ضرورية لكنها ليست كافية لمحاربة الفقر، العجز الديمقراطي الوطني والدولي يمنع إبراز الوجه الحسن للعولمة

ت + ت - الحجم الطبيعي

الاربعاء 25 رجب 1423 هـ الموافق 2 أكتوبر 2002 العولمة بتعريفها على أنها شبكات من الاعتماد المتبادل بين الدول على مستوى العالم ليست جديدة. كما انها ليست اقتصادية محضة. فالأسواق توسعت وربطت الناس ببعضهم البعض، ولكن الاعتمادية البيئية والعسكرية والاجتماعية والسياسية ازدادت هي الأخرى. واذا كان مقدرا لردة الفعل السياسية الحالية ازاء العولمة ان تقود الى سلسلة من السياسات الحمائية، فإن ذلك قد يبطيء او حتى يقلب الاندماج الاقتصادي العالمي كما حدث في مرات متقطعة في الماضي ـ حتى في ظل تسارع ارتفاع درجة حرارة الأرض وانتشار فيروس الايدز. وسيكون من السخرية بمكان لو ان الاحتجاجات الراهنة قلصت الجوانب الايجابية للعولمة وتركت الابعاد السلبية دون مساس بها. ان للأسواق آثاراً غير متكافئة، وهذا التفاوت الذي تنتجه له عواقب سياسية قوية. ولكن الفكرة القائلة بأن الأسواق دائما ما تجعل الاغنياء اكثر غنى والفقراء اكثر فقرا ليست صحيحة. فالعولمة، على سبيل المثال، حسنت من حظوظ مئات الملايين من الفقراء في جميع انحاء العالم. والفقر يمكن تقليصه حتى عندما يزداد التفاوت. وفي بعض الحالات، يمكن حتى ان تتناقص حدة التفاوت. فالفجوة الاقتصادية بين كوريا الجنوبية والدول الصناعية، على سبيل المثال، تقلصت في جانب منها بسبب الأسواق العالمية. وفي غضون ذلك، لم تصبح اي دولة فقيرة في عداد الدول الغنية من خلال عزل نفسها عن الاسواق العالمية، مع ان كوريا الشمالية وميانمار قد افقرتا نفسيهما عبر القيام بذلك. وباختصار، فإن العولمة الاقتصادية قد تكون ضرورية وان كانت ظرفا غير كاف لمحاربة الفقر. لقد قادت تعقيدات العولمة الى بروز دعوات تطالب بوجود رد من قبل مؤسسات عالمية. وعلى الرغم من ان وجود حكومة دولية هرمية لا يعتبر حلا علميا او مرغوبا، إلا ان هناك العديد من أشكال الحكم العالمي وأساليب ادارة الشئون المشتركة القائمة بالفعل والتي يمكن توسيعها. فهناك مئات المنظمات التي تقوم حاليا بضبط الأبعاد العالمية للتجارة والاتصالات والطيران المدني والصحة والبيئة والارصاد الجوية والعديد من القضايا الاخرى. ويشتكي المحتجون المعارضون للعولمة من ان المؤسسات الدولية هي مؤسسات غير شرعية لانها غير ديمقراطية. ولكن المؤسسات العالمية القائمة هي مؤسسات ضعيفة ولا تعتبر مصدر تهديد. وحتى منظمة التجارة العالمية التي تتعرض للقدح كثيرا تملك ميزانية صغيرة وطاقما صغيرا من الموظفين. وعلاوة على ذلك وبخلاف المنظمات غير الحكومية المستقلة، تميل المؤسسات الدولية الى ان تكون متجاوبة بشكل كبير مع الحكومات الوطنية وبالتالي يمكنها ان تدعي تمتعها ببعض الشرعية الديمقراطية الحقيقية وان كانت غير مباشرة. بالاضافة الى ان المؤسسات الاقتصادية العالمية تكتفي بمجرد تسهيل التعاون بين الدول الأعضاء وتستمد بعض السلطة من قوة تلك الدول على التأثير. ومع ذلك، فإن هذه الحجج في عالم من السياسة الدولية، حيث اصبحت الديمقراطية محكا للشرعية، لن تكون كافية على الأرجح لحماية احد من الهجوم