منهاج المترجم

منهاج المترجم

ت + ت - الحجم الطبيعي

مؤلف هذا الكتاب هو الدكتور محمد الديداوي رئيس قسم الترجمة العربية بالأمم المتحدة في جنيف، والذي له مؤلفات عدة حول الترجمة، والمدرس في مدرسة جنيف للترجمة الفورية. من مؤلفاته: «علم الترجمة بين النظرية والتطبيق»، مكتبة المعارف، سوسة (1992)، «الترجمة والتواصل:

دراسات عملية تحليلية لإشكالية الاصطلاح ودور المترجم، المركز الثقافي العربي»، بيروت/الدار البيضاء (2000)، و«الترجمة والتعريب بين اللغة البيانية واللغة الحاسوبية»، المركز الثقافي العربي، بيروت/الدار البيضاء (2002). ويهدف من كتابه «منهاج المترجم»، الذي بين يدينا، إلى الربط ما بين الكتابة والترجمة والمراجعة ككتابة فيها الغرض منها التفصيح والتبيين، وذلك كي يصل البلاغ إلى القارئ في لغته مكتملاً.

وبالتالي يجري التركيز على مفهوم الكتابة، التي وضع أسسها جمهرة من العلماء. وكذلك العودة إلى القواعد التي وضعوها، وتطبيقها على الترجمة، بعد أن أفضت إشكالية النصية في الترجمة إلى إظهار معالم الكتابة الصحيحة. وتتميز اللغة العربية بموسيقيتها وجمال بيانها وحداثة موروثها الذي استقر وتطور، واتساق أوزانها، لذا يرى المؤلف أن الأحرى بالكتاب العربي ومعه المترجم والمراجع كمترجم مدقق منقح إذ يتقمصان شخصية المؤلف بعد استيعاب مراده ثم يكتبان، أن يستغلا هذا الرصيد استغلال الحافظ المطلع والعارف المبتدع.

وقد تفطن العلماء القدماء إلى ربط المراجعة بالكتابة، التي تبلغ مداها بالبيان، سواء أكانت مراجعة ذاتية أم من الغير، وإظهار أهميتها في عملية التنصيص، لذلك وجب تحديد مفهوم المراجعة عموما كأداة كتابة أساسية للتدرج من الترجمة الوسطية إلى الترجمة البيانية، التي يتألق بها البنيان النصي وتستبان معانيه في أبهى حلاها وبأعرق تخاريجها وأوجز مسالكها. وعليه أجمع فقهاء اللغة العربية.

وكان رائدهم في ذلك اللغوي النبيه ابن جني (942-1002)، على أن اللغة أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم. ولا غرابة في أنهم ركزوا على الصوت لأنه يأتي قبل الكتابة. وصوّت الإنسان، كسائر الحيوانات، فتكلم قبل أن يكتب وتميز بذلك عنها. وبالنسبة للعربية، اعتمد العربي زمناً طويلاً على المشافهة والذاكرة، وتناقل العرب أبياتاً بيّنات من الشعر الرفيع ودرراً من الخطب البليغة والأقوال الصائبة، كان لها عميق الأثر في النفس وإمتاع للعقل وإثراء للقائل لفرط الإعجاب بما قال.

ويعتبر المؤلف أن معرفة العربي للغات مكملة للكتاب، وتبلغ أقصاها بالترجمة والتعريب. فبعد أن بدأت تتسع رقعة الإمبراطورية العربية الإسلامية، اتضحت للعرب ضرورة الإلمام باللغات ولزوم اللغة الأجنبية مع الكتابة، فربطوا بين الاثنتين واستنهضت الهمم لذلك، ولم يصلوا به إلى حد الترجمة إلا على يد ابن المقفع الذي بدأ عملية الجمع بينهما فأحسن وتفوق. والغريب أن الأسلاف كانت لهم قدرة عجيبة على تعلم اللغات، ومنهم زيد بن ثابت،الذي تعلم السريانية في ستة عشر يوماً، وفي رواية أخرى سبعة عشر يوماً.

وتعني الترجمة التفسير والشرح، حتى عندما تطلق على سيرة المترجم له، إذ تبيّن تأريخه وتوضح معالم شخصيته وشخصه وتذكر إنجازاته. ولغة يقال ترجم الباب، أي عنوانه، وهي تكشف عن محتواه وترشد إلى موضوعه. وقد تعرض الأقدمون إلى مادة «ترجمة» وشرحها أكثرهم بأنها تفسير، ومنهم الفيروزآبادي (1329 ـ 1415) وابن قتيبة (ت 1368). واختلف على أصلها، وفيما إذا كانت عربية أم مغتربة.

وللترجمة علاقة حميمة بالبيان. ذلك أن «المعنى العام للترجمة هو مطلق البيان والتعبير»، كما أنه «وفي تفسير ابن كثير والبغوي تستعمل الترجمة في لغة العرب بمعنى التبيين مطلقاً. وبمعنى مشابه، يقول عبد القاهر البغدادي عن كتب الجاحظ إن «لها ترجمة تروق» ويقصد بمفردة «ترجمة» الوضوح.

والترجمة الوضوح في جوهرها هي نقل المعنى من لغة إلى أخرى. لكن المعنى له ثلاثة أنواع، هي المعنى الدلالي، الذي يرتكز على الدلالة والمدلولات المرتبطة بالواقع والعالم المحيط، اللذين تتحدد معهما مسألة الفوارق التي يطرحها الترادف والاشتراك اللفظي، والمعنى السياقي والموقفي، أي المعنى المتصل بسياق أو موقف معين، والمعنى النصي، وهو المعنى الذي يتجلى من الجمل وتسلسلها في النص متواصلة مترابطة.

ويرى المؤلف أن هنالك طريقتين رئيسيتين في الترجمة، ينبغي أن يكثر المترجم منهما وأن تلازماه عند المرحلة الكتابية من الترجمة، متدرجاً من النص الوسيط إلى النص البياني جهد استطاعته، هما المعادلة والتبديل. فالمعادلة هي استعمال ما يعادل النص الأصلي في معناه وإن اختلفت العناصر عن مبناه، ومن ذلك الأقوال المأثورة والحكم والأمثال، أما التبديل فهو إعادة هندسة الجملة تقديماً وتأخيراً، مع استغلال إمكانات اللغة العربية، ومنها الأوزان، بحيث ينقلب ترتيب الجملة من دون تغيير المعنى.

وفي التراث العربي القديم، كانت آراء الجاحظ وتأملاته قوام نظرية الترجمة عند العرب، إن صح التعبير. وقد تناول موضوع الترجمة، مستوحيات الفكر على الخصوص من كتب أرسطو، التي كانت تحوي عليها حوانيت الوراقين والمودعة في بيت الحكمة، الذي كان يتردد عليه.

وبخصوص المراجعة، فإن المؤلف يعتبرها قراءة نص مقارنة بأصله من أجل التدقيق وتوخيا للأعراض التالية، منفردة أو مجتمعة: (أ) تصحيح الخطأ و(ب) تدارك السهو والإسقاط و(ج) توحيد الاستعمال المصطلحي و(د) تضبيط الجملة، تقديما وتأخيرا، مع مراعاة متطلبات الإعراب واستغلال إمكانات اللغة وتبيين مراد منشأ النص الأصلي، أي المنصص أو الكاتب. وقد تكون المراجعة ذاتية، أي أن المترجم يراجع لنفسه.

لكن المراجعة المثلى، في الترجمة العربية، قوامها التعريب والتبيين. فالتعريب هو تقويم النص الوسيط الذي يحوي كل عناصر معنى النص الأصلي، على ركاكته، وإعطاؤه النص العربي الأصلي بإعادة هندسة جمل إلى أن يكتمل باكتمالها، مع أخذ مستلزمات الفصاحة والبلاغة في الحسبان. أما التبيين فعماده البيان، ويركز أساسا على الوضوح والإبانة والسلاسة، وبه يستقيم النص وتتبين معالمه ويستبين معناه قارئه.

