الصوت والصدى

الصوت والصدى

ت + ت - الحجم الطبيعي

د. عبد الواحد لؤلؤة، أكاديمي وباحث ومترجم عراقي غنيّ عن التعريف، وذلك لمساهماته الكبيرة في الحياة الثقافية العربية عبر إصداراته ومن خلال فاعليته المعرفية وحضوره النقدي، وإذا كان لابدّ من الإشارة إلى بعض هذا النتاج، فإنه ينبغي أولاّ الإشارة إلى ترجمته للكتاب الموسوعي «المصطلح النقدي» الذي أصدره في سلسلة تزيد على 44 جزءاً،

ومازال يعمل عليها، هذا بالإضافة إلى الكثير من المترجمات الأخرى لسلسلة من المسرحيات العالمية، و«أطلس الحضارة الإسلامية»، و«الشعر العربي الحديث» وغيرها. ومن كتبه المؤلّفة «ت.س.إليوت الأرض اليباب ـ الشاعر والقصيدة»، «مدائن الوهم/ شعر الحداثة والشتات»، «البحث عن معنى»، «النفخ في الرماد»، «منازل القمر» وغيرها،

هذا بالإضافة إلى ترجماته من العربية إلى الإنجليزية وقد بلغت 12 كتاباً. كتابه «الصوت والصدى» الصادر حديثاً عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر يتكوّن من قسمين رئيسين: دراسات نقدية، ومترجمات في نظرية الأدب ونقده، ومقدمة موجزة تناول من خلالها علاقة الشعر بالشاعر بالكلمة،

حيث النصّ البشري الأوّل «جلجامش» والشاعر الرائي الذي يرى ما لا نراه، وقرابة هذا المصطلح من «المتنبي» الذي يرى ما سوف يأتي، وذلك لأن الشعر كان على الدوام غناء أشبه بالوحي، أو كما عرفه الإغريق وحياً من آلهة الأولمب عن طريق واحدة من بنات «زيوس» التسع الموحيات، أو كما عرفه العرب عن طريق شياطينهم المقيمين في وادي عبقر.وإلى ذلك فإنه سيعتبر أن الشاعر هو الصوت، والناقد هو الصدى، إضاءة لعنوان كتابه من جانب.

وتأكيداً منه أن الدراسة النقدية لديها تمارس فعلها من داخل النصّ، وتهدف إلى إضاءته من دون أن يفرض الدارس عليه واحدة من «مدارس النقد» أو مذهباً من مذاهبه، وخصوصاً أولئك الذين أتخموا كتاباتهم بمنقولات عن الكتّاب والمفكرين الغربيين، بل إن بعضهم، على حدّ تعبيره، تجرأ وأوحى بأن تلك النظريات «من عندياته». ومن هنا سيأتي اهتمامه بنقل مختارات من «المترجمات النقدية» التي تعرض النظريات كما يراها أصحابها في القسم الثاني من الكتاب.

أولى دراساته النقدية ستتجه إلى الشعر الأندلسي لتبيّن أثره في الشعر الوجداني الغربي، حيث تحدّث في البدء عن التجربة الشعرية الأندلسية وارتباطها بشقّها المشرقي، وتطوّر شعر الحبّ العربي في الحجاز والحاضرة العبّاسية إلى الأوزان الخفيفة والأشطار القصيرة حتى يسهل غناؤها من قبل المغنين الذين تواجدوا بكثرة في العهد العبّاسي من مثل:

إبراهيم وإسحق الموصلي، و«زرياب» الذي اصطحب بناته وجواريه وشدّ الرحال إلى «العالم العربي الجديد»، حيث تلقّاه الأمير عبد الرحمن الثاني فأدخله قصره وأغدق عليه، ما أتاح للقادم الجديد أن ينشر ما حمله من تراث الشعر والغناء، فانتشر الغناء في حواضر الأندلس.

