رواية لمارغريت يورسنار حولت فيلماً «الخيمياء السوداء»..

إسقاطات روائية في لبوس سينمائي

ت + ت - الحجم الطبيعي

جاءت فكرة إعداد رواية الكاتبة البلجيكية، مارغريت يورسنار الخيمياء السوداء للشاشة، عام 1987م، من قبل فيليب دوسار الذي أنتج لعدد من المخرجين الطليعيين، أمثال: آلان روينيه وبيرنارد بلييه وميشيل ديفيل. لكن ظلت مشكلة إقناع الكاتبة، آنذاك، تحول دون تحقيق الفكرة فترة طويلة، لأنها لم تكن متحمسة للسينما..

إلا انها اقتنعت في نهاية الأمر، بعد مناقشات مستفيضة مع مخرج الفيلم. وكان لافتاً مواظبة الروائية على حضور تصوير الفيلم، حينها, ومن ثم لم تتمكن من مشاهدته، إذ توفيت في ال 17 من شهر ديسمبر عام 1987.

 

ترجمت رواية الكاتبة البلجيكية، مارغريت يورسنار، المكتوبة باللغة الفرنسية :«Loeuvre Noir»، إلى العربية، في البداية، تحت عنوان خاطئ: العمل بالأسود ولكن الترجمة الصحيحة لعنوان الرواية- والفيلم : «الخيمياء السوداء». ويعود استخدام هذا التعبير إلى المراحل الأولى من مراحل تطور الخيمياء التي ارتبطت بالسحر والغموض، من خلال تحويل المعادن الرخيصة إلى أخرى نفيسة.

ولهذا فإن أحداث الرواية والفيلم، تدور حول شخصية زينون، الخطيب والكيميائي والفيلسوف، عاكسة كفاحه العلمي في القرن السادس عشر، عصر انتشار محاكم التفتيش في إسبانيا وامتداده إلى عموم أوروبا. وتبين كيف ظل العالم زينون، متجولا وملاحاً، قرابة ثلاثين عاماً، في كامل أوروبا، وذلك من أجل نشر مبادئ العلم..

ولكن الحنين إلى الوطن جعله يسافر إلى موطنه الأصلي في مدينة بروج البلجيكية، مختفياً تحت غطاء اسم مزيف. وتحكي أحداث الفيلم( الرواية أساسا)، كيف أن طبيعته كطبيب، وروحه المتحررة، تقودانه إلى أن يمّد يد العون إلى الثائرين في عصره، لكن أمره ينكشف في موطنه، فيرفض الاختفاء هذه المرة، ويرفع القناع عن هويته الحقيقية، فيقع في يد السلطة، كاشفاً بكل جرأة، عن كتبه وأفكاره وتجاربه العلمية، من دون أن يهاب عقوبة «الحرق»! إلا أنه يقرر أن ينهي حياته بنفسه في إحدى ليالي فبراير القارسة، حين تتساقط الثلوج على مدينته التي أحبها!

 

بين الماضي والحاضر

كما هو واضح من عنوان الفيلم، فإن الروائية يورسنار، استوحته من المعادلة القديمة «الخيمياء»، التي تفسر مرحلة تحليل وذوبان المادة التي تعتبر الجزء الأصعب من العمل الكبير للكيميائيين. وهذا التعبير يمكن استخدامه في مجال تجارب المادة، وبشكل رمزي على التجارب النفسية والروحية، لذا نرى أنه يبرهن كيف أن التجارب العلمية في مجالات الكيمياء والمطابع، شكلت ثورة كبيرة في القرن السادس عشر.فمخرجه، البلجيكي أندريه ديلفو.

والذي شدته الرواية، لم يركز على إعادة التركيب التاريخي للمرحلة بحذافيرها، بل فضل استخلاص جوهر العمل الأصلي وإلقاء الضوء على شخصية زينون، والذي لم يصوره كشخصية تعود إلى القرون الوسطى، بقدر ما يمثل شخصية بطل من زماننا، تلاحقه السلطة بسبب أفكاره وتجاربه العلمية الرائدة. وكان ديلفو قد خاض مغامرة كبرى، تجسدت في إعداد أصعب رواية لمارغريت بورسنار على الشاشة:

(موضوع الفيلم:الخيمياء السوداء). ولكن العمل حقق نجاحا فريدا، وغدا يمثل حدثاً سينمائياً ضخماً لأسباب عديدة، منها:ان السينما البلجيكية شقت طريقها إلى العالمية من خلال اعداد هذه الرواية( خصوصاً بعد فترة قصيرة من رحيل الكاتبة)، عد مغامرة جريئة خيضت مع هذه الرواية ورموزها المتشعبة. ومن المعروف أن معظم أفلام ديلفو، مثل:

«الفاتنة» و«امرأة بين كلب وذئب» و«الرجل ذو الرأس الحليق» و«ليلة.. وقطار»، تمثل حدثاً سينمائياً، من خلال امتلاكها مواصفات البحث السينمائي الجاد. إلا أن ذاك الفيلم كان بنكهة وطعم نوعيين. وعن صعوبة إعداد الرواية إلى الشاشة، يقول المخرج البلجيكي:

«أعتقد أن كل فيلم ينبغي أن يكون عملا قائماً بحد ذاته، يجاهد فيه المخرج لتحقيق التميّز. ومن المؤكد أن هذا الفيلم الذي ضمّ أفضل ممثلينا، وأميز تقنيينا، على الصعيد الأوروبي، لا بد أن يكون إنتاجاً مهماً. إنه نوع من السيطرة على العمل الفني. لكن أهميته تكمن في اعتماده على رواية كاتبة بارزة، مثل مارغريت يورسنار، بل وأفضل أعمالها».