اللهم باستثناء المؤسسات التقنية. قد تكون المؤسسات الدولية الدولية ضعيفة، ولكن قوانينها ومواردها قد يكون لها آثار قوية. وعلاوة على ذلك، فإن المحتجين يثيرون بعض النقاط الشرعية. فليست جميع الدول الأعضاء في المؤسسات الدولية ديمقراطية بحد ذاتها. والصفوف الطويلة من الوقود القادمة من حكومات عديدة مع غياب الشفافية يضعفان القابلية للمساءلة في اغلب الاحيان. وعلى الرغم من ان المنظمات قد تكون ممثلة للدول، إلا انها غالبا ما تمثل اجزاء معينة من تلك الدول. وهكذا، فإن وزراء التجارة يحضرون اجتماعات منظمة التجارة العالمية ووزراء المالية يحضرون اجتماعات صندوق النقد الدولي ومحافظو البنوك المركزية يلتقون في بنك التسويات الدولية في بازل. وبالنسبة للغرباء فإن هذه المؤسسات يمكن ان تبدو، حتى داخل الحكومة نفسها، وكأنها نواد مغلقة وسرية وبالتالي، فإن زيادة الشرعية الملموسة للحكومة الدولية تعتبر هدفا مهما يتطلب ثلاثة أشياء هي: وضوح اكبر حيال الديمقراطية وفهم أغنى للمساءلة والاستعداد للتجريب. ان الديمقراطية تحتاج الى حكم من قبل مسئولين يكونون عرضة للمساءلة وقابلين للتنحية من قبل الغالبية من الشعب في نطاق السلطة التشريعية الى جانب وجود قوانين تحمي حقوق الأفراد والاقليات. ولكن من هم المشمولون في عبارة «نحن الشعب» في عالم تعتبر فيه الهوية السياسية على المستوى العالمي ضعيفة للغاية؟ ان صيغة «لكل دولة صوت واحد» ليست صيغة ديمقراطية. فبموجب تلك الصيغة تكون لدى المواطن في جزر المالديف قوة تصويت تفوق بألف مرة نظيره في الصين. ومن جهة اخرى، فإن معاملة العالم وكأنه دائرة انتخابية عالمية واحدة يكون الحكم فيها للأغلبية سيعني ان الصينيين والهنود الذين يتجاوز عددهم الملياري نسمة سيفرضون ما يريدون. وعلى نحو يثير المفارقة، فإن مثل هذا العالم سيكون بمثابة كابوس لتلك المنظمات غير الحكومية المناهضة للعولمة التي تسعى لتطبيق معايير خاصة على البيئة والعمالة، نظرا لأن هذه المعايير لا تحظى بدعم كبير من جانب المسئولين الهنود او الصينيين. وفي نظام ديمقراطي، تخضع الاقليات لارادة الاغلبية عندما تشعر انها اصبحت مشاركة بشكل كامل في المجتمع الاكبر. غير انه لا يوجد دليل الآن على وجود مثل هذا الاحساس القوي بالمجتمع على المستوى العالمي او بامكانية ايجاد مثل هذا الاحساس قريبا. وبغياب هذا الاحساس، فإن توسيع اجراءات التصويت المحلية الى المستوى العالمي له معنى عملي او معياري ضئيل. ان وجود برلمان أوروبي قوي قد يقلل من «العجز الديمقراطي» داخل اتحاد يضم دولا أوروبية متجانسة نسبيا، ولكن من المشكوك فيه ان يكون لمثل هذه المؤسسة مغزى على المستوى العالمي ككل. لقد شكل «برلمان الانسان» لألفريد لورد تنيسون شعرا عظيما في العصر الفيكتوري، ولكنه لا يصمد الآن امام التحليل السياسي المعاصر. وبالاضافة الى ذلك، فإن الديمقراطية توجد اليوم فقط في دول قومية منظمة بشكل جيد، وذلك الحال من المتوقع ان يتغير بوتيرة بطيئة فقط. ومع ذلك فإن الحكومات تستطيع ان تفعل اشياء عديدة لمعالجة المخاوف المتعلقة بوجود عجز ديمقراطي عالمي. أولا يمكنها ان تحاول تصميم مؤسسات دولية تحفظ قدر ما يمكن من الحيز لتفعيل العمليات السياسية المحلية. ففي منظمة التجارة العالمية، على سبيل المثال، قد تتدخل الاجراءات المتبعة لحل النزاعات بالسيادة المحلية، ولكن اي بلد يستطيع ان يرفض الحكم اذا كان يلزمها بدفع تعويض محدود للشركاء التجاريين الذين تضرروا من اجراءاتها. واذا تنصلت دولة ما من اتفاقياتها التجارية في اطار منظمة التجارة، فإن اجراءات التسوية تحد من الردود الانتقامية المتبادلة التي دمرت الاقتصاد العالمي في الثلاثينيات من القرن الماضي. وبمفهوم معين، فإن اجراء التسوية يشبه وجود صمام أمان في شبكة الكهرباء في المنزل، فالأفضل ان يحترق الصمام من ان يحترق المنزل برمته، وبالتالي، فإن الخطر الكامن في منظمة التجارة العالمية لا يتمثل في كونها تمنع الدول الاعضاء من ملاءمة الخيارات السياسية المحلية وانما في كونها تغري الاعضاء برفع دعاوى قضائية تتعلق بالعديد من النزاعات بدلاً من حلها عبر طريق المفاوضات السياسية الاكثر مرونة. ان تحسين المساءلة يمكن ان يبدأ من الداخل وينبغي ان يبدأ من هناك، واذا كان الناس يعتقدون ان اجتماعات منظمة التجارة العالمية لا تولي اهتماماً كافياً للمعايير البيئية، فإن بمقدورهم ان يضغطوا على حكوماتهم لكي تضمن وفودها لمنظمة التجارة العالمية وزراء أو مسئولين عن البيئة. ويمكن للهيئات التشريعية ان تعقد جلسات استماع قبل او بعد الاجتماعات، ويمكن للمشرعين ان يصبحوا بأنفسهم وفوداً وطنية للعديد من المؤسسات. ويتعين على الحكومات ان توضح ايضا بأن المساءلة الديمقراطية يمكن ان تتم بصورة غير مباشرة، فالمساءلة غالباً ما يتم ضمانها عبر وسائل اخرى غير التصويت حتى في الانظمة الديمقراطية التي تسير بشكل جيد، ففي الولايات المتحدة على سبيل المثال، تستجيب المحكمة العليا والبنك الاحتياطي الفيدرالي للانتخابات بصورة غير مباشرة من خلال سلسلة طويلة من الوفود، ويتم ايفاء القضاة والمصرفيين الحكوميين عرضة للمحاسبة من خلال اعراف ومعايير محترفة كذلك. ولا يوجد من سبب يجعل المساءلة غير المباشرة تتعارض مع الديمقراطية او ان تقييم المؤسسات الدولية مثل صندوق النقد والبنك الدوليين وفق معيار اعلى من المعيار المتبع في تقييم المؤسسات المحلية. وتعتبر زيادة الشفافية ضرورية ايضا. وبالاضافة الى التصويت فالناس في الدول الديمقراطية يناقشون قضايا مختلفة مستخدمين مجموعة متنوعة من الوسائل تتراوح بين الرسائل واستطلاعات الرأي والاحتجاجات. وتلعب مجموعات المصالح والصحافة الحرة ادواراً مهمة في ايجاد الشفافية في السياسة الديمقراطية المحلية ويمكنها ان تفعل ذلك على المستوى الدولي كذلك، وتعتبر المنظمات غير الحكومية معينة ذاتيا وليست منتخبة ديمقراطياً، ولكن يمكنها هي الاخرى ان تلعب دوراً ايجابياَ في زيادة الشفافية. وهي تستحق صوتاً اعلاميا وليس صوتا انتخابيا. ولكي تقوم بهذا الدور فإنها تحتاج الى المعلومات من المؤسسات الدولية والى الحوار معها. في بعض الحالات، مثل الاجراءات القضائية أو التدخلات في الاسواق فإنه من غير الواقعي ان يتم توفير المعلومات سلفا ولكن السجلات والتبريرات الخاصة بالقرارات يمكن كشفها فيما بعد من اجل التعليق والانتقاد كما تفعل المحكمة العليا