المسألة الثقافية

المسألة الثقافية

ت + ت - الحجم الطبيعي

تلمس الكاتب السعودي زكي ميلاد الطريق إلى دراسة فكرة الثقافة في كتابه «المسألة الثقافية ـ من أجل بناء نظرية في الثقافة» من زاويتين. الأولى مناقشة ما طرحه بعض الكتاب والمفكرين من نظريات لافتة حول فكرة الثقافة وتستحق النظر والاهتمام، كنظرية مالك بن نبي في مشكلة الثقافة، ونظرية علي عزت بيجوفيتش في العلاقة بين الثقافة والحضارة.

ونظرية توماس إليوت في العلاقة بين الدين والثقافة. وقد خصص فصلاً في كتابه لكل واحدة من هذه النظريات. من زاوية ثانية، يناقش فكرة الثقافة في إطار علاقاتها وجدلياتها مع بعض الأبعاد الوثيقة الصلة بها، فالعلاقة بين الثقافة والأنثروبولوجيا، وبين الثقافة والسياسة، وبين الثقافة والمجتمع.

وفي إطار هذه العلاقات والجدليات يحاول مناقشة بعض الأفكار والمفاهيم والنظريات التي تتصل بها، كل ذلك من أجل تشريح وتفكيك فكرة الثقافة، ومحاولة فهم منطقها الداخلي، وفحص حكمتها وفلسفتها، والتعرف على وظائفها وآرائها حتى تتجلى لنا فكرة الثقافة بصورة واضحة.

تتحدد أطروحة هذا الكتاب في الفصلين الأول والأخير، ففي الفصل الأول تتحدد الأطروحة في محاولة تفسير لماذا لم نتعرف على فكرة الثقافة منذ وقت مبكر؟ ولماذا لم تتحوّل الثقافة عندنا من مرحلة المعنى اللغوي التي كانت عليه إلى مرحلة المفهوم بدلالاته المركبة؟ ولماذا بقينا بدون فكرة أو نظرية في الثقافة؟

وفي الفصل الأخير تتحدد في البحث عن السبيل لاكتشاف فكرة الثقافة، والعمل على بناء نظرية لنا في الثقافة من داخل مرجعيتنا ومنظومتنا وتراثنا، واستناداً على منطق الاجتهاد عندنا، لبذل أقصى أنواع الجهد، واستفراغ كل ما في الوسع من طاقة وقدرة وملكة لتحقيق ما نطلبه ونصبو إليه.

ولاكتشاف فكرة الثقافة لابدّ من فحص واختبار كل المعاني والدلالات التي هي من مكونات فكرة الثقافة. هذا من جهة ومن جهة أخرى بحاجة إلى أن نبلور لنا سياقاً معرفياً، يكون بمثابة تاريخ ممتد للثقافة، تتجلى فيه الثقافة بصورها ودلالاتها وإشاراتها ورموزها، حتى نستطيع أن نكوّن لنا فهمنا المستقل للثقافة.

في النهاية نجد دعوة للاستفادة من كل المعاني والدلالات والتعريفات التي تدور وتتصل بالثقافة، وذلك في إطار فلسفة الثقافة، وإننا لسنا بحاجة إلى الانشغال بتعريف الثقافة الذي ليست له نهاية، لأن من الصعب التوافق على تعريف محدّد للثقافة، وبالتالي فلن تكون هناك ثمرة حقيقية لهذا النوع من الاشتغال والثمرة الحقيقية هي في الاستفادة من كل التعريفات المطروحة للثقافة وهذا ما تدعونا إليه فلسفة الثقافة.

وقد أشار إلى هذا المعنى بتري إيجلتون في كتابه «فكرة الثقافة» حيث اعتبر أن فلسفة الثقافة هي اتجاه فكري، يمكن النظر إليه على أنه ضرب من المجاهدة في محاولة للربط بين معاني الثقافة المتعددة، التي راحت تنفصل شيئاً فشيئاً، وكل يعوم في اتجاه.

وبحسب هذا الاتجاه، فإن الثقافة بمعنى تمثل سمة من سمات العيش المرهق الأنيق، والثقافة بوضعها كياسة تمثل مهمة ينبغي على التغيير السياسي أن يحققه في الثقافة، بمعنى الحياة الاجتماعية ككل، وبهذا يتحدد من جديد كلٌّ من الجمالي والأنثروبولوجي.

فلسفة الثقافة بهذا المعنى يفترض أن تضع حدّاً لذلك التعقيد والغموض والالتباس، الذي أشار إليه معظم الكتاب كل بطريقته، وهم يتحدثون عن الثقافة، ودائماً كان هؤلاء يفتتحون الحديث عن الثقافة بالإشارة إلى مثل تلك التصويرات، وكأنها من المسلمات المتصالح عليها، والتي لابدّ من التطرف ولفت النظر إليها، قبل الدخول في الحديث عن الثقافة.

ولعلنا لن نجد سبيلاً للخروج من هذا المأزق، أو من هذا التعقيد والإبهام والغموض الذي يعترض كل حديث عن الثقافة، إلا من خلال الثقافة، باعتباره المفهوم الذي يتسع إلى المعاني المتعددة.

ويستوعب الدلالات المغايرة، وله قدرة الربط والضم والجمع بين الاتجاهات المتباينة والمتكاثرة في النظر إلى الثقافة، وبالتالي فلسنا بحاجة إلى إلغاء كلمة الثقافة من قاموس اللغة العلمية كما تساءل لاتوش، ولا إلى إلغاء كلمة الثقافة في البحر كما تساءل بايار.

من زاوية أخرى، يمكن النظر إلى فلسفة الثقافة، من جهة البحث عن حكمة الثقافة وطبيعة مقاصدها وغاياتها، وما إذا كان بالإمكان الاتفاق على أمور محددة في هذا الشأن تأخذ صفة الكليات والمطلقات الثابتة والعامة، إلا أنه يمكن التحكم في تراتب أوليات تلك المقاصد والوظائف بحسب طبيعة الحاجات والمقتضيات التي تتعدد وتختلف من مجتمع إلى آخر، ومن جيل إلى آخر، ومن زمن إلى آخر ومن حضارة إلى حضارة.

وهذا الفهم يقربنا إلى ما نريد الوصول إليه، وهو أن حكمة الثقافة بالنسبة إلينا تتحدّد بحسب مرحلتنا التاريخية ووضعيتنا الحضارية التي نحن فيها على مستوى الأمة.

إن فلسفة الثقافة هي سبيلنا إلى الاستقلال الثقافي، الاستقلال الذي لا يمكن بدونه أن ننهض حضارياً، لأن الحضارات لا تنهض إلا بثقافاتها، ومن داخل تراثها وبعجلة تاريخها وعلى أساس الانتظام في هويتها، وهذا لا يعني القطيعة أو الانقطاع عن الثقافات الأخرى، أو عن التراث الإنساني.

وإنما على أساس التواصل مع هذه الثقافات، والانفتاح على التراث الإنساني، دون أن نغفل عن أن الحضارات لا تنهض وتتقدم بثقافة من خارجها، أو بتراث غيرها، ولهذا فإن العالم الإسلامي لا يمكن أن ينهض بثقافة غير الثقافة الإسلامية، والأمم والمجتمعات التي نهضت بغير ثقافتها، لم تنهض بهذه الثقافات، إلا بعد أن أصبحت في منزلة ثقافاتها، وبهذا استطاعت النهوض بتلك المجتمعات.

ومن خلال فلسفة الثقافة نفهم منطق العلاقات بين الثقافات، وبالتالي نفهم طبيعة الحدود التي تفصل بين ثقافتنا والثقافة الأخرى، وهذا هو الذي يقودنا إلى الاستقلال الثقافي.

ولهذا فإنه بقدر ما تفيدنا فلسفة الثقافة، في الانفتاح على كل المعاني والدلالات المطروحة حول الثقافة، بقدر ما تفيدنا أيضاً في تحقيق الاستقلال الثقافي، وهذه موازنة دقيقة بحاجة إلى قدرة ثقافية على ضبطها وتوجيهها.

ومن هنا كانت الحاجة لأن نولي الأهمية لفلسفة الثقافة، لمعرفة ماذا نريد من الثقافة، وكيف تكوّن فهمنا المستقل للثقافة؟ ولكي تكون الثقافة بصيرتنا في طريق التمدن، وتحقيق الاستقلال الثقافي.

فيصل خرتش

الكتاب: المسألة الثقافية

من أجل بناء نظرية في الثقافة

تأليف: زكي ميلاد

الناشر: المركز الثقافي العربي

الدار البيضاء 2005

الصفحات: 256 صفحة من القطع الكبير

Email