ومن جانب ثان سيشير المؤلّف إلى أن الشعر العربي بدأ يأخذ طابعاً أندلسياً بفعل الظروف المحيطة، وبحكم تطوّر العربية الوافدة على بلاد تتكلّم لغة «الرومانث» ونتيجة للتزاوج بدأ جيل جديد يتكلّم اللغتين، ويوم وصول زرياب كانت الازدواجية اللغوية قد بلغت درجة من القبول حتى ما عادت تثير الاستغراب، ولذلك لم يكن من العسير على إسباني من قشتالة أن يفهم قصيدة يغنيها شاعر أندلسي من قرطبة، فالشعر الجديد وجد هوى في النفوس إلى درجة أن رجال الدين الأسبان أبدوا استياءهم مما يجري.

ولكن هذا الشعر سيتطوّر فيما بعد على يد مقدّم أو محمّد بن معافى القبري باختراع الموشّح، والموشّح بدوره سيؤثّر في الجوار ليظهر نوع من الشعر الوجداني جديد على أوروبا بلغة «البروفنس»، وسيتابع المؤلّف هذه التطوّرات، وسيعمل على تفنيد الآراء التي قالت بوجود شعر وجداني موزون في التراث الإغريقي الأوروبي، وذلك استناداً إلى خلوّ هذا التراث منه، ثمّ إلى جملة آراء الباحثين الغربيين بوجود مصادر خارجية لهذا الشعر.

في فصل لاحق سيعود المؤلّف إلى بدايات حركة التجديد الشعرية العربية، لمناقشة قضية وقف عندها المؤرخون مطوّلاً، ألا وهي ريادة الشعر الحر، والأسبقية بين نازك الملائكة والسيّاب، ليضيء جانباً مهمّاً لعملية تجدد الشعر العربي في العراق ، ومن جهة ثانية ليبيّن دور «دار المعلّمين العالية» في تخريج عدد من الشعراء المجددين، حيث تخرّجت نازك الملائكة عام 1944، وتبعها السيّاب 1948، ثم البياتي 1950، بينما بلند الحيدري لم يدخلها، ولكنه كان إلى جانب زملائه في ريادة حركة التجدد في الشعر العربي، ليمتدّ بعد ذلك أثرهم إلى غيرهم.

وإلى ذلك يؤكّد المؤلّف أن السجال في أسبقية نظم قصيدة التفعيلة لن يفضي إلى شيء، وأنه ينبغي تصديق ما قالته نازك من أن «الشعر الحر» عندها ولد في 27 أكتوبر 1947، وما قاله السيّاب من أنه نظم قصيدته «هل كان حبّاً» بتاريخ 29 نوفمبر 1946، ويضيف، ولكن المهم أن نعرف أن نازك شرحت أسس هذا الأسلوب الجديد في نظم الشعر،

وما دعاها إلى اتّخاذه، بينما بدر لم يفعل ذلك، بل اكتفى بنظم القصيدة تلو القصيدة مستنداً على التفعيلة التراثية وتلوين القوافي، بينما نازك ظلّت متعلّقة بنظام الشطرين تدافع عنه وعن ضرورة القافية، وكأنها تريد أن تقول «الشعر الحر» يذهب إلى زوال.

ومثل السيّاب اندفع البياتي في تطوير تيار القصيدة العربية بأسلوب شعر التفعيلة، ويشير المؤلّف أنه بذل اهتماماً كبيراً بالرمز والأسطورة والانفتاح على الثقافة الأجنبية، وخاصة أشعار أراجون وإيلوار، وراح يحاكي بعض أساليبهم في الشكل مما جعل ذلك نوعاً من التجديد في أسلوب الكتابة الشعرية في الخمسينات.

بينما أثبت بلند الحيدري في ديوانه «خفقة الطين» الصادر عام 1946 وجوده كشاعر مكتمل الأدوات، منفتحاً على التجدد في مجال الشكل والمحتوى، وهو على الرغم من تحصيله المتواضع كان قارئاً جيداً كثير الاختلاط بالشعراء والأدباء، ونشر عدداً من المجموعات الشعرية أكّدت اهتمامه بتطوير قصيدة التفعيلة من حيث تقليص عدد كلمات الأسطر الشعرية مكتفياً بإيحائية المفردة ومثال ذلك:

وطني

كيف أذنت لنخّاس قذر

أن يسحبني من أذني

ويطوف بي في كلّ المدن

عبداً معروضاً للبيع

بأبخس ما يطرح من ثمن».

