كتاب ـ مواطنون اختاروا الوطن ـ (3) ـ هكذا تبدو «أمريكا» في الوعي الجمعي المصري، بسطاء يروون توحّد الهوية بالأرض واللون الأخضر

ت + ت - الحجم الطبيعي

الاثنين 22 شعبان 1423 هـ الموافق 28 أكتوبر 2002 الإسماعيلية مدينة رقيقة، باسمة، وهي ثاني مدن شط القناة، المشاركة دوماً بإنسانها في التراجيديا، التي صنعتها ظروف المكان والزمان، وإذا كانت سيناء ميناء بوابة مصر الشرقية، فقد كانت أرض الإسماعيلية متداخلة مع سيناء قبل شق قناة السويس، لذلك فهي النطاق الأوسط، والمثلث الشمالي للصحراء الشرقية، ولم يكن بها سوى البحيرات المرة الكبرى والصغرى، وبحيرة التمساح، التي كانت تعيش على شواطئها بعض القبائل العربية التي تشتغل بالرعي والصيد، وتعتبر أرض الإسماعيلية مفتاح هذه البوابة. والثابت تاريخياً أن أرض الإسماعيلية قد عبرها العديد من الأجناس قبل الميلاد، سواء الآتية من جهة الشرق، أو الشمال الشرقي، ثم الغزو التركي، كما كانت ـ هذه الأرض ـ مساراً للأنبياء والرسل، فقد مرّ بها أبو الأنبياء إبراهيم وزوجته سارة، ومن بعدهما يوسف، ثم يعقوب حين أرسل اليه ابنه يوسف عليهم جميعاً السلام. وتتعاقب صفحات التاريخ في هذه المنطقة، إلى ان جاء الفتح الإسلامي، ودخول عمرو بن العاص وجنوده مصر، متخذين طريق سيناء ليصلوا إلى العريش، ثم يحاصروا مدينة الفرما. ويأخذ تاريخ الإسماعيلية شكلاً متصاعداً بحفر قناة السويس في 25 ابريل 1859، بينما في 18 نوفمبر 1862 تدفقت مياه المتوسط في بحيرة التمساح، وفي 18 مارس 1869 تم وصل البحر المتوسط بالبحيرات المرة، وفي 15 اغسطس 1869 تم وصل البحر الأحمر بالبحيرات المرة، إلى ان تم افتتاح القناة للملاحة في 18 نوفمبر 1869. وبحفر قناة السويس وما تلاه من أحداث، امتدت فصول من ملحمة الانسان العربي في مصر، في صراعه مع القوى الاستعمارية، حيث تكلف المصريون ـ مبدئياً ـ في الحفر معاناة 125 ألفاً منهم، تداخل عرقهم مع دمهم ومع دمعهم، في تراجيديا، سجلها التاريخ بأحرفه، ليقول دوما: البقاء لأصحاب الحق، والأرض، والعرض. لذلك فإن الإسماعيلية بصورتها الحالية، كانت كمدينة نتيجة لمشروع ربط البحرين الأبيض والأحمر عن طريق قناة السويس، وهو المشروع الذي حلّ محل القناة القديمة، التي كانت تربط بين البحرين عن طريق قناة النيل، وقد قامت بالفعل هذه المدينة مع افتتاح القناة العالمي للملاحة عام 1869، حيث شهد هذا الافتتاح ملوك العالم ورؤساؤه، وظلت القناة عبئاً على مصر بعكس ما كان مستهدفاً منها، وصارت مطمعاً للدول الغازية خاصة بريطانيا، التي أصدرت أمرا لأسطولها باحتلال كل من بورسعيد والاسماعيلية، في الوقت الذي لم تجد المقاومة نظراً لخيانة خديوي مصر آنذاك، التي مهدت لدخول الانجليز الإسماعيلية، وجعلها اكبر قاعدة بريطانية في الشرق الأوسط، ثم تجدد النضال مرة ثانية لتعود الإسماعيلية إلى أحضان أمها «مصر» في العام 1956. ليكتب فصلاً جديداً من فصول تراجيديا الانسان المصري على شط القناة.والإسماعيلية كانت تعرف قديماً باسم «قرية التمساح» وسميت بالإسماعيلية نسبة للخديوي إسماعيل الذي يرتبط اسمه بمشروعات حضارية عديدة. وقد ارتبط اسم الإسماعيلية بجميع معارك التحرير التي خاضتها مصر، وفي الخامس من يونيو 1967 تعرضت في ذلك، وشقيقتاها بورسعيد والسويس للعدوان الاسرائيلي، وكانت مركزاً للهجوم حيث تعرضت لنيران العدو اليومية طوال حرب الاستنزاف، مما أدى إلى هجرة أهاليها وناسها إلى مختلف المحافظات، حتى معركة السادس من اكتوبر 1973. ولأكتوبر وقع خاص في الإسماعيلية، ففضلاً عما تم انجازه في العام 1973، فإن العام 1951 قد شهد في اليوم السادس عشر من هذا الشهر اندلاع الشرارة الأولى لحركة المقاومة الشعبية ضد الانجليز، حيث خرجت أول مظاهرة من طلبة المدرسة الثانوية والتي طالبت بتحرير ارض القناة وطرد الانجليز. أما في اليوم الخامس والعشرين من يناير 1952، فقد ارتبط بتضحيات (الإسماعيلاوية) مع اخوانهم في جهاز الشرطة، حيث اشتعلت الثورة ضد الغاصب، وقد احتلوا مبنى المحافظة، وقامت معركة ضارية برغم عدم التكافؤ التسليحي بين العدو وأبناء الإسماعيلية وجهاز الشرطة.وتتوالى الأحداث الدرامية، وفي قلبها الإسماعيلية، بدءاً من العام 1956، ووصولاً إلى الخامس من يونيو 1967، ثم الفترة الزاهية في تاريخ الانسان المصري، الذي أكد قدرته على المقاومة المتنامية داخله، حتى كان السادس من أكتوبر، فأحداث الثغرة، ثم التفاوض، وصولاً إلى ما نحن فيه الآن. التفاصيل الصغيرة لأن التاريخ تكتبه التفاصيل الصغيرة، وينسجه نضال الناس، ليس بالمدفع فقط، بل بالعزيمة والاصرار، والصمود، وذلك ما تشهد عليه أحداث الإسماعيلية، شأنها في ذلك شأن شقيقتيها بورسعيد والسويس. فإن في التفاصيل اليومية، ثراء لأي باحث عن التاريخ الإنساني، لذلك وخلال هذه الفترة «67 ـ 73» هناك ألوف التفاصيل، التي سيذكرها التاريخ لناس هذه المنطقة. وشهاداتنا الانسانية بسيطة، سهلة التفاصيل، لأناس طيبين، أصروا على البقاء على هذا الأرض المخضبة بالدم. وقد حرصت على ألا أتدخل في صياغة أفكارهم، بل تعاملت مع كلماتهم البسيطة بكل حماس، لأنها تحمل الصدق، كل الصدق الذي نفتقده هذه الأيام! يقول الشاهد الأول حسن محمد «الشهير بحسن سمك» مقاول، في مستهل شهادته: كنت أعمل في شركة التمساح، وهي آخر شركة صفّت أعمالها هنا في الإسماعيلية ـ بعد عدوان 5 يونيو 1967، وعلى الرغم من التهجير إلى القاهرة، فأنا هنا بشكل مستمر. أنا هنا من أيام العدوان. ـ أي عدوان؟ ـ عدوان 67، أما النصر فقد كان في 1973، لم يكن هناك عمل، فقد كنت ضمن فرق المقاومة الشعبية. ـ ما شكل الإسماعيلية قبل السادس من أكتوبر؟ ـ الناس ملت من الهجرة، وعاد معظمهم إلى هنا سراً، على الرغم من عدم توافر المواد التموينية، أو الخبز، أو غيرها من متطلبات الحياة، لكن الناس رجعت تاني. لم يكن في الإسماعيلية سوى «فرنين للخبز» فقط، ومع ذلك الناس موجودة، وعايشة، ورافضة أن تعود للمهجر. أولاد البلد لهم بيوت، وعفش، كانت «الرِجل بسيطة في البلد»، لكن رائحة البلد، بتهفهف على ناسها، علشان كده كانوا موجودين. في 6 أكتوبر، كلنا كنا حاسين اننا هانعمل حاجة، وفعلاً، الجيش عمل اللي عليه، وقدر يرجع لنا الكرامة والأرض، والإسماعيلية من بعدها عايشة في أفراح مستمرة. ـ ماذا كنتم تفعلون في المقاومة الشعبية؟ ـ أنا وزملائي كنا نقوم بالحراسات على البيوت، فضلاً عن تنبيهنا للذين يضيئون منازلهم، كنا نطلب منهم إطفاء هذه الأنوار، مكنتش ماسك مدفع وباحارب، إنما للأعمال المدنية والإرشادية، الجيش إذا كان عاوز أي مساعدة، كنا نعاونه، ونقدم له ما يحتاجه. ويستعيد الشاهد الثاني عطوان إسماعيل، موظف ذكريات هذه المرحلة التي لا تُنسى، فيُبادر إلى القول: العام 1967 يختلف، بطبيعة الحال، عن العام 1973، فالمدينة بوجه عام ـ أي الإسماعيلية ـ تتوسط مدن القناة الثلاث، هدوء عادي، المواطنون عايشين، إلى أن داهمهم 5 يونيو 1967، فلم يكن أمام شباب الإسماعيلية سوى ان يجنّد نفسه في المقاومة الشعبية، للحراسات على المنافذ، والكباري، ومعاونة القوات المسلحة خاصة في عمليات الإسعاف، جدت الفتيات في التمريض بالمستشفيات. كنا صامدين ومستعدين بحيث لو أن العدو فكر في عبور القناة كان سيجد مقاومة شعبية من شعب الإسماعيلية، لأنه معروف عن الإسماعيلية، من حروب سابقة، أن لديها خبرات في المقاومة سواء في 51 أو 52 أو 1956، لذلك فإن الشباب كان مستعداً للقاء، كما أن أجدادنا بدلاً من الخوف علينا، كانوا يبثون فيها روح المقاومة والنضال، لقد كان معظمنا في ذلك الوقت في العشرينيات من العمر. وأؤكد انه كانت توجد هنا جبهة متماسكة من المقاومة الشعبية، بتحافظ على المرافق المهمة (محطة المياه، محطة الكهرباء، مداخل المدينة، المباني، البيوت)، فضلاً عن التعاون مع رجال القوات المسلحة، وكنا ما بعد 1967 عاوزين نقول للعالم كله أننا قادرون على النصر. الكلام الإسرائيلي الخاص بأن خط بارليف لا يُقهر، الواقع أنها كانت «إشاعة»، كبيرة، وهنا على هذه الأرض، كان علينا الالتحام والصمود بأي وسيلة لتكذيب هذه «الإشاعة». ربنا أكرمنا في 1973، وعلشان كدة، الصورة اختلفت تماماً عنها في النتائج عن 1967، والغريب حقاً، انه بعد العبور في 6 أكتوبر بست ساعات فقط كان أهالي الإسماعيلية المهجّرين، يتدفقون على المدينة والبعض عاد «بعفشه». الشعب الإسماعيلي رجع لأنه كان عاوز يشارك في جيشه في النصر، بعد انتهاء المعارك، لم ينته دور شباب المقاومة الشعبية، بل بدأ في تنظيف المدينة من مخلفات الحرب (إصلاح مواسير المياه، مساعدة المهجّرين في تسكينهم في منازلهم). ـ اسمح لي أن أعود معك إلى ما قبل 6 أكتوبر. ما شكل أحاسيس الناس ومشاعرهم؟ ما شكل حياتهم اليومية؟ ـ إحساس الناس كان واحداً، كان الأمل واحداً في النصر، وفي العودة وفي التعمير، كانت هناك رابطة قوية، كنا مصرين على تحقيق النصر، هجّرنا البنات والستات، لكن الرجال والشباب استمروا هنا، مش ممكن نترك الإسماعيلية، التحمنا من أجل الصمود، ليعود مرة أخرى من خرج منها. كلام الحاج محمد يقول الشاهد الثالث محمد مصطفى عبدالله، فلاح، في معرض تذكره لوقائع هذه المرحلة: لم نترك هذه المنطقة حتى العام 1973، كنا نتعاون مع الجيش كان عندنا «تليفون» كان يأتي إلينا في 1967 من يريد ان يتصل ببلده من العساكر، يتصل مجاناً، حتى يطمئنوا أهاليهم. لنا أرض في البلد، إحنا قريبين من الدفرسوار، ظللنا فيها إلى أن جاء اليهود، الاستشهاد في سبيل الله ثمنه غال. والله تمنيت الشهادة، وأنا راجل أعرف ربنا، وحافظ القرآن، هذا هو السبب اللي جعلني استمر في المنطقة «الشهادة في سبيل الله والوطن». كنا نتعاون مع الجيش تعاوناً كاملاً. ـ إذن ما شكل هذا التعاون يا مولانا؟ ـ في موضوع الأكل، كان لدينا الأكل والمواشي واللبن بكميات وفيرة والحمد لله، ومقابل الأكل كانوا يدربوننا على استخدام جميع الأسلحة، بحيث نكون خلف الجيش، لقد تدربت على الأسلحة الآلي ونصف الآلي ومدفع بورسعيد والقنابل اليدوية. كنا نتدرب لاستخدام السلاح، لكن لم تأت الفرصة لاستخدامه، ولو كان طلب منا المشاركة المسلحة، كنا شاركنا، لأني كما سبق وقلت كنت أتمنى الشهادة في سبيل الله. ـ فيما يتعلق بروح الناس.. كيف كان حالهم بعد 5 يونيو 1967. وحتى نصر 6 أكتوبر؟ ـ لما حصلت النكسة، والجيش رجع «طافش» كانت مهزلة كنا متضايقين، ولدينا شعور كبير بهذا الضيق، وعلشان كده ساعدنا الجيش، وكان لدينا شعور بأن الحرب مقبلة، ولدينا إيمان بالله سبحانه وتعالى بأنه سينصرنا، ودول يهود، وإذا كانوا انتصروا مرة، فمش هاتعود. كان الأمل كبيراً في الانتصار. العائلات هنا مترابطة مع بعضها من الجناين في السويس لغاية بورسعيد، بينها صلة دم ونسب، لأن هناك ارتباطاً معنوياً بين الناس وبعضهم البعض. وأذكر قبل العام 1967 أنني كنت أمتلك سيارة نقل كبيرة، كنت أنقل عليها معدات كبيرة للبر الشرقي (في سيناء) وكم كان حزني وألمي، بعد 1967 لما وجدت هذه المعدات قد استولى عليها اليهود، وساعتها قُلت عوضنا على الله. وعموماً الجهاد في سبيل الله لا يخضع لسن، حتى لو الواحد عنده 100سنة، مفروض عليه الجهاد في سبيل الله من أجل الوطن. وأود أن أقول: إن الله سبحانه وتعالى عندما نظر إلى قلوب المؤمنين وجد أن فيها إخلاصاً وتعاوناً، والله ينظر إلى «الأعمال». ولا شك إذن أن الله وقف معنا، ولم يهن في بلاده الجمهورية، أي لم يحدث لها، كما حدث لمدن القناة، لأننا على حافة القناة من جهة البر الغربي، واليهود على البر الشرقي. وأوضح بيتنا وأرضنا على حافة القناة، واليهود نازلين «دك». كنا عاملين «جربين» أي خندق امام البيت، وفي الليل ندخل العيال في «الجربين» وفي النهار كنا نسعى من أجل الرزق. كنت موجوداً أيام الحرب، واحنا كنا قريبين من الثغرة، لأن بلدنا في «هويس سرابيوم» ومفيش أمتار بينها وبيننا، ولولا «الثغرة» ولولا أميركا تدخلت، لكنا «ولا مؤاخذة» احتلينا اليهود في 3 ايام، ده اللي تصورته، واللي شفته. لذلك لولا أميركا بثقلها وطياراتها ودباباتها، وكنا بنشوف بأعيننا في جبال سرابيوم طيران أميركا وهو بينزل الدبابات منها، إذن: أين نذهب؟ هل هانحارب أميركا؟. طب كانت تسيبنا أسبوع واحد على اليهود، شوف إيه اللي كان هايحصل. كفاية تقول «الله أكبر». ـ حاج محمد، هل رأيت حالات بطولية من الناس في هذا الوقت العصيب، كأن يضع أمامه «الشهادة» من أجل الوطن؟ ـ طبعا، الشباب كله، كان كل يوم تدريب، وفي الثغرة، كان الجيش يمد الشباب بالقنابل، وبعد «أبوعطوة» بشوية، ورغم الحرب والموت، كنا لازم ننزل الاسماعيلية، ولما نزل اليهود في الثغرة ووصلت دباباتهم في الجبل، كان لنا طريق يوصل من سرابيوم إلى طريق المعاهدة الموصل للسويس، وفي يوم كان معانا «جدع» شاب. كان فيه عربة جيب فيها اسرائيليين، وقالوا له: ارمي البندقية، لأنها كانت معه، قال لهم: «ده سلاحي ولن أرميه، ضربوه طلقة في «بطنة»، وبالرغم من أن «كرشه» نزل، رفع البندقية وقتل «أربعة» منهم. ربطنا بطنه «بالعمة». ومشينا 8 كيلو، كنا في رمضان، حاولنا اعطاؤه «شوية ميه» رفض، وقال: أنا صايم، وبعد أيام قليلة توفى. ـ ما اسمه يا حاج؟ ـ حلمي حسن علام. وهناك حالات كثيرة، محمد مصطفى الغزلاوي، كان راجل حافظ كتاب ربنا، كان محمل ذخيرة في اكياس وشايلها في عربيته، ضربه اليهود ومات في الحال. الحقيقة الحمد لله شباب هذه المنطقة واهلها روحهم عالية جدا، وهذه ليست اول مرة نحارب حاربنا في 1945، 1951، 1952، 1956، 1967، ومنطقتنا كانت دائما معرضة للحرب، علشان كده تولد لدى الناس «مناعة» ضد «الاستسلام» وشربوا روح المقاومة.أما الشاهد الرابع عبدالوهاب محمد موظف بقرية سرابيوم، فيبادر إلى القول: الحقيقة ان الشعب المصري ليس من الوقت الحالي يعرف هذه البطولات، وهذه التضحيات، ولكن منذ زمن بعيد، عندما فتحت على يد عمرو بن العاص، ويعرف أن الذين يقتلون في سبيل الله إنما هم أحياء عند ربهم يرزقون. التلاحم بين الشعب والجيش كان واضحا، ولا اقول رائعا، لأن ايمان الناس هنا بأراضيها وجيشها فاق الحدود، لدرجة أن «التعيين» أي الطعام الذي كان يأتي للتوزيع على الناس كانوا يتنازلون عنه للقوات المسلحة. كانت هناك تضحيات كثيرة، وان كانت منطقة الحرب لا تدعو للمشاهدة أو «الفرجة»، بقدر ما تدعو «للمشاركة».. وكانت هناك تضحيات، خاصة في سرابيوم، وكانت افراد خاصة، اوقفت المسيرة العسكرية الاسرائيلية التي وصلت الدفرسوار، ولم يمكنوها من المواصلة حتى سرابيوم أو الاسماعيلية. وحاولت أربع دبابات اسرائيلية المرور للوصول إلى الاسماعيلية، التي اذا سقطت اصبح الطريق مفتوحا للقاهرة، لكن «فردين» أوقفا مسيرة هذه الدبابات حيث استطاعا أن يحصدوها بمدافع «أر بي جي». وطبيعي أي إنسان يعتز بمسقط رأسه، وذلك بشكل عام، فضلا عن الاعتزاز بالارض والديار، وذلك ينسحب على مواطني مدن القناة شديدي الاعتزاز بأرضهم، ومدنهم، وناسهم، وذكرياتهم، وان هذه ارض المنطقة منذ القدم، اختطت بالدماء وذلك هو السر وراء تمسك الشخصية الاسماعيلاوية بالارض، وزادها هواياتهم «الشديدة» في المقاومة. رجعنا وزرعنا والشاهد الخامس ليس إلا فتحية علي نجم الدين، فلاحة وربة بيت، وهي تقول في حرب 1967. واحنا عايشين في بيوتنا وارضنا على شط القناة في هويس سرابيوم، كانت العساكر «بتصعب» علينا، لذلك كنت بأعمل لهم الاكل مخصوص، فراخ، واكل كويس. وكنت دائماً اقول لنفسي، بكره ولادي يكبروا ويبقوا عساكر زيهم. ـ يعني ـ يا حاجة ـ الدافع لمساعدة العساكر، هو انك أم؟ ـ طبعاً أنا أم، كنت بأفكر ان اولادي هايكبروا، ويبقوا عساكر، يبقى لو حصل لهم حاجة، يلاقوا اللي يساعدوهم. الستات هنا في المنطقة، عندهم شجاعة كبيرة، لا يخافوا من شيء، أما في 73 انتصرنا، علشان احنا تركنا هنا في سنة 1972 «بس».. هجرنا في الزقازيق، ولما انتهت الحرب، رجعنا على طول لبلدنا هنا في هويس سرابيوم، ولم ننتظر ان الحكومة تقول لنا ارجعوارجعنا بيوتنا، وزرعنا اراضينا تاني. الشاهد السادس عليه محمد مصطفى، ربة بيت، تقول في زمن الاستنزاف، كنت في الاعدادية، أي كان عندي 15 سنة، وكنت ألاحظ أن الاهالي كانوا مع الجيش، حاسين أن دول أولادهم، وخايفين في الوقت نفسه على بلدهم، فكان بكل ما يملكون بيساعدوا الجيش، اللي عنده أي حاجة كان بيقدمها، لدرجة أن اراضي وجناين الاهالي قدموها للجيش، يمارس منها عمليات الحرب، الشجر حامي الجيش، وكنا راضيين. الستات في هذه فالأيام قاموا بالتمريض في المستشفيات، وذلك بالمجان، كانوا بيساعدوا المصابين، تركوا بيوتهم وأولادهم، وراحوا يساعدوا الجيش. الستات أوصت أولادها بالحرب لأن الموت في الحرب هي شهادة في سبيل الله، ويمكن نقول أن سيدات القناة عبارة عن «خنساء» جديدة. الشاهد السابع شافعي عبدالمجيد موظف من أبوعطوة ـ الاسماعيلية، يلتقط طرف الخيط، ويبادر إلى ايضاح انه: في 1967 كان سني صغير، حوالي 15 سنة، والدي فلاح، وعندنا ارض، فوجئنا أيامها بالحرب، ولان غرب القناة في هذه المنطقة التي تمتد نحو 90 كيلو