المأثورات الشعبيّة

المأثورات الشعبيّة

ت + ت - الحجم الطبيعي

التاريخ البشري تتناول د. حصة سيد زيد الرفاعي (كاتبة وباحثة كويتية صدر لها من قبل «اغاني في البحر» دراسة فلكلورية 1985 الكويت) في كتابها «المأثورات الشعبية» تعريف وتحليل هذه المأثورات باعتبارها المصدر الأساسي الذي يشكل ملامح الأمة ويحدد هويتها القومية، إذ تعتبر أن الفولكلور (فولك) أي بسطاء الناس وعامتهم، و«لور» القديم والموروث أو بقايا الماضي الذي يجب احياؤه، إنما يعد بحق «لب» الثقافة الإنسانية ولبابها.

فتدافع عن هذا التراث الذي يتم تداوله بشكل شفوي، لأن معظم مبدعيه غير متعلمين، وترى في قول الباحث الانجليزي «ديفيد بكن» ما يدعم رأيها أن الثقافة ليست حكراً على معرفة القراءة والكتابة، بل هي القدرة على الإبداع الفني الرفيع.

هذا الإبداع الذي تحاول الكشف عن ملامحه الأساسية تبعاً لتطور الحياة الإنسانية، فتعتمد رأي «الان داندس» الذي يعّرف الفلكلور بأنه علم ومادة دراسة، يجب أن يصاغ على أساس تحليل مضمون المادة الشعبية ذاتها، ذلك بالأخذ بثلاثة معايير أساسية في دراسة النمط الشعبي .

1ـ استبطان التركيبة النسيجية للمادة الشعبية 2ـ تحليل النص الشعبي 3ـ اكتشاف المحيط الطبيعي للنص من خلال دراسة النص في السياق.

كما علينا أن ندرك أنه من المهم أن نعرف ان تحليل نصوص المأثورات الشعبية سواء أكانت رواية حكايات أو انشاد اغان أو ترديد أمثال، هو عامل أساسي في تعريف النمط الشعبي. وعلى الباحث المعني بهذا المجال أن يفصل النص عن مكوناته النسيجية لكي يحقق نتائج عملية أفضل.

ومن الملاحظ أن كلا من النص ونسيجه يخضعان لذات التحليل البنائي، على الرغم من أن تحليل التركيبة النسيجية للنص تعتمد بالدرجة الأولى على تحليل بنائه اللغوي، بينما يعمد الدارس في تحليل النص، إلى وصف المعمار الفلكلوري من خلال الكشف عن الوحدات التركيبية المكونة لهذا المعمار.في عملية بحث عن الجذور الأولى للفلكلور واكتشاف وظيفته المهمة في بناء وحفظ .

ويدل المحيط الطبيعي للنص الشعبي على السياق الاجتماعي الذي يؤدي فيه النص. وهنا تبرز أهمية التمييز بين السياق الطبيعي للنص ووظيفته في المجتمع. فوظيفة النص ظاهرة مطلقة تعتمد بالدرجة الأولى على ملاحظة عدد من السياقات الطبيعية له من أجل الاستدلال على الغاية أو الغرض الذي يؤديه هذا النص في المجتمع.

فالأسطورة مثلاً تحمل دلالات طقوسية لنشاط انساني معاصر، والمثل الشعبي يقوم على طرح خلاصة تجارب انسانية ماضية من أجل تقويم سلوك الجماعة. وربما يؤدي المثل وظائف أخرى تختلف باختلاف المجتمعات، ففي بعض الدول الافريقية كنيجيريا مثلا، يستخدم المثل لحل المنازعات القضائية.

فبدل أن يدافع المتهم عن نفسه بالطرق القانونية المعروفة، يطلب القاضي من المدعي والمدعى عليه ايراد مَثَل، وتكون براءة المتهم من التهمة المنسوبة إليه بقدر نجاحه في ايراد المثل المناسب للموقف. فحينما اتهم احدهم سارقاً محترفاً بسرقة محصوله، ذكر مثلاً يقول:

«اذا استطاع الكلب أن يقطف ثمار البلح من عذق النخلة المليء بالأشواك، فهو لن يخشى القنفذ ذا الجلد الشائك». فردَّ المتهم على المثل المذكور بمثل آخر يؤكد فيه براءته من التهمة قائلا:

«ان طائر الحجل هو الطائر الوحيد الذي لا يترك أثراً حينما يطير بين الشجرات القصيرة» مشيرا إلى أن طيور الحجل تطير دائما في أسراب على مسافات منخفضة مخلفة وراءها ذيلاً طويلاً من الحشائش المنزوعة والملتوية. وهكذا اقنع هيئة المحكمة ببراءته من تهمة السرقة لعدم قدرته على ارتكابها لوحده.

وهذا الشاهد الذي تم ذكره يبين أن وظيفة النص الشعبي أمر مختلف تماما عن سياقه أكان أسطورة أم حكاية أم أغنية أم مثلاً. ثم تذهب د. حصة سيد زيد الرفاعي إلى البحث عن دور الفلكلور في الوسائط الجماهيرية (المقروءة والمسموعة والمرئية) إذ انها تشكل قوة اجتماعية جديدة ظهرت في حياة الانسان وأثرت بشكل واضح في ثقافته .

ونمط حياته ذلك رغم خطورة هذه الوسائط التي تشكل خطراً يهدد التراث الشعبي. إلا انه على الباحث في حقل الفلكلور ألا يغفل الدور الايجابي الذي لعبته وتلعبه هذه الوسائط في الحفاظ على أنماط المأثور الشعبي وتروجيها على الرغم من بعض الآثار السلبية التي نجمت عن استغلال المادة الشعبية لأغراض تجارية أو للدعاية السياسية.

لذا فمسؤولية الباحث في مجال الفلكلور يجب أن لا تقتصر على مجرد رصد مواد الإبداع الشعبي، وانما تتجاوز ذلك إلى غربلة تلك المواد للتمييز بين المأثور الحقيقي والابداع الزائف والمأثور المستغل في الدعاية التجارية ويجب ان نشير هنا إلى أن التطور التكنولوجي لم يقض وانما ساعد على ايجاد قنوات جديدة لنشر الفلكلور .

وترويجه وتقريبه إلى أذهان الجيل الجديد. اضافة إلى أن وسائل الايصال الجماهيري ليست فقط قنوات نقل صماء، وانما هي أدوات فاعلة ساعدت كثيراً على عصرنة الابداع الشعبي وعرضه في حلة جديدة تتلاءم وروح العصر. كما أن الوسائط هذه لم تقض على الابداع الشفهي، فالشفاهية خاصية متأصلة في طبيعة النص الشعبي.

ومثلما أوجدت تلك الوسائط سبل ترفيه بديلة، حلّت محل الأساليب التقليدية، ظلت النكتة والاشاعة ورواية التجارب الشخصية، وسائل نشطة في التعبير عن مشاعر الناس وتجاربهم اليومية. وبقي انشاد الشعر والقصائد الملحمية ورواية السير والاحتفالات الخاصة والعامة من المظاهر الدالة على الابداع الحي المتداول شفهياً.

وربما اقتبست وسائل الإعلام هذه النشاطات الانسانية اليومية وروجتها، وربما كانت تلك الوسائل من المصادر الأساسية لتلك النشاطات. فدور الوسائط الجماهيرية كبير جدا في تزويد قاعدة عريضة من الناس بالاخبار والروايات التي يتداولها الناس ويعدلون فيها بالحذف والاضافة لتصبح مادة شعبية حقيقية.

وعلى ذلك فمهمة الباحث في حقل الفلكلور لم تعد مقصورة على النزول إلى الميدان وجمع المادة الشعبية بالمقابلة المباشرة مع الرواة. وانما تجاوزت ذلك إلى رصد مادة بحثه في وسائل الإعلام مع استخدام الأدوات التي تؤهله لفحص تلك المواد والتأكد من اصالتها على أنها ابداع شعبي حقيقي يختلف في طبيعته عن مكونات الثقافة الجماهيرية.

لكن يجب القول أن وسائل الايصال الجماهيري الحديثة قد أثرت كثيرا في طبيعة وسمات المادة الشعبية. وأن هذا التأثير قد اتخذ جانبين، جانباً سلبياً وآخر ايجابياً. الجانب السلبي لهذا التأثير هو نتيجة حتمية لتطور الإنسان في المجتمع المعاصر.

