السينما الفرنسية الجديدة.. الأدب والسـياسة يصوغان حرية الإبداع

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

أحدثت رؤى وتوجهات، الجيل الأول من الموجة الجديدة في مجال الفن السابع في فرنسا: " la nouvelle vague "، وذلك كحركة مجددة، ثورة إبداعية متكاملة، أنتجت تطويراً جوهرياً في هذا الحقل، طال الكم والنوع. وتمتد مرحلة تلك الموجة، ما بين عامي 1958 و 1962. كما يشكل قوام تلك الحركة الواسعة، أكثر من 200 مخرج، أنجزوا قرابة الـ 400 فيلم.

 لم تكن مفردات وتوجهات الحركة الجديدة في فرنسا، ضمن حقل السينما، بداية، واحدة ومتجانسة تماماً في ما بينها من حيث الرؤية الايديولوجية والفنية، بل إنها إلى ثلاثة مجاميع رئيسية: جيل عام 1960، مجموعة «الرديف كوش»، التيار الواقعي.. ولكن الأولى: مجموعة «جيل 1960»، برزت من بينها، بشكل رئيسي، إذ يدعمها توجه فكري واضح أسسه نقاد «كراسات السينما":" cahiers du cinmol ".

ويتبدى جلياً، ان الموجة الجديدة تأثرت باتجاهات سينمائية متعددة من السينما الأميركية والإيطالية، وكذلك كان للأوضاع السياسية في فرنسا تأثير بالغ في ظهور هذه الموجة، خاصة عندما وصل ديغول إلى الحكم عام 1958، إذ كان مالرو وزيراً للثقافة آنذاك. وللأدب تأثير بارز على هذه الحركة، وخاصة كل من: سارتر، فرانسواز ساغان، البير كامو.

والحقيقة، فإن الموجة الجديدة تشكل وحدة كلية في كل مظاهرها التاريخية والفكرية والفنية والاقتصادية. وأهم ما في الموجة الجديدة، انها انطلقت كثورة ضد السينما التقليدية.. ومن أهدافها الأساسية: تأسيس سينما فرنسية وطنية، الحرية في التعبير السينمائي.

 منهج وخطى مستقبلية

اطلقت الموجة الجديدة في السينما الفرنسية، كما هو معروف، منذ الخمسينيات من القرن الماضي، وذلك كثورة ضد السينما التقليدية. وتمثلت هذه الحركة الواسعة في الفترة، ما بين عامي: 1958 و 1962، على يد أكثر من 200 مخرج انجزوا ما يقارب الـ400 فيلم، وابرز اولئك المخرجين: فرانسوا تريفو، جان لوك غودار، لوي مال، الن رينيه، اريك روميير، كلود شابرول. وكان ظهور هذه الموجة الجديدة، بطبيعة الحال، نتيجة للأزمة التي اجتاحت السينما، حينها، وخاصة منافسة التلفزيون.

وحملت للفن السينمائي الفرسي والعالمي، الكثير من النظريات والمفاهيم السينمائية التي ساهمت بالتالي، في تطوير السينما العالمية ككل. وبعد إبداعات رواد الموجة الجديدة، واصل مبدعون كثر، اخراج الأفلام التي تتسق مع روحية هذه التوجهات، امثال: تريفو، غودار، مال، وشابرول. ربما نتساءل: ما اللغة السينمائية التي تجمع بين اولئك المخرجين.. وما الإضافة التي قدمها كل واحد من اولئك المخرجين الى السينما؟

فإذا كان هدف الموجة الجديدة اخراج السينما الفرنسية من الأزمة، فهل دخل مخرجوها في أزمة متشابهة، بعد عشرين عاماً من ظهور حركتهم...؟ إن تلك الاسئلة المحورية، نستطيع أن نستقصي دقائقها، ونفهم حقيقة مضمونها، من خلال دراسة نماذج متنوعة في هذا السياق. ومن بينها: (المرأة المجاورة) لفرانسوا تريفو، (حصان الكبرياء) لكلود شابرول.

(اتلنتك ستي) لوي مال، (يهرب من يقدر الحياة) لجان ليك غودار. وتمثل الأعمال، تجسيداً لرؤى اربعة من رواد الموجة الجديدة، ارتبطوا بحركة سينمائية فاعلة.. كما واسهموا بأفلامهم في تحطيم الأسلوب النمطي التقليدي الذي كان سائداً في السينما الفرنسية، بل والعالمية..