إلى السويس، وبعرض 10 كيلو مترات، ساعدت الجيش على الاحتماء في الاشجار، ونبدأ في مقاومة اليهود، وذلك ايام حرب الاستنزاف، لكن اليهود بدأوا يضربون بالطيران، لذلك كانت المقاومة، من هذه المنطقة، من تحت الاشجار. ما قبل حرب اكتوبر كان القصف وضرب المدينة قد اشتد، فهاجرت الناس (خاصة السيدات والاطفال، اما الرجال والشباب فاستمروا هنا، مشاركين في اعمال المقاومة، كما ان اغلب المزارعين استمروا في اراضيهم). لقد شعرنا، قبل الحرب بقليل، ان الجيش يستعد من وسط الجناين، عمل ستائر، الدبابات تحت الاشجار، حسينا بأن شيئا ما سيتم. في 6 اكتوبر، في ضربة الطيران المصري الاولى على الشاطيء الشرقي، هللنا: الله اكبر، الحريم زغردوا، الرجال كانوا يقطعون المزروعات والفاكهة ويلقون بها في سيارات الجيش، كانت البيانات صحيحة، بل ونشاهدها بأعيننا، إلى أن تدخلت أميركا، وحدثت الثغرة، وكان بيننا وبين الثغرة حوالي عشرة كيلو، ولقد حصل ارتباك بين المزارعين والشباب، وبدأ الضرب في مناطق متعددة. وبدأت المقاومة، القناصة، التحام الشعب مع الجيش. اغلب الفلاحين أخذوا مواشيهم وخرجوا على طريق الجبل. استطاعت المقاومة والقناصة ان توقف زحف الدبابات الاسرائيلية عند منطقة ابوعطوة، على بعد 8 كيلو مترات من الاسماعيلية. كان من الصعب ان اترك ارضي وبيتي، لازم ادافع عنه، وعلشان كده، استمر الناس هنا كنا سنعطي انتاج الارض ـ طواعية ـ للجيش وده سر شخصية «الاسماعيلاوية» المدافعة والمقاومة. تحت شجرة «أبوعطوة» الشاهد الثامن فوزي حسن، عامل تليفون، يبادر بدوره إلى القول: هجرنا الستات أيام الاستنزاف، وبدأنا كرجال نخدم نفسنا بنفسنا، لما حصلت المعركة ـ كان معنا سلاح ـ وكنت واخد موقع دفاعي في الشهداء، طريق بورسعيد، وكنا مستعدين في اي لحظة للالتحام، البلد كلها كان فيها روح تآخي، لو حصل أي حاجة، الكل يسأل عن الآخر.ظللنا هنا إلى ان استشهد المشير عبدالمنعم رياض، اما موقعة 1973، وصلوا إلى ابوعطوة، وكسرنا دباباتهم وأوقفناهم، وإللي أوقفوهم «اثنين» فقط من تحت شجر أبوعطوة. اما في موقعي ـ منشية الشهداء ـ كنا ثلاثة. النائب أحمد أبوزيد، ومحمد فائق عزب، وهو ممثل الآن، وأنا، وكنا نذهب لنحمل الذخيرة، ونتعاون مع القوات المسلحة. الشعور والانتماء للوطن، جعل الجميع يضحي، ولم أترك الاسماعيلية منذ عام 1951 وحتى الآن.كنا بنحلم بالساعة اللي نتخلص فيها من اليهود، كانوا قاعدين امامنا في البر الشرقي، فاتحين ميكروفوناتهم علينا. أنا لم أترك الاسماعيلية، لأنني زي السمكة، إذا خرجت من البحر تموت!! الافضل والاشرف لي أن أموت على هذه الارض. وذلك حال الناس جميعا، وهذه العينات العشوائية، البسيطة، للناس البسطاء الذين يقولون دوما كلمتهم لاجل التاريخ، والذين تقشعر آبدانهم عندما يقولون: الله أكبر.

Email