 

رفض فقبول

كان عدد من المخرجين، قد أراد نقل عملها الروائي ذاك، إلى الشاشة، أمثال المخرج الألماني فولكر شلوندورف، الذي أعد روايتها بعنوان على الشاشة: «رصاصة الرحمة». لكن الكاتبة أبدت، عندها، جملة اعتراضات وملاحظات، رافضة تحويل عملها الى عوالم الفن السابع. ولكن.. يبقى السؤال:

كيف تمكنت من التغلب على هذا الحذر والنفور، لاحقاً؟ تعود هذه المحاذير إلى عشرين أو خمسة وعشرين عاماً خلت، قبل تلك الفترة. فالكاتبة أكدت، أن الفيلم المعد عن روايتها المذكورة، نجح على صعيد التقنية، إلا أنها لم تستحسن لا المناخ ولا العقلية، لقناعتها بأن شلوندورف ابتعد كلياً عن روح الرواية.

لم تهتم مارغريت بالسينما.. ولم تكن تشاهد الأفلام.. ذاك لأنها، على ما يعتقد المخرج ديلفو، ترتبط كانت كلياً بطريقة حياتها وأعمالها، ولم تجذبها الوسائل السمعية البصرية، ولكنها حين قرأت رسالة المخرج البلجيكي، الطويلة.

والتي شرحت دوافعه لإخراج الرواية، أجابته بحرارة وايجاب. فكان هذا بمثابة لقاء فنان بكاتبة، إذ أراد المخرج أن يذهب إلى عمق الأشياء، نابشا في صلب تفكير شخصية زينون، وكذا اعتزم تطوير الجانب التقليدي الاستعراضي للفيلم، أي الجانب التراجيدي أو التاريخي، من خلال شخصية زينون التي أعطته حرية كاملة.

 

ثمن النهضة

ومن ما تقوله، مارغريت ، في وصفها لموضوع الرواية، ولسمات شخصية بطلها، عارضة لمختلف الرؤى فيها: إن زينون هو نحن .. لأنه شخص ضد الامتثال، في القرن السادس عشر، عصر انتشار محاكم التفتيش وعصر التحولات الكبيرة التي قادت إلى الإصلاح...».

 

ثلاثة سيناريوهات

ثمة نقاط تشابه بين زينون في الرواية، وشخصيته كبطل في فيلم المخرج ديلفو: «الرجل ذو الرأس الحليق».. إنه رجل نتتبع مصيره حتى النهاية، في مخاض من المعاناة والصبر والجلد. وكان قد اعد المخرج أندريه ديلفو، ثلاثة سيناريوهات للرواية، إلى الشاشة، وهي:«موعد في لبري» و«بينفينوتا» و«الخيمياء السوداء».

ويقول: أعتقد أن تناول رواية مهمة تعطيك أساساً قوياً للعمل السينمائي. . وعلى الأقل، ثمة اطمئنان على حيوية الموضوع.. ولكنك حين تكتب، فأنت تذهب لاكتشاف العالم؛ وبهذا ينبغي أن تعبر غابة كبيرة.

وعن مدى المطابقة بين الفيلم الخيمياء السوداء والرواية المشار إليها، وهي المسألة الجوهرية، التي تناقشها الدراسات السينمائية، يقول المخرج:أعتقد أن الفيلم قريب من روح العمل الأصلي، إذ تمكنت من أن أروي جوهر العمل الروائي، المتمثل في أن هذا العالم الخيميائي، طيب القلب، لوحق في أوروبا، بسبب أفكاره وكتاباته، فعاد إلى موطنه الأصلي، تحت غطاء اسم آخر، حتى قبض عليه. ومن ثم يحاكم، ولكنه قرر مصيره في نهاية المطاف. ويضيف:

«ركزت على عنصر التوتر والترقٍّب الذي يقود زينون إلى حتفه.. ويكفي أن نغيّر بعض الكلمات والتواريخ، لكي نقرأ في مصير إنسان مطارد.. تاريخ بطل من زماننا، تلاحقه السلطات، بسبب عدم امتثاله السياسي، ونحن نعيش الفكرة في يومنا هذا، لذا فإن زينون هو نحن..

وجذبني الأسلوب في النص الروائي، كي أحوله فيلما، لأنه ضد التيار المستخدم في الأدب حالياً، ولا يجري ضمن الاستعراض السمعي البصري، بل تركت الكاتبة، العنان لخيال القارئ، بغرض بناء الأحداث. ولعل أهم ما جذبتني في الرواية، مجموعة القيم التي تطرحها في ميدان الطب والخيمياء والفلسفة.

إضافة إلى أن بنية الرواية ذاتها، وخاصة الحوارات الفلسفية التي تضمنتها الرواية. . حسب قناعتي، الفيلم يعكس النمط الرومانسي وليس النمط السيمفوني، لذا طلبت من الموسيقار فريدي ديفريس، أن يكتب لي موسيقى تكميلية أكثر بساطة، مستخدماً الآلات المنفردة، كي يتسنى لي مزجها مع مادة موسيقية أخرى».

 

سيرة استثنائية

 

ولدت مارغريت يورسنار، في العاصمة البلجيكية، بروكسيل، في العام 1903، من أب فرنسي وأم بلجيكية، وهي إذ ترعرعت في فرنسا، عاشت معظم حياتها في الغربة، في إيطاليا وسويسرا واليونان، ثم في أميركا الشمالية، حيث عاشت سنواتها الأخيرة في ماونت ديزرت، الجