة سكانه العفوية الصادقة. كما أحب نمط حياته المتكاسل والمرح. إن سكانه كرماء، مهذبون يحترمون أنفسهم ولهم كرامتهم. هذا بالإضافة إلى روح الفكاهة والمزاح التي يتمتعون بها. والموت بالنسبة لهم ليس شيئاً مرعباً على الإطلاق. إنه شيء طبيعي. لقد أذهلوني بأشياء عديدة.

وإن شاء الله سوف أعود إلى هناك مرة أخرى لكي أرى كل ما أحببته في تلك البلاد الطيبة. وأرجو ألا يكون قد اختفى من على سطح الأرض أثناء غيابي.

ثم تتحدث المؤلفة بعدئذ عن وصولها إلى بيروت مع زوجها لكي يشكلا فريق عمل من أجل الذهاب إلى سوريا للتنقيب عن الآثار فيها وتقول:بيروت! ها قد وصلنا إلى بيروت فخليجها البحري وسلسلة الجبال التي تسند ظهرها.. هذا ما رأيته من خلال غرفتي في الفندق، وكانت تطل على البحر إطلالة رائعة.

ولكن الفنادق هناك لا تمتلك نفس المستوى من الخدمات كما في أوروبا. فعندما كنت أفتح حنفية الماء الساخن كان ينزل الماء البارد والعكس صحيح! وقد سبب لي ذلك مشكلة أثناء الاستحمام. ولكن على الرغم من هذا فقد كنت سعيدة.

يضاف إلى ذلك أن العادات الشرقية ليست عاداتنا. ولكن هذا لا يعني أنني أكرهها وإنما فقط أقول بأنها فاجأتني . فمثلاً طرق علينا «حمودي» الباب الساعة الخامسة صباحاً قائلاً: لقد وصل فريق العمل! وحمودي هذا هو مساعد زوجي في البحث عن الآثار. وكنت أتمنى لو جاءنا الساعة التاسعة أو العاشرة صباحاً وليس الخامسة لأني كنت مستغرقة في النوم.

لقد دخل علينا حمودي ووالداه بكل حماسة وطيبة وسلموا علينا ونحن في الفراش! ثم سألوا: شلون، كيفك؟ فرد زوجي الذي يعرف العربية من طول إقامته هناك: كله زين.. فعلقوا قائلين: الحمد لله، الحمد لله.. ثم تردف اغاثا كريستي قائلة:

ثم جلسوا جميعهم على الأرض مع زوجي ماكس وراحوا يتبادلون الأخبار ويتحدثون بالعربية.. وبالطبع فقد استبعدوني من المحادثة لأني لم أكن أعرف كلمة عربية واحدة. ولذلك ظللت انتظرهم وأنظر إليهم وهم يتحدثون بكل انفعال وشوق وحماسة.

ثم وجه حمودي الحديث إليّ أكثر من مرة بكل لطف ولباقة، وكان زوجي هو الذي يترجم بيننا. وبعدئذ قمنا بزيارة أسواق بيروت الجميلة وأشتريت الكثير من الأقمشة الحريرية وبعض الأحذية وأرسلت الهدايا الشرقية إلى عائلتي في لندن.

ثم تتحدث المؤلفة بعدئذ عن العادات الشرقية الخاصة بالبنوك في بيروت وكيف إنهم «يهلكونك» قبل أن تنتهي معاملتك ويدفعون لك الفلوس.. فدائماً يطالبونك بأوراق جديدة، ورسائل، وطوابع.. وهكذا يدفعونك كل ما يستطيعون لكي يأخذوا منك بضعة قروش إضافية. إنها إدارة «عصملية» بالخالص!.. أي موروثة عن الإمبراطورية العثمانية المهترئة.

ثم تتحدث المؤلفة عن فريق العمل الذي سيذهب معها ومع زوجها في الرحلة الاستكشافية إلى شرق سوريا وشمالها. وكان مؤلفاً من سائق، وطباخ، وآخرين. وكان السائق أرمنياً ويدعى أرستيد، أما الطباخ فكان عربياً ويدعى عبدالله. ثم غادروا بيروت وهم يحاذون البحر بسيارتهم واجتازوا نهر الكلب وواصلوا طريقهم حتى وصلوا إلى حمص.

وهناك نزلوا في الفندق وتعشوا في المطعم وأرادوا زيارة المدينة للتعرف عليها، فقال لهم أحد المرافقين وهو انجليزي أيضاً. لا يوجد أي شيء مهم في حمص لكي تروه فأبقوا في الفندق لكي نغادر صباحاً ونكمل طريقنا.

ثم تردف أغاثا كريستي قائلة: وهذا ما فعلناه. فقد أدرنا ظهرنا للمدن والعمران والحضارة وأوغلنا السير في البادية حتى وصلنا إلى تدمر. وهناك رأينا أجمل آثار الحضارة الرومانية.

والتقينا بمجموعة من السياح الفرنسيين. ومعلوم إن سوريا آنذاك كانت تحت الانتداب الفرنسي. ثم واصلنا طريقنا بعدئذ ساعات وساعات حتى وصلنا إلى دير الزور الواقعة على نهر الفرات.

وكان الطقس حاراً جداً والمدينة بشعة لا يوجد فيها شيء يسر الناظر. هذا بالإضافة إلى الروائح الكريهة النتنة. ولم يكن يوجد في المدينة أي فندق على الطريقة الأوروبية. فنمنا في غرف عند السكان. ولكن فيما وراء النهر كان هناك منظر جميل.

ثم تردف اغاثا كريستي قائلة: وبعدئذ انطلقنا لاستكشاف المناطق المحيطة بدير الزور بحثاً عن الآثار. ولكننا لم نجد إلا الاطلال الرومانية. وهي آثار لا تهم زوجي على الإطلاق. لماذا؟ لأنه يعتبرها حديثة العهد! فالحضارة الرومانية حديثة العهد بالنسبة للباحثين عن الآثار.

إنها بنت الأمس! وهم لا يهتمون إلا بآثار الحضارات التي تعود إلى ألفي سنة قبل المسيح. إنهم يبحثون عن آثار الحضارات الحثية، والأشورية، والبابلية، والكنعانية وحضارات ما قبل التاريخ. هذه هي الأثار التي كانت تهم زوجي.

ولذلك فعندما كنا نعثر على آثار جميلة ونعتقد إننا وقعنا على كنز كان يتأمل فيه قليلاً ثم يرميه أرضاً بنوع من التقزر والقرف قائلاً: روماني! غير مهم!..

ثم وصلنا إلى الميادين. وهناك ابتدأت حياة المخيم والبداوة بالنسبة لنا. فقد أخذ الرجال ينصبون الخيام وأنا أتفرج عليهم. وأصبحنا نعيش وننام تحت الخيام. وفي النهار كنا نذهب إلى التلال المحيطة للبحث عن الآثار القديمة.

والتقينا عندئذ ببدو من قبيلة عنيزة وسرعان ما سلم عليهم السائق الأرمني أرستيد وقبلهم وكأنه واحد منهم. وفيما بعد عرفنا إنهم هم الذين أنقذوه من مجازر الأتراك حيث مات أبوه وأمه وأخوته ولم يبق من العائلة إلا هو.

الكتاب: تعال واحك لي كيف تعيش

الناشر: اكادين بريس ـ لندن 2005

الصفحات: 207 صفحات من القطع

الكبير

Come, Tell Me How You Live

Agatha Christie Mallowan

Akadine Press- London 2005 P. 207

Email