ومن ما يزيد في أهمية المخرجين الأربعة، أنهم ارتبطوا باتجاه فكري وايديولوجي، اسسته مجلة (كراسات السينما) التي تعد أول مجلة نظرية سينمائية. ولكن يبقى السؤال، انه، وبعد عشرين عاماً من ظهور أولئك الرواد.. ماذا تبقى من هذه الحركة السينمائية؟ فهل واصل كل من تريفو وشابرول ومال وغودار، المنهج الثوري الإبداعي ذاته، الذي سلكوه في بداية الستينيات من القرن الـ20، أم أنهم نكصوا عنه؟!

 تطوير ونتائج عالمية

يؤكد معظم النقاد أن ظهور الموجة الجديدة في السينما الفرنسية، كان نتيجة للأزمة التي اجتاحت المجال، فرنسياً وعالمياً، وخاصة في الخمسينيات من القرن الماضي، إذ شهدت هذه السنوات، انخفاض نسبة التردد على صالات السينما في كل من الولايات المتحدة وأوروبا.. ومن أسباب هذه الأزمة هي منافسة التلفزيون.

. فهذه الأزمة أثرت بطبيعة الحال، على تركيب الإنتاج السينمائي العالمي، وتولدت الحاجة والضرورة إلى أحداث التغييرات.. إلا أن الإنتاج السينمائي الهوليودي استجاب لهذه الأزمة بتعديلات شكلية على وسائل الإنتاج، فكانت هذه التغييرات تتمثل في ما حدثت في طبيعة التكنيك السينمائي. ولم تمتد إلى تغيير روحية الفن السينمائي ومضامينه الاجتماعية.

وعلى اثر تلك الأزمة، ظهرت نتائج عديدة، على الصعيد الفرنسي، ومنها: الانتاج الضخم للجمهور الواسع، الأفلام باهظة التكاليف، التكنيك السينمائي الخارق، الشاشات الكبيرة «البانوراما»، الصوت المجسم. ويضاف إلى ذلك، بروز سلسلة الأفلام الحديثة التي تعالج موضوعات عالم المراهقة، من خلال تقديم جيل جديد من الممثلين الشباب، أمثال: مارلون بروندو وجيمس دين. ومن بينها خاصة، أفلام الإثارة والعنف.

كما ظهر الفيلم الجاد المستقل عن ذلك الإنتاج الضخم. وأما بالنسبة لهذه النتائج في فرنسا، فتجسدت في أشكال عديدة، إذ ظهرت الاتجاهات العالمية المذكورة، نفسها، ولكن بشكل أقل تعقيداً من ما هو في الولايات المتحدة، متماشية في ذلك مع التقاليد الخاصة بالإنتاج الفرنسي. وأما توجه الإنتاج الأميركي الضخم، فدخل فرنسا عن طريق الانتاج المشترك: الثنائي ومتعدد الجنسيات..

ولكن، أثبتت هذه الانتاجات المشتركة، سطحيتها وعدم عمقها.. إذ إنها لم تفعل شيئاً مميزاً، سوى أنها ساعدت على تحقيق أقصى قدر ممكن من الاستغلال. وفي ما يخص الأفلام المثيرة، ظهر في فرنسا نجوم سينمائية لامعة، مثل: بريجيت باردو، جان مورو، برناديت لافون.. وأما في شان اتجاه الأفلام الجادة المستقلة، فظهرت مجموعة كبيرة من المخرجين الشباب والنقاد، أمثال:

كلود شابرول، فرانسوا تريفو، جاك ايفيت، جان ليك غودار. وكان أول إنتاج يؤرخ للفيلم الجاد المستقل، عبارة عن عمل روجه فاديم :«والله خلق المرأة» في عام 1956. وفي الوقت عينه، برزت الأفلام التقليدية مع النجوم الكلاسيكيين، من بينهم: مورغان، فرنانديل، كابان. وذلك على طريقة النجومية الفرنسة، وإزاء كل تلك الاتجاهات السابقة في الإنتاج الفرنسي، لم يبق سوى الجيل الشاب من المخرجين الذين كونوا مدرسة الفيلم الفرنسي القصير، أمثال: دينيه، فرانجو، ماركر.

وإضافة إلى ذلك، ظهر المخرجون الشباب الذين بدؤوا في السينماتيك «متحف السينما» والنوادي السينمائية، في مقدمهم: تريفو، غودار، شابرول، ورومير. وكان أولئك المخرجون الشباب، ممتلئين بالحماس، وحولوا ذلك الحماس إلى طاقة مبدعة، وهم الذين حددوا السينما الفرنسية، وخاصة في سياقات معالجتها الموضوعات التي لم يطرقها المخرجون السابقون، وبشكل بارز القضايا الجديدة الملتهبة التي تخص الشباب آنذاك: حديثه، أماله، خيبته، علاقاته العاطفية، رسالته الاجتماعية.

 مصطلح وتاريخ

ما بين عام 1958 ـ 1962، ظهر ما يقرب من مائتي مخرج شاب، يخرجون أفلامهم الطويلة الأولى، وهم من شكل وبلور جوهر الموجة الجديدة في السينما الفرنسية، وأيضاً على صعيد العلم. وكان لهم اثر نوعي في هذا الخصوص. وأبرز أولئك المخرجين:

كلود شابرول، فرانسوا تريفو، جان ـ ليك غودار، حام ديفيت، بيير كاسيت، جاك دونيول فالكروس، لوي مال، جاك باراتييه، فيليب دي بروكا، ادوار مولينادور، اريك رومير، مارسيل موسى، جان ـ بيير موكي، ميشيل دراك، جوزيف لسبونا، مارسيل هانون، روبير مينيكوز، والن دينيه. وفي نهاية العام 1958، كرس فرانسواز تريفو، سلسلة من المقالات، نشرها في مجلة "الاكسبريس"، للحديث حول الجيل الجديد من المخرجين الشباب، ووضع أسماءهم تحت عنوان: الموجة الجديدة، ومن هنا ولد مصطلح الموجة الجديدة.

ومنذ ذلك الحين، فإن ظهور أي فيلم أو أي مخرج، بشكل صحيح أو خاطئ، كان يوضع ويصنف تحت خانة: حركة الموجة الجديدة، وفي الحقيقة فإن الموجة الجديدة أول ما ظهرت كحركة نظرية، هو قبل مرحلة صوغ أفلام سينمائية. ونتبين هنا، أنه استفاد المخرج كلود شابرول من ثروة زوجته: شتيفان أودرون، في انتاج فيلمه الأول «سيرج الجميل»، ثم أعقبه بعد فترة قصيرة، كل من فرانسوا تريفو وغودار، اللذين تعاونا في إخراج فيلم «قصة الماء».وفي صيف العام ذاته، أنجز شابرول، فيلمه الثاني «أبناء العم».

وأخرج جاك ريفيت فيلمه الطويل الأول «باريس لنا»، إذ رفض هذا الفيلم، عدد كبير من المخرجين والموزعين، لكن استطاع المخرج إنجازه، بمساعدة من ميزانية مجلة «كراسات السينما» والأجور المؤجلة للتقنين والممثلين.. وفي تلك الآونة كان فرانسوا تريفو يحضر لإخراج فيلمه الأول «400 ضربة»، كما بدأ المخرج لوي مال، التحضير لفيلمه الثاني «العشاق»، ذلك بعد إنجاز فيلمه الأول «سلم لمنصة الأعدام». ومن جهة أخرى، أخرج بيير كاست، بنجاح، فيلميه :

«الحب في الجيب» و«العمر الجميل». وبعدها سافر المخرج رينيه إلى اليابان كي يصور فيلمه «هيروشيما.. حبيبتي». واستطاع عدد من المخرجين الشباب، ان ينجزوا أفلامهم الأولى، خارج إطار مجموعة «كراسات السينما»، في عام 1958.

ولا شك في أن نجاح بعض أفلام الموجة الجديد، كان سريعاً للغاية، إذ عرض فيلما: «سيرج الجميل» و«أبناء العم» لكلود شابرول، في قاعتين للسينما في الشانزليزيه في باريس. وكذلك قدمت أفلام روجيه فاديم الثلاثة: «لا تعرف ماذا يحدث» و«بائعو المجوهرات في ليلة مقمرة» و«العلاقات الخطيرة»، والتي حصلت على شهرة سريعة.

وأما لوي مال، فتتبع في فيلمه «العشاق»، صورة امرأة عصرية، تحطمها الحضارة الحالية، وتجد أخيراً، الحرية في الحب «الممنوع»، وهكذا تثور ضد التقاليد والقيم الأخلاقية البرجوازية. ومثلت هذا الدور: جان مورو، التي تترك، في قصة الفيلم، زوجها وابنتها، لتلحق بالإنسان الذي احبته.. ونجح مال في خلق سمفونية عاطفية، في العمل، ضد كل التقاليد، وهو ما مثل انتصاراً لروحية الشباب على القيم البرجوازية.

 ارتداد أم تثوير؟

استطاع غودار، نوعاً ما، أن يحطم الأسلوب الروائي التقليدي في السينما الفرنسية. فمن خلال الرواية، طرح نمطا جديداً من الأسلوب السينمائي المبني على المونتاج والتقطيع والمخاطبة المباشرة للجمهور.. وذلك خاصة في فيلمه الأخير (يهرب من يقدر - الحياة)، إذ نجده يعمّق الأسلوب ذاته، فيحذف المسافة بين نقل الحياة والحياة نفسها. ويبني غودار فيلمه، على أربعة أجزاء مرتبطة ببعضها: الخلل، الخوف، التجارة، الموسيقى. كما أنه يربط أحداث الفيلم بحبكة لقاء الشخصيات ومفارقاتها في الحياة.

وأيضاً، يلجأ إلى تقنية ايقاف الصورة وتحريك الفيلم، كادراً تلو الآخر، كي نرى حركة الحدث. ويقول غودار حول هذه التقنية: «تثبيت الصورة كان الهدف منه، منح نفسي والمتفرج، وقتاً للتأمل، بواسطة تقنية من نوع جديد تتيحه السينما والتلفزيون.

ان التوقف امام بعض الصور يشبه إلى حد ما، توقف الطبيب امام صورة اشعة أو رسم بياني لضربات القلب». ويعد فيلم غودار ذاك، عملاً سينمائياً جديداً لكل الانتاج السينمائي الفرنسي، حتى إنه يختلف عن باقي افلامه. وهو يصف عمله الأخير هذا، بأنه بدايته الثالثة، إذ ان الأولى بدات عندما كان يحلم بالسينما، والثانية هي مع أول افلامه الروائية. وبالرغم من روعة افلام غودار، إلا أنها تلاقي الفشل التجاري، وهذا طبيعي لأنها لا تنطلق من المفاهيم السائدة وطرق التفكير المعتادة، وعلى حد قوله: «تاريخ متصل من الفشل.. انا المخرج السينمائي الوحيد الذي لم يحقق أي من أفلامه نجاحاً تجارياً».

ولكنه، مع ذلك، يواصل منهجه الراسخ في افلامه، والمتمثل في خلق اشكال الجديدة لم يتعودها المشاهد. وفي فيلمه الأخير تحاول كل شخصية من شخصيات العمل، التعبير عن نمط حياتها.. ويمكن ان تؤخذ كل شخصية على حدة، وفي الوقت نفسه، تتقاطع هذه الشخصيات بعضها بالبعض الآخر.. وتمارس تأثيراتها المتبادلة. كما تدور احداث الفيلم بين المدينة والريف. وبذلك يلقي غودار الضوء على العلاقات الاجتماعية، في كلا المحيطين.

 مال .. المجتمع الأميركي

ارتحل المخرج لوي مال فقد، إلى أميركا، ليس كزائر، وانما كمخرج لأفلام تعالج مشكلات المجتمع الأميركي المعاصر، وكان سفره إلى أميركا جزءاً من المغامرة ولذة الاكتشاف، على حد قوله، علاوة عن كونه مغامرة تخوض الرهان ضد نفسه شخصياً، كما يؤكد.

ويضيف مال: «كل فيلم من أفلامي هو عبارة عن رد فعل ازاء فيلم سابق. لهذا السبب قررت الرحيل إلى أميركا، ليس كزائر عابر، لأن الزائر لا يستطيع ان يعمل في السينما. ومن الصعب إخراج الأفلام في أميركا، لكني أحب الرهان ضد نفسي».

ونجد أن مال نجح في هذا الرهان، من خلال فيلمه (الصغيرة)، الذي يصور فيه حياة بنات الليل في الحي الفرنسي نوفيل أورلينز. وفي فيلمه الأخير، يواصل المخرج، المنهج عينه، متعمقاً في الكشف عن الوجه الخفي للحياة الأميركية. ونرى ان (اتلنتك ستي)، تتحول في رؤية لوي مال، إلى صورة غريبة ورمز للرأسمالية المشوهة.

فالمال يحطم تقاليد هذه المدينة العريقة، حيث تبدأ المخدرات بالظهور. وتصبح شائعة كالحلوى، في أحياء المدينة. ويقول مال: «المدينة مكان باروكي غريب، يدهشني ان تسود اغلب الظواهر المعاصرة، لهذا السبب، استحضر المدينة بصرياً، كما يقول.