والبنك الاحتياطي الفيدرالي في السياسة المحلية. والمعايير نفسها من الشفافية ينبغي تطبيقها على المنظمات غير الحكومية نفسها، ربما بتشجيع من منظمات غير حكومية اخرى مثل منظمة «الشفافية الدولية». ويمكن ان يساهم القطاع الخاص ايضا في المساءلة، فالاتحادات والقواعد الخاصة كتلك التي أرستها الصناعة الدولية للمواد الكيماوية في اعقاب كارثة بهوبال، يمكنها ان تمنع سباقاً الى الحضيض في المعايير، وقد ساعدت عملية «التسمية والاشعار بالذنب» المستهلكين على تحميل المسئولية للشركات العابرة للقوميات في صناعة الالعاب وادوات التجميل. وعلى الرغم من ان الناس لا يملكون اصواتاً متكافئة في الاسواق، إلا ان نتائج الازمة المالية الاسيوية ربما قادت الى المزيد من الزيادة في الشفافية من قبل الحكومات الفاسدة تفوق في مقدارها ما فعلته الاتفاقيات الرسمية، ويمكن للاسواق المفتوحة ان تساعد على تقويض السلطة غير الديمقراطية للشركات الاحتكارية المحلية ويقلل من نفوذ القوى البيروقراطية الحكومية المتخندقة وغير المتجاوبة وبخاصة في الدول التي تكون فيها البرلمانات ضعيفة، وعلاوة على ذلك فإن الجهود المبذولة من قبل المستثمرين لزيادة الشفافية والقابلية القانونية للتنبؤ يمكن ان تنتقل عدواها الى المؤسسات السياسية. وبدلا من الاكتفاء برفض حجج المحتجين المصاغة بصورة رديئة، يتعين على انصار المؤسسات الدولية ان يجربوا طرقا لتحسين المساءلة بالشفافية ضرورية والمؤسسات الدولية يمكنها ان تتيح اطلاعا اكبر على مداولاتها حتى ولو بعد حدوثها. ويمكن ان يتم الترحيب بالمنظمات غير الحكومية كمراقبين (كما فعل البنك الدولي) او يسمح لها بالاحتفاظ بملفات تحوي بيانات مقتضبة «مؤازرة للمحكمة» في قضايا تسوية النزاعات في منظمة التجارة العالمية. وفي بعض الحالات، كما هو الحال مع شركة الانترنت للأسماء والأرقام المخصصة (والمسجلة كمؤسسة غير ربحية بموجب قوانين كاليفورنيا)، فإن التجارب مع التصويت المباشر لاعضاء مجلس الادارة قد يثبت فائدته، مع ان خطر وقوعها تحت سيطرة مجموعات المصالح المنظمة جيدا يبقى مشكلة حقيقية. ان المؤسسات الشبكية الهجينة والتي تجمع مندوبين حكوميين ودوليين وغير حكوميين مثل اللجنة العالمية للسدود او مؤسسة جلوبال كومباكت التي يرأسها الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان تعتبر ساحات أخرى للاستكشاف. ويمكن للتجمعات الخاصة بالبرلمانيين ان ترتبط ببعض المؤسسات من اجل عقد جلسات استماع او تتلقى المعلومات، حتى وإن كان الأمر لا يستهدف التصويت. وفي النهاية، لا يوجد جواب واحد للسؤال المتعلق بكيفية التوفيق بين المؤسسات الدولية الضرورية والمساءلة الديمقراطية. قد تكون المؤسسات عالية التقنية قادرة على استقاء شرعيتها من فعاليتها فقط. ولكن كلما زاد تعامل المؤسسة مع قيم واسعة، كلما اصبحت شرعيتها الديمقراطية اكثر صلة بالموضوع. وسيحتاج الناس القلقون على الديمقراطية الى التفكير بجدية اكبر بالأعراف والاجراءات المتبعة من اجل حكم وسيادة العولمة. فلا انكار المشكلة ولا الخضوع للديماغوجيين في الشوارع سيجيب عن السؤال. بقلم: جوزيف ناي _ ترجمة: ضرار عمير عن «فورين أفيرز»

Email