حيث يعلّق المؤلّف بأن هذه القصيدة تستقطر مرارة الغربة عن الوطن بكلمات بسيطة، كلّ كلمة فيها صورة موحية، حيث في السطر الأوّل «وطني» تسيطر نغمتها على القصيدة كلّها وتبقى ترنّ في الأذن حتى بعد الانتهاء من قراءة القصيدة.

وإلى ذلك سيؤكّد أيضاً أن للحيدري عناية خاصّة بالأسطورة والرمز كما لدى زملائه، ولكنه نتاج فطرة وموهبة وصوره لا تقوم على مرجعيات أكاديمية، بل تمتاح من خيال خصب وتأمّل في الواقع حوله.

وفي مبحث مستقلّ سيتناول المؤلّف الملامح الرومانسية في شعر عمر أبي ريشة، استهله بمقدّمة عن المصطلح وآراء النقّاد والشعراء الغربيين فيه، ليعود من ثمّ إلى الشاعر عمر أبي ريشة الذي كان أرسله والده إلى ما نشستر البريطانية ليدرس «كيمياء الأصباغ والنسيج»، ولكن الشاعر فيه تغلّب على الصناعي فانقلب إلى دراسة الأدب الإنجليزي، ولكنه سرعان ما غادر بريطانيا دون أن يكمل دراساته، وعاد إلى حلب توّاقاً إلى الشعر والأدب والثقافة، متسلّماً إدارة «دار الكتب الوطنية» فيها.

ويؤكّد المؤلّف أن الشاعر نظم باللغة الإنجليزية مجموعة شعرية بعنوان «الجوّاب التائه» وطبعت ثلاث مرّات في إنجلترا، ثمّ يربط هذه المجموعة ومطوّلة بايرن «أسفار جايلد هارولد»، ولكنه إلى ذلك سيذكر أنه من الصعب تلمّس آثار الثقافة الأجنبية في شعره لأن موهبته أكبر من ثقافته أو خبرته، ولكن في الوقت نفسه تبرز الكثير من الملامح الرومانسية في أشعاره ومن ذلك: الموقف الرومانسي من الطبيعة وتعامل الشاعر معها.

ثمّ يجري مجموعة من المقارنات ما بين شعر عمر أبي ريشة وابن خفاجة و شلي وكيتس وغيرهما، ليستنتج أن أصالة أبي ريشة تتجلّى في حضور ثقافته الشعرية العربية إلى جانب ما اصطلح عليه بـ «أطياف الغربة» التي تحوم حول شعره «دوت تقصّد» ولكن الشعر العربيّ في عمومه ومنذ الثلاثينيات كان قد تأثّر بالرومانسية وأطروحاتها في الانكفاء على النفس، والاحتفاء بالحبّ والطبيعة، والانشغال بالموت وجبروت الزمن، والاعتماد على الرمز وغير ذلك.

ولا ينتهي القسم الأول بهذه الدراسات، وإنما ثمة دراستان إضافيتان عن شكسبير: «أجواد سيدي أم أحمق» قراءة في مسرحية «تيمون الأثيني»، و«غنائيات» وليم شكسبير، وسيترجم إلى العربية بعضاً منها بالإضافة إلى بعض الشروح التي تقتضيها.

في القسم الثاني من الكتاب، سيترجم المؤلّف عدداً من المقالات في نظرية الأدب والنقد الأدبي، وقد جاءت على التالي: وظيفة الأدب لـ «جون إيليس»، في الأصالة لـ «إدوارد سعيد»، البحث الرومانسي والتساؤل الحديث لـ «توم درايفر»، صراع التفسيرات وحدود التعددية لـ «بول أرمسترونج» والتشتت والحرية لـ «روبرت د. شولتز» الشاعر الأميركي المعروف، وهي جميعاً مباحث مهمّة تطلع القارئ العربي على جانب مهم من الفكر النقدي الغربي.

عزت عمر

الكتاب: الصوت والصدى

الناشر: المؤسسة العربية للدراسات بيروت 2005

الصفحات: 276 صفحة من القطع المتوسط

Email