وفي كل مشهد من مشاهد الفيلم، نرى عمالاً يشيدون ابنية جديدة، واغلب الأبنية العريقة الكلاسيكية تتحطم تحت اسنان البلدوزرات. ويصنع مال من اتلنتك ستي مدينة مضمخة ومتلونة بطعم بأساطيرها وشخصياتها وامالها الضائعة، وكذا بالحرارة وبالصدق. ولكن مال يقول في هذا الصدد: «قبل كل شيء، اتلنتك ستي في نظري، مدينة أميركية غريبة، وأردت ان اعرض حياتها. صحيح أنني ذهبت إلى أميركا، لكني لا أشعر بأني أميركي، إنما أنا مجرد مراقب».

 شابرول .. سلوك البرجوازية

يقدم المخرج كلود شابرول، آخر افلامه (حصان الكبرياء)، في صيغ حوارية سينمائية فريدة. وهو مقتبس عن رواية شهيرة بالعنوان نفسه، ـ لبيير - جاكيز هيلياز. وتدور أحداث الفيلم، حول التغييرات الاجتماعية التي حلت في الحياة الريفية لمنطقة «بريتون» الفرنسية في بدايات القرن الماضي.

ولعل أهل ما في فيلم شابرول، انه ينقل إلينا، تاريخ منطقة تكاد تكون مهملة. ونتبين أن شابرول، وفي معظم افلامه، يقدم عادة، تحليلات للبرجوازية الفرنسية، ولكن هذه المرة (في فيلمه الأخير: حصان الكبرياء)، انتقل إلى شعب بريتون، بخياله وشعره وحكاياته، لا بعقلانيته وجنونه.

ويقول شابرول في هذا الشأن: «خصصت اكبر جزء من الفيلم لفانتازيا هذه المنطقة، فثمة أشياء ساذجة ولا معقولة تمتد إلى العقل اللاواعي للجماعة. وهذا اصعب ما يمكن استخراجه، اذ توجد عند اولئك الناس، مشاعر حادة للموت. آمل أن أكون قد نجحت في اعادة بناء كل هذه الفانتازيا.. الرائعة والرهيبة».

ويعرض شابرول الفيلم، من خلال حكايات القرية، وخاصة شخصية الجد. اضافة إلى شخصية الراوية في القرية. واستقى المخرج ايقاع العمل، من الحياة اليومية لسكان المنطقة. ويحكي عن هذه الجوانب: «الرواة في منطقة (بريتون)، وخاصة شخصية الجد، لهم احساس مسرحي رائع. في هذه المنطقة رأيت أنماطاً معديدة لهم..

اختفى الآن كل ذلك بسبب ظهور التلفزيون. والفيلم بأكمله عبارة عن قصص يرويها الرواية.. انها اشبه بحكايات (الف ليلة وليلة)". وينقل لنا شابرول، بحساسية عميقة، كل تقاليد الزواج وطقوس الموت. وحالات الوداع، وكذلك حياة البؤس في القرية. بما فيها من شخصيات هامشية معذبة، تفضل الانتحار على الحياة. وهكذا نجد أن (حصان الكبرياء) عبارة عن قصيدة "اثنولوجية" وغنائية في ان واحد، تكشف عن الغنى الفولكلوري والاجتماعي لهذه المنطقة .

 «المرأة المجاورة»

عاد فرانسوا تريفو، بزخم تأثير كبير، متسلحاً برؤى الموجة الجديدة، وهو احد أهم روادها، بعد النجاح الذي حققه في فيلمه (المترو الأخير)، من خلال فيلمه الأخير "المرأة المجاورة"، إلى حكايات بدايات الموجة الجديدة سواء على صعيد التقنية أو الموضوع. و (المرأة المجاورة) هو الفيلم العشرون في قائمة الافلام التي أخرجها تريفو.

واللافت في مسيرته، أن استقلاليته الاقتصادية، منذ تأسيسه لشركة (افلام كاروس)، منحته هامش حركة كافية وواسعة، في طرح الموضوعات التي يختارها، دون الخضوع إلى سلطة المنتج. والمدهش في الأمر، ان تريفو يعالج موضوع الحب في عشرة من افلامه، من دون ان يستنفذ هذه الطاقة، الا انه يصل في (المرأة المجاورة)، إلى ذروة الكمال الفني. إذ يبتعد كثيراً عن الغنائية المفرطة، التي سادت افلامه السابقة.