وحاجته الماسة للبحث عن مصادر جديدة للمادة الشعبية. ففي المفهوم التقليدي للفلكلور، كانت الكلمة المروية شفاهيا تتبوأ المكانة الأولى. ولكن هذه الخاصية قد تأثرت إلى حد كبير، بالوسائط الجماهيرية الحديثة التي اعتمدت قنوات بث الكترونية، ووسائل نشر مكبوتة.

وعلى الرغم من ان هذه الوسائط لم تقض تماما على الأدب «المروي» والذي بقي نشاطاً انسانياً فاعلاً إلا أنها قلصت مساحة هذا الأدب كنمط فلكلوري مهم، وقصرتها على فئات اجتماعية محدودة الكيان، إضافة إلى أن تلك الوسائط قد اصبحت إلى حد ما، بديلاً ثقافياً واجتماعياً وترفيهياً لتلك الأنواع الشفهية التي كانت تلعب دوراً وظيفياً في المجتمع.

فجلسات القص الشعبي ومنتديات الشعر والغناء التي كانت تعقد في ساعات الفراغ وأوقات السمر بصفتها وسيلة ترفيهية مهمة، تحوّل الناس عنها إلى قراءة الصحف ومشاهدة التلفاز وسماع المذياع ، فراوي القصة كان له جمهور مباشر يجالسه وجها لوجه، ويستمع إلى حكاياته الشيقة ويتفاعل معه.

وينفعل بالأحداث التي يرويها، ويتشوق لسماع الحكايات الطويلة التي يقصها لليالٍ متتالية، معتمداً على قدراته الذاتية واستخدام صيغ فنية خاصة للتأثير في نفوس السامعين، كالتروي في السرد، والتوقف عن القص في المواقف الدرامية العنيفة، رغبة في إثارة خيال السامع وتشوقه لاستكمال الأحداث في الليلة المقبلة.

وكانت لهذه الحكايات وظيفة اجتماعية ومغزى تربوي مهم بما تزخر به من قيم أخلاقية تساهم إلى حد كبير في توجيه نمط السلوك الإنساني كأن ترغّب في اثابة الملتزمين بالسلوك الجيد، وترهب الخارجين على القانون بالعقاب.

ولكن هذه الجلسات التي كانت تحقق متعة اجتماعية، لم تعد وسيلة ترفيه اساسية في حياة الانسان المعاصر الذي شغلته ظروف الحياة المعقدة وايقاعاتها السريعة، فاتجه إلى قضاء سويعات في فراغه في قراءة الصحف .

ومتابعة برامج الاذاعة والتلفاز والتي غالباً ما تشتمل على مسلسلات قصصية تنشر أو تذاع أو تعرض في حلقات تشبه إلى حد ما حلقات روايات القصاص الشعبي لتثير لدى الجمهور ذات الفضول والتشوق الذي كان يثيره راوي الحكاية، فيقبل على متابعتها مشاهداً أو مستمعاً أو قارئاً.

وهكذا نرى أن الوسائط الجماهيرية لم تصبح فقط بديلاً ترفيهياً لجلسات القص الشعبي، وإنما استحوذت على وظيفتها الأساسية في التأثير في نفوس الناس على الرغم من أن تلك الوسائل قد خلقت جمهوراً غير مباشر، تفصله عما يشاهد أو يسمع أو يقرأ حواجز لا يستطيع ان يتفاعل فيها مع المؤيدين بصورة مباشرة لينقل لهم مشاعر الاستحسان.

أو الاستهجان التي كان يواجه بها راوي الحكاية. مع ذلك فإن اقبال الناس على متابعتها ومعايشتهم اليومية لنمو أحداثها، وتأثرهم سلباً وإيجاباً بأداء أبطالها. هو دون شك، من المتغيرات الأساسية التي طرأت على أذواق الناس وأثرت في الوجدان الجمعي المعاصر.

أنور محمد

الكتاب: المأثورات الشعبية

النظرية والتأويل/ دراسة

الناشر: دار المدى ـ دمشق 2005

الصفحات: 213 صفحة من القطع المتوسط

Email