صوتهم ينبغي أن يعلو على المصرفيين والسماسرة، لن نكون بشراً ما لم يكن للشعراء نفوذ الزعماء

ت + ت - الحجم الطبيعي

الاربعاء 24 شعبان 1423 هـ الموافق 30 أكتوبر 2002 لا تزال ذكرى استقبال نيويورك لي، قبل حوالي 13 عاماً حاضرة في ذهني حينما قدمت الى الولايات المتحدة في فبراير 1990 رئيساً منتخباً حديثاً لجمهورية تشيكوسلوفاكيا ولم يكن ذلك الاستقبال الحار تكريماً لي شخصياً انما كان تكريماً لمواطني بلدي الذين كنت أمثلهم، والذين استطاعوا بوسائل سلمية ان يطيحوا بنظام شرير كان يحكم بلدنا كما كان تكريماً لكل اولئك الذين قاوموا هذا النظام قبلي ومعي بوسائل سلمية ايضاً. لقد رأى العالم كله انتصار الثورة المخملية التشيكوسلوفاكية لتكون بشيراً بعالم اكثر انسانية يكون للشعراء فيه صوت لا يقل قوة عن صوت المصرفيين. واستقبال نيويورك لي اليوم، بالدفء والكرم ذاته، يدفعني للتساؤل عما اذا كنت قد تغيرت في هذه السنوات وما فعلته هذه الرحلة الزمنية الطويلة بي وانا في منصب الرئاسة وما الذي تركته فيّ هذه التجارب الكثيرة التي مررت بها. لقد اكتشفت شيئاً مدهشاً، وهو انه على الرغم من ان هذه التجارب من المتوقع انها اعطتني الكثير من الثقة بالنفس والعزم وصقلت شخصيتي، الا ان العكس تماماً هو الصحيح فقبل هذه السنوات كنت اكثر مثالية واقل ثقة واكثر تواضعاً قد لا تصدقون ذلك، لكن كنت في كل يوم اعاني من رعب هذه المرحلة، واصبح اكثر خوفاً من الا اكون متمتعاً بالكفاءة للاضطلاع بهذه الوظيفة، او ان ألا افلح الا في تحقيق الفوضى واصبح من الصعب علي اكثر فأكثر ان اكتب خطاباتي، وحينما كنت اكتبها كنت ازداد قلقاً من ان انتهي الى ان اكرر نفسي مرة بعد اخرى بل كنت اخاف جداً من ألا ابدو على مستوى ما هو متوقع مني واني سأكشف عن قصور مؤهلاتي لهذا المنصب، واني على الرغم من نواياي الصادقة سأرتكب مزيداً من الاخطاء الأكبر، واني لن اعود جديراً بالثقة ولهذا افقد حقي في فعل ما انا فاعله. وفيما يشعر الرؤساء الآخرون، الأقل عهداً بقصور الرئاسة مني، بالسعادة عند كل فرصة تتاح لهم للالتقاء بعضهم بالبعض الآخر أو بأناس مهمين آخرين وبالظهور على شاشات التلفزيون والقاء الخطابات، فإن ذلك كله كان يجعلني اشعر بالخوف. في بعض الاوقات كان الشيء ذاته الذي يفترض بي ان ارحب به باعتباره فرصة عظيمة كنت احاول عمداً ان اتجنبه بخوف يكاد يكون لا عقلانياً من اني بطريقة او بأخرى، سأبدد الفرصة السانحة او اضر بقضية عادلة. باختصار، اصبحت ابدو اكثر فأكثر انساناً متردداً، حتى أمام نفسي وكلما ازداد عدد اعدائي اخذت اقف بجانبهم بيني وبين نفسي، بحيث اصبحت اسوأ اعداء نفسي. كيف يتسنى لي ان اشرح هذا التطور غير المناسب ابداً الذي طرأ على شخصيتي؟ ربما اصبح اقدر على القيام بهذا حينما اترك منصب الرئاسة، وهو ما سيحدث في فبراير المقبل، حينها سيتوفر لي الوقت لأنسحب برهة وأبعد نفسي قليلاً عن السياسة وأبدأ كرجل حر تماماً من جديد بكتابة شيء آخر غير الخطب السياسية. لكن الآن، دعوني اشير الى احد الاسباب الممكنة التي تفسر وضعي هذا اذ فيما اتقدم في السن، وفيما اصبح اكثر نضجاً وخبرة وتعقلاً، بدأت ادرك تدريجياً على نحو اكمل نطاق مسئوليتي ومدى الالتزامات الكبيرة التي تحتم علي بفعل المنصب الذي قبلته. اضف لذلك، اني رأيت اقتراب الوقت الذي لم يعد فيه اولئك المحيطين بي والعالم، والاسوأ من ذلك ضميري يسألوني فيه عما هي مبادئي وأهدافي وعما ارغب في تحقيقه وكيف اتمنى ان اغير العالم، بل اخذوا بدلاً من ذلك يسألوني عما حققته فعلاً وأي من طموحاتي انجزت وما هي النتائج، وما هي التركة السياسية التي اريد تركها خلفي وفجأة أحسست ان القلق الروحي والفكري ذاته الذي اجبرني سابقاً على ان اقف في وجه نظام شمولي وامضي للسجن، يجعلني الآن اعاني هذا القدر من الشكوك العميقة تجاه قيمة عملي او عمل اولئك الذين دعمتهم او اولئك الذين جعلت من سلطاتهم امراً ممكناً. في السابق، حينما كنت احصل على الدرجات الفخرية واستمع للخطب التي تلقى في تلك المناسبات، كان علي غالباً ان ابتسم لنفسي لما بدوت عليه في كثير من هذه المناسبات التقديرية وكأني بطل من الحكايا، او كأني صبي باسم الخير نطح جدران قلعة الزعماء الاشرار الى ان انهارت الاسوار فدخلها ونصب نفسه ملكاً طيباً وحكم الناس بحكمته لسنوات طويلة. لا اريد بقولي هذا ان اقلل من قدر هذه المناسبات، فأنا اقيم عالياً جداً كل درجات الدكتوراة الفخرية التي حصلت عليها كما اني افرح جداً حينما احصل على واحدة. غير اني اذكر هذه الجوانب من الاشياء التي قد تثير الابتسامات، لاني قد بدأت للتو بفهم كيف ان كل شيء كان في حقيقته فخاً نصبته لي الايام لأني قد اقحمت فعلاً بين ليلة وضحاها في عالم الحكايا، ثم كان علي ان اعيد نفسي الى الارض فيما تلى وذلك من أفضل الأيام، وان من افضل لي ان افهم ان عالم الحكايا ما هو الا اسقاط مجرد للنماذج البشرية الاولى وان العالم غير مركب مثل عالم الحكايا وهكذا، دون ان احاول ابدأ التحول الى ملك من عالم الحكايا ورغم اني وجدت نفسي مرغماً على اتخاذ هذا الموقف لي عبر مصادفة تاريخية، فإني لم احصل على حصانة دبلوماسية لنفسي من السقوط القاسي ذاك الى عالم الارض من عالم الاثارة الثورية الذي يملأ الرأس نشوة الى عالم الروتين البيروقراطي الارضي. ارجو ان تفهموني: انا لا أقول اني خسرت معركتي، وان كل شيء فعلته كان عبثاً بل على العكس، فعالمنا وانسانيتنا ومدينتنا تجد نفسها اليوم كلها على اهم مفترق تاريخي تصادف حتى الآن. لدينا اليوم فرصة اكبر من اي وقت سابق لفهم وضعنا وازدواجية الاتجاه الذي نترك وفقه وان نأخذ قرارنا وفق مصلحة العقل والسلم والعدل، وليس لمصلحة الطريق الذي سيقودنا لدمارنا نحن. ما اريد قوله هو: ان تحديد طريق العقل والسلم والعدل يتطلب الكثير من العمل الجاد وانكار الذات والصبر والمعرفة والنظرة المتأنية والارادة في ألا نخشى من سوء الفهم بيننا كما يعني في الوقت نفسه وجوب ان مقدرة كل منا الحكم على امكانياته والعمل وفقها وان يتوقع ان قوته ستزداد مع المهام الجديدة التي يقوم بها او انها ستخور وبمعنى آخر، لن يكون هناك المزيد من الاعتماد على الحكايا وابطال الحكايا لن يكون هناك مزيد من الاعتماد على المصادفات التاريخية التي ترفع من قدر الشعراء الى مراتب تنخفض اليها الامبراطوريات والتحالفات ان صوت نذير الشعراء يجب ان ينصت له ويؤخذ على محمل الجد، وربما بأكثر جدية من صوت المصرفيين وسماسرة الاسهم لكننا في الوقت نفسه، لا يمكن ان نتوقع من عالم، بيد الشعراء، ان يصير قصيدة في غمضة عين. فلتقولوا ما تقولون، هناك شيء حتمي وحيد بالنسبة لي وهو انه بغض النظر عن كيفية لعبي الدور الذي أنيط بي، وبغض النظر عما اذا كنت قد اردت هذا الدور اصلاً، او فيما اذا كنت استحقه، وبغض النظر عن رضاي قل او كثر عن جهودي التي بذلتها فيه، انا ارى لرئاستي هدية عظيمة وهبني اياها القضاء والقدر اذ اني في نهاية الامر، اتيحت لي فرصة للمشاركة الحقة في احداث تاريخية غيرت العالم وهذا، سواء كان تجربة حياتية او فرصة خلاقة، كان يستحق كل هذه الافخاخ التي كانت منصوبة خفية داخله. فيما يلي سأحاول الابتعاد عن نفسي قليلاً في محاولة لوضع صياغة لثلاث من حتمياتي القديمة، او لنقل، اكتشافاتي القديمة التي لم تفلح سنواتي في عالم السياسة الا في تأكيدها: (1) اذا اريد للانسانية ان تنجو وتتجنب كوارث جديدة، فإن على النظام السياسي العالمي ان يكون مصحوباً باحترام صادق ومتبادل بين الحضارات والثقافات والامم والقارات وان تلازمه جهود مخلصة للسعي وراء ايجاد القيم او الالتزامات الاخلاقية الاساسية التي تشترك بها، وتحويلها الى اساسات لوجودها المشترك في هذا العالم المتصل مع بعضها. (2) الشر يجب وأده في مهده، وان لم يكن هناك من وسيلة لفعل ذلك، فيجب التعامل معه باستخدام القوة واذا ما كان واجباً علينا استخدام الاسلحة المتطورة جداً والمكلفة جداً فلنستخدمها بطريقة لا تضر بالتجمعات السكانية المدنية وان لم يكن ذلك ممكناً، فإن المليارات التي تنفق على هذه الاسلحة تكون قد بددت عبثاً. (3) اذا ما دققنا في كل المشكلات التي تواجه العالم اليوم، سواء كانت اقتصادية او اجتماعية او بيئية او المشكلات الحضارية العامة، فإننا دوماً سنواجه السؤال، اردنا ام لم نرد، عما اذا كان السلوك الذي نتخذه لمواجهة هذه المشكلات ملائماً ام لا، او اذا ما كان هذا السلوك من زاوية تبعاته طويلة الامد، سلوكاً مسئولاً. ان النظام الاخلاقي وموارده، من حقوق انسانية وموارد حق البشر في حقوق الانسان والمسئولية الانسانية ومصادرها والضمير الانساني والرؤية الثاقبة لشكل لا لشيء ان يخفي فيه شيئاً وراء ستائر الكلمات الجميلة هذه كلها وفق اعمق ما لدي من قناعات وكل ما عرفته من تجارب، هي اهم الافكار السياسية لعصرنا هذا. حينما انظر حولي وارى اناساً مشهورين عديدين وقد سقطوا من عليائهم بين النجوم الى الارض، لا استطيع منع نفسي من الاحساس بأنني في نهاية سقوطي من عالم الحكايا الى عالم الارض اجدني مرة اخرى وفجأة في عوالم الحكايا من جديد وربما كان هناك فرق وحيد بين الحالتين: اليوم استطيع ان اتذوق هذا العالم على نحو اعمق مما كان يسعفني فيه ذوقي قبل ثلاثة عشر عاماً. بقلم: فاكلاف هافل ترجمة: جلال الخليل عن «نيويورك ريفيو اوف بوكس»

Email