نجد، من خلال عرضنا لآخر نتاجات اولئك المخرجين، ان كل واحد منهم، يخرج افلامه ويختار موضوعاتها بطرق مختلفة.. فغودار يتجه إلى الفيديو والتلفزيون.. ولوي مال يغادر إلى أميركا ليكشف عن تناقضات ذلك المجتمع.. وشابرول يلجأ إلى الفولكلور والأساطير.. وتريفو يعود إلى موضوعه الحب والسرد الأدبي. وعلى أية حال، تبقى افلام اولئك المخرجين، متميزة من بين ركام الأفلام الفرنسية الذي وصل الإنتاج فيها، معدل انتاج فيلم يومياً.

 غودار .. مبدع الموجة الجديدة

ولد صاحب الموجة الجديدة، المخرج جان ليك غودار. في باريس عام 1930، وبعد أن بدأ دراسته الثانوية في مدينة نيون السويسرية، مسقط رأس والديه، قدم إلى باريس ونال شهادة في علم الاثنولوجيا (علم السلالات) في جامعة السوربون.

وكان غودار هاويا كبيراً للسينما، يلازم باستمرار، السينماتيك الفرنسية، ولم يلبث ان اسس في عام 1950، مجلة (السينما)، التي لم تتجاوز عددها الخامس، وبعد عامين انتسب إلى مجلة (كراسات السينما)، حيث كان مع مجموعة، حول الناقد النظري اندريه بازان، وكوكبة من النقاد والمخرجين الشباب امثال:

فرانسوا تريفو، اريك رومير، وجاك ريفت. ولم يلبث غوادر، ان باشر العمل السينمائي في عدة أفلام قصيرة، أهمها (عملية البيتون)- 1954، (امرأة مدللة)-1955، (كل الصبية اسمهم باتريك)- 1957، (قصة ماء) -1958، (شارلوت بدون جول)- 1959.

وفي الحقيقة، فإن غوادر، في فيلمه الأخير، شأنه في ذلك شأن افلامه جميعاً، يتحدث عن نفسه: عن ذاته وتجاربه واحاسيسه، وعندما يتحدث عنها، فذلك يعني انه يتحدث بالضرورة عن السينما، كونه بحق، رائدا من رواد سينما- المؤلف. تلك السينما التي شحنت بطاقات شخصية ابداعية ميزتها عن ركام الأفلام المنتجة في فرنسا والعالم. ولكن، بماذا يا ترى يتحدث لنا فيلمه (احييك.. يا مريم)؟

نتعرف في هذا الفيلم، على ان غودار، كان يعمل ويفكر في هذا العمل، منذ زمن طويل. وهذه المسألة تتركز في اختيار المخرج للصورة والصوت في التعبير عن خلجاته، ذلك قبل أن يحقق غوادر فيلمه الأخير، إذ انصب اهتمامه على الصوت والموسيقى والضوضاء والصمت.

فاذا ارهفنا السمع للشريط الصوتي الذي يتخلل الفيلم، ندرك ان للتكوين الصوتي، مؤثراته وتأثيراته في الاستنتاج الأخير للفيلم، وكذا ما يطرحه من احاسيس ومشاعر، فهي احياناً تزعج المشاهد، وربما توقظه من سباته العميق.

ولكن بعض النقاد يرى أن غوادر لم يستطع اقناعنا بكل ما يطرحه. فاذا نجح في ذلك في اعوام الستينيات من القرن الـ20، فإنه الآن في منأى عن تلك القدرة: قدرة الصورة على الاقناع، وذلك رغم انه التجأ إلى جمالية الصورة الثابتة، وتداعياتها في ذهن الشخصية الرئيسية في الفيلم.

وهكذا يصبح غوادر اسير الصورة التي تسيطر على ذهنه، دون ان يعطي للحركة اهمية تذكر. ويوضح النقاد هنا، انه يمكننا القول بأن الصورة لدى غوادر، عبارة عن خلاصة صور بدائية ساكنة، تشبه الى حد ما صورة البوسكارت، الخالية من الروح والحركة والإيحاء.. ففي فيلمه السابق «الاسهم كارمن» لجأ إلى التصوير المتفرد لكل من الروح والجسد. ولكنه في «احييك...» لا نجد لديه سوى الشخصية، جسداً وروحاً، ولكن بشكل بارد يبعث في احيان كثيرة، على اختلاط وفوضى تركيب الفيلم.

 

Email