من المكتبة العربية

الترجمات الخمس ليسوع

ت + ت - الحجم الطبيعي

قبل رحيله بأربع سنوات أصدر القس اللبناني الأصل إبراهيم متري رحباني كتابه الثامن والأخير «الترجمات الخمس ليسوع»، أصدره في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1940 وباللغة الإنكليزية، لكن الكتاب على أهميته ظل بعيدا عن متناول القارئ العربي حتى أواخر العام الحالي حين قام الباحث أسامة عجاج المهتار بتعريبه وتحقيقه، وصدر عن دار أطلس بدمشق، واللافت في الموضوع أن رجل الدين المسيحي يقدّم مقاربة مغايرة وجريئة جدا لصورة يسوع التاريخي، تؤكد نبوته، وتنفي الوهيته، وتلغي قدراته الخارقة وولادته الغريبة في بيت لحم،

فكما ذكر المؤلف: يسوع الناصري ليس المسيح المنتظر، إنه النبي ابن يوسف النجار ومريم، وُلد في الناصرة، آمن بتعاليم النبي يوحنا المعمدان، وبشّر بها بعد مقتله، لم يُصلب بمشيئته، ولم يقم عن الصليب في اليوم الثالث، وهو تصوّر يثير الجدل والتحفظات، كما يثير العديد من الأسئلة حول شخصية المؤلف والحيثيات التي اعتمدها لتبرير تصوره هذا. وُلد ابراهيم متري رحباني في قرية الشوير/لبنان عام 1869 من عائلة كاثوليكية، ثم انتقل إلى بلدة بتاتر، والتحق بمدرسة البروتستانت عام 1886،

بعدها هاجر إلى أمريكا عام 1891، وهناك كانت له أنشطته الثقافية والسياسية إلى جانب نشاطه الديني، حيث ترأس تحرير صحيفة «كوكب أمريكا» ووضع ثمانية كتب بالإنكليزية منها كتاب «المسيح السوري» الذي أٌعيد طبعه إحدى عشرة مرة، وكان من الأوائل الذين نبهوا إلى الخطر الصهيوني، وقد توفي عن عمر ناهز الخامسة والسبعين.

وبهذا الخصوص يتساءل المعرّب في معرض تقديمه للكتاب: لماذا لم نسمع برحباني من قبل؟ مع أنه عاصر جبران خليل جبران والريحاني تاريخيا وجغرافيا، وعمل في الخط الوطني نفسه، بل وكان مندوب الجمعيات السورية الأميركية إلى مؤتمر الصلح في باريس عام 1919 حيث التقى الأمير فيصل، وكتب مذكرات تفصيلية عن تلك المرحلة (ص13).

ويرى المهتار أن سبب طمس ذكر الرحباني ومنع إعادة نشر كتبه، هو حرارة وعنف كتاباته والتغير الجذري والسريع الذي طرأ على المجتمع الأميركي ما بين الحربين العالميتين ومن ثمة قيام دولة إسرائيل.

كما نوه الرحباني منذ البداية فإن كتابه من حيث الجوهر هو عبارة عن خمس عظات (منقّحة ومعّدلة) ألقاها أثناء خدمته في كنيسة «التلاميذ المتحدة في ماساتشوستس/بوسطن، واختار لكل عظة عنوانا هي فصول الكتاب: يسوع الناصرة/النبي، يسوع بيت لحم/ المسيح، يسوع إنطاكية/ الكلمة، يسوع نيقيا/ الإله، وأخيرا يسوع/ المعاصر الأخ والمعلم، وفي التقديم الذي جاء بقلم متروبوليت حلب للسريان الأرثوذكس المطران يوحنا إبراهيم، نتابع وجهة نظر تختلف تماما عن مضامين الكتاب،

فقد رأى المطران أن الرحباني حاول في كل الفصول أن يتجنب نقاط الخلاف التي حصلت من خلال الحوار اللاهوتي بين أبناء الكنيسة ومعلميها، ليقدم المسيح كشخصية تتعالى عن كل الخلافات التي وقعت في الماضي، لكن المؤلف لم ينجح في رسم صورة حقيقية للسيد المسيح، فالمسيح هو هو، يعيش مع كل التقاليد وعلى كل التراثات، ولا يتجزأ، فهذا المسيح الحقيقي، المحب، المعلم وصديق الإنسان، هو هو الذي جاء من أجلنا ومن أجل خلاصنا، ولولا الصليب لما كانت المسيحية دين محبة الله ومحبة الإنسان.

في «الترجمات الخمس ليسوع» مقاربة نقدية للنص الديني، ترتكز على فرضيتين أساسيتين: الأولى تعتبر الدين ظاهرة تخضع لقانون التطور، وبالتالي يجب مراجعة النصوص الدينية وإعادة تفسيرها من مرحلة تطورية إلى أخرى، والفرضية الثانية تقول بإن الإنسان هو صانع دينه، والكتاب المقدس ليس معطى قبلي،

وقد أكد المؤلف في مقدمة كتابه أن عمله يبتغي الكشف عن حقائق الدين، وحقيقة المعلم يسوع استنادا إلى الأناجيل الثلاثة الأُول، وإلى العلوم الحديثة التي فتحت ثغرات واسعة في التقاليد البائدة والعقائد الأسطورية التي لحقت بالمسيحية، «لنكون أكثر ذكاء كمفكرين، وأكثر ولاء كمؤمنين» (ص35).

ففي كتابه يرفض الرحباني فكرة أن الكتاب المقدس كتاب سابق للإنسان، وأنه كلام الله، (إذ نجد ان يهوه هو إله غيور ويقتل الأطفال، وهي نظرة تعبر عن تصور بدائي)، ويرى أنه كتاب تطور مع تطور الإنسان، وهو كلام الإنسان عن الله وفق تطور الإنسان، «فخلال قرون كان يكتشف الإنسان حقيقة الله وفق نمو مقدرته العقلية ونضجها» الأمر الذي دفع بيسوع لأن يراجع شريعة آبائه مراجعة حاسمة حيث نجده يقول: «سمعتم أن قُيل عين بعين وسن بسن،

أما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر، سمعتم أنه قُيل تحب قريبك وتبغض عدوك، وأما أنا فأقول لكم أحبوا أعداءكم باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم...» إلى نهاية المقطع من الموعظة على الجبل، وبهذا يستنتج المؤلف أن الأنبياء المتأخرين ويسوع لم يعتبروا التوراة كلمة الله التي لا تمس، ولم يعتبروا تغيير أي من وصاياه خطيئة واستنادا إلى كل ما سبق ليس ثمة حقيقة أنصع من كون الإنجيل كتابا إنسانيا، إنه كلمة الإنسان عن الله .

يؤكد الرحباني أيضا في سياق كتابه على فكرة أن الكنيسة لم تعرف أبدا يسوع الناصري لا كإنسان ولا كمعلم، «إن إرثها اللاهوتي إغريقي أكثر منه عبراني، لقد نمت وازدهرت على أرض الأمم، وكان بولس هو رائدها اللاهوتي الأول، أما معظم المتحوّلين إليها فمن الوثنية، وحين تبنت الكنيسة أسرارهم (قرابينهم) انضم الوثنيون إليها حيث وجدوا عقائدهم تحت إدارة جديدة»

وبهذا الخصوص يلح المؤلف على أن يسوع نبي من الناصرة، وليس المسيح المنتظر لليهود، بعد أن يضع شرحا وافيا لمفهوم المسيح، ويضع مجموعة خصائص للمسيح الذي ينتظره اليهود إلى اليوم، ويرفض فكرة الولادة العجائبية والقدرات الإلهية ليسوع، ويؤكد انه نبي وقع بين يدي كهان الهيكل قبل ألفي عام، فهو يقول: «من الاناجيل الثلاثة الأُول نفهم أن يسوع كان رجلا لم يدع مرة أنه شخص خارق، لقد عاش حياته مع تلامذته كمعلم ...

ولكن التاريخ ينبئنا أن أتباعه اللاحقين من يهود هلينيين (يونان) توجهوا إلى الأمم، وأخذوا أساسيات عقائدهم اللاهوتية من تلك المصادر الوثنية، وجعلوا من الناصري البسيط إلها خارقا، كلي القدرة وكلي المعرفة، ولكن في بشارة مرقص الأقدم من بين الأناجيل الأربعة كان ليسوع حدوده البشرية».

في فصول الكتاب يعتبر المؤلف أن الصلب الإرادي ليسوع وقيامه بعد الموت مجرد خيال مستمد من تراث المنطقة، فيذكر: أن الزعم القائل بذهاب يسوع من الجليل إلى أورشليم كي يموت على الصليب، زعم خاطئ .. فقد بذل جهدا كبيرا لتجنب المصير القاسي من الاختباء في غابة جشسيماتي إلى التضرع والصلاة:

«يا أبتاه فلتعبر عني هذا الكأس» وعلى الصليب: «إلهي، إلهي لماذا تركتني» أما عن قيامة المسيح فيذهب المؤلف إلى أن قيامة الموتى هو معتقد يهودي كان سائدا، كما ان الصعود إلى السماء لم يكن بالشيء الغريب عن ذلك الشعب ، والتلامذة هم أبناء الشرق الحالم ... وكان عليهم تحقيق هدفين بعد عودتهم إلى أورشليم إتمام تعاليم سيدهم الذي صُلب، وإقناع اليهود أنه هو مسيحهم المنتظر.

ويختم الرحباني فصول كتابه بإعلان انتمائه إلى فكر التوحيديين المتنورين، وبنقده لفكرة الخلاص التي تحضّ على الجمود والروح الاتكالية، فعلى كل إنسان أن يطلب خلاصه بنفسه بطريق العمل الصالح والمحبة، فهو يدعو الإنسان لمشاركة الله في الخليقة بالعمل، لا الدعاء له فقط، ويقول: «لم يبشر يسوع بعقائد، بل بحياة وفيرة كيانا وعملا:

«اطلبوا تجدوا، اقرعوا يُفتح لكم، اغفروا، يُغفر لكم» ويتساءل لماذا لا يتم التركيز على الفضيلة الأصلية بدلا من التركيز على الخطيئة الأصلية، ويرى الرحباني أن الفكرة الأسمى في الكتاب المقدس هي: «أحب إلهك من كل قلبك، وأحب قريبك كما تحب نفسك» وأن «مملكة الله في قلوبكم».

تهامة الجندي

الكتاب: الترجمات الخمس ليسوع

تعريب وتدقيق: أسامة عجاج المهتار

الناشر: دار أطلس ـ دمشق2005

الصفحات : 159 صفحة من القطع المتوسط

Email