ويظهر المؤلف سمتين للترجمة، حيث الترجمة علم لأن لها، أو يجب أن يكون لها، قواعد وأصول وفن لأن للمترجم مجالاً واسعاً للإبداع باعتبارها كتابة، إن كان ذلك ضمن إطار النص الأصلي وفي حدود معناه أو على غرار مبناه .وإن اتخذت الترجمة حرفة أم لم تتخذ، فإن ذلك لا يغير من وجود صفات معينة يجب أن تتوفر في المترجم، منها همّة المبدع، وإخلاص الملتزم، وحبّ العالم، واطّلاع المجتهد، ووفاء الغيور، لكي يكون نافعاً في عمله. لكن واقع الترجمة العربية يبين أن من يزاولها لا يصلح غالباً لها، وهي تعاني من هاوية الهواية وانحراف الاحتراف.

ولا بد من التنبيه إلى أن هناك نوعين أساسيين من الترجمة، أحدهما له صلة بالأدب والاجتماعيات الصرفة والثاني بالعلوم الدقيقة وغير الدقيقة والتكنولوجيا. فالأول يحتمل تعدد الترجمات، لا بل إن ذلك مستحب فيه لكي تكتمل الصورة ولا تهم سرعة الإنجاز فيه. أما الثاني، فإن عنصر الزمن حاسم فيه. لذا، فإن أنفع طريقة،

في هذا الصدد، هي تعلم اللغات على أعلى المستويات والاطلاع على المعلومة في الأصل وهضمها ثم نقلها معربة مع التصرف اللازم والتأليف والإبداع. ولا بد من الإشارة في هذا السياق إلى أن الترجمة كتابة، في واقع الأمر، لأنه بمجرد ما يحيط المترجم بمعنى الأصل تصبح العملية كتابية وفقاً لأصولها. وهنا يأتي دور التفاعل في المجال الثقافي الذي تلعبه الترجمة بين لغات ومعارف الشعوب.

يريد المؤلف من كتابه تبيان ما يزخر به التراث العربي بالفكر والمعلومة، ويطالب بالعودة إليه ونفض الغبار عنه، لكنها عودة بمثابة الاتجاه نحو المستقبل. وإلى جانب ذلك يريد الاستفادة من التكنولوجيا الحديثة، ومنها التقانة الحاسوبية من أجل الإفادة في الترجمة والتعريب والتحاور وتوحيد الاصطلاح، والارتقاء بالمهنة والاستفادة من التقدم.

وإذا كنا نستطيع، عن طريق الترجمة، أن نأخذ ونتعلّم، فإن الرقي لن يكون إلا بالخلق والإبداع. حيث يعتبر المؤلف الإبداع شرطه التأصيل وأداته التعريب، الذي يجب أن تكون الترجمة مدخلاً له. ذلك أن الأسلاف ترجموا، ثم شرحوا ولخصوا. وبعدها استوعبوا وألفوا في العربية.

ونعثر في الكتاب على قضايا عديدة تخص المترجم والترجمة، بدءاً من تعريف المترجم والاتفاق على من يحق له مزاولة الترجمة، وصولاً إلى شرط والإبداع، وظاهرة الترجمة المؤسسية في المنظومة الدولية والهيئات الإقليمية. لكنه يتطرق إلى قضيتي الهواية والاحتراف في الترجمة، وإلى ضرورة تكوين المترجم وتدريبه ولزوم تدريس النظريات له والاطلاع عليها والجمع بين المدارسة والممارسة.

وفي الجانب التطبيقي، يورد المؤلف نصوصاً عديدة في اللغة الإنجليزية واللغة الفرنسية مع ترجمات مقترحة لها، الأمر الذي يظهر الإمكانيات المتعددة التي تتيحها اللغة العربية من سلاسة ودقة ومرونة. ويبني المؤلف كل ذلك على خبرته في الترجمة في جامعة جنيف ومن واقع عمله الترجمي في الأمم المتحدة.

لذلك يمكن اعتبار الكتاب محاولة نظرية تطبيقية في قضايا عملية الترجمة، أو العملية الترجمية، ومواصلة التفكير والتأطير فيما يتعلق بالمراجعة، بوصفها خطوة لابد منها لضبط النوعية، ولتلافي الخطأ، وتجويد النص، وتبيينه.

عمر كوش

الكتاب: منهاج المترجم بين الكتابة والاصطلاح والهواية والاحتراف

الناشر: المركز الثقافي العربي ـ بيروت ـ

الدار البيضاء 2005

الصفحات: 384 صفحة من القطع الكبير

Email