كتب في الذاكرة

قراضة الذهب

ت + ت - الحجم الطبيعي

مؤلف كتاب «قراضة الذهب في نقد أشعار العرب» هو «أبو علي حسن» المنسوب إلى القيروان والمعروف «بابن رشيق» المولود سنة 390 هجرية، بقرية «المسيلة» إحدى قرى المغرب العربي، وكانت وفاته سنة 456 هجرية، في «مازد» بجزيرة صقلية.نشأ ابن رشيق في احضان صناعة صياغة الذهب، حتى إذا أحس من نفسه ميلاً إلى الأدب، نزح إلى القيروان، يدرس على علمائها في الجامع الكبير، ويتلقى عنهم علوم اللغة، فلما قال الشعر، وقال منه ما رفعه إلى مصاف الشعراء المقدمين، وصل حبله بحبل المعز بن باديس حاكم المغرب يومئذ، حتى قربه وضمه إلى شعراء بلاطه، حتى توفي «المعز» ثم جاءت الفتنة، فنزح الى «المهدية» ثم إلى جزيرة صقلية حتى وافاه الأجل في إحدى مدنها.

ألف «ابن رشيق» ما يزيد على ثلاثين مؤلفاً توزعت بين كتاب ورسالة، لكن الكتاب الذي خلد اسمه هو كتاب «العمدة في صناعة الشعر» وقد ألفه أثناء إقامته في كنف «المعز» وان كان كتابه هذا «قراضة الذهب» لا يقل شأناً عن كتابه «العمدة».

يمثل كتاب «العمدة» المذهب العربي الأصيل في نظرته إلى الشعر عند اكتمال حركة علوم اللغة والأدب والتفقه فيهما، أي في نهاية القرن الرابع وبداية القرن الخامس الهجريين، ثم هو يمثل على الخصوص، مذهب «مدرسة القيروان» الأدبية، مع ما قد تمتاز به هذه المدرسة في نظرتها إلى الأدب، وما تتجه إليه عبقرية المؤلف الشخصية من ذلك.

أما كتابه «قراضة الذهب في نقد أشعار العرب» فهو صورة ذهن «ابن رشيق» وتفكيره الشخصي وتفقهه، لا في الصناعة الشعرية بل في ما هو أبعد من ذلك: في «الخلق الشعري» على حد المصطلح العصري.

ذلك ان هذا الكتاب هو تتبع المعاني الشعرية، ووجوه البديع في شعر الشعراء، منذ ان اخترعها مخترعها، فتناولها منه من جاء بعده فزاد عليه، وأحسن أو قصر، منذ العصر الجاهلي وحتى عصر «ابن رشيق» وبذلك يمكن القول: إن هذا الكتاب دراسة لتطور ذلك الخلق الشعري.

وفي ذلك كله يعتمد، «ابن رشيق» على أشعار العرب بأن يورد الشواهد ويحللها، ويستنبط منها سير التطور ـ سواء نحو التحسن، أو غالباً نحو الضعف والوهن، ويقارن بين الشعراء والعصور، مقارنة تنبني على كيفية تناول الشاعرين معنى بذاته، أو صورة من البديع بعينها مع الاستشهاد بآراء أئمة اللغة والأدب، والرجوع إلي مفهوم الألفاظ اللغوي، وأوزان العروض وتركيب الجمل، وكل ما يتكون منه البيت والقصيدة، بل مع الاستنجاد مراراً عديدة بالذوق وهكذا يتبين دارس «قراضة الذهب» ان موضوع الكتاب، إنما هو النظر في الخلق الشعري وتطوره ونقد أشعار العرب في نطاق هذا التطور وذاك الخلق.

ومن ذلك قوله: «وقد ألف العلماء والنقاد في سرقات الشعراء كتباً عدة، وصنفوا تصانيف كثيرة، اختلفت فيها آراؤهم وتباعدت طرائقهم غير ان أهل التحصيل مجمعون على أن السرقة إنما تقع في البديع النادر والخارج عن العادة، وذلك في العبارات التي هي الألفاظ كقول «أبي عبادة البحتري» يصف سيفاً:

حملت حمائله القديمة بقلة

من عهد عاد غضة لم تذبل

فقال ابن المعتز متبعاً له وآخذاً منه:

ويهزون كل أخضر كالبقلة

ماضٍ على القلوب رسوب

وله مكان آخر يذكر منه ان شاء الله تعالى، لا ما كان الناس فيه شرعاً واحداً من مستعمل اللفظ الجاري على عاداتهم وعلى ألسنتهم، وكذلك ما كان من المعاني الظاهرة المعتادة، فإنها معرضة للأفهام متسلطة على فكر الأنام، ومن ها هنا قل اختراع المعاني وقلت السرقات فيها، وصارت إذا وقعت أشهر.

فلابد من الاتيان على هذا فصلاً فصلاً، وأنا أقتصر من جميع الشعراء في أكثر ما ورد على «امريء القيس» لأنه المقدم لا محالة، وان وقع في ذلك بعض الخلاف، فالمميز الحاذق بطرق البلاغة، يجد لكلامه من الفضيلة في نفسه ما لا يجده لغيره من كلام الشعراء، والبحث والتفتيش يزيدانه جلالة، ويوجبان له على ما سواه مزية، ويشهد الطبع وذوق الفطرة لذلك شهادة بينة واضحة لا تدركها شبهة إذا قصد الإنسان العدل وترك التعصب.

محمد سطام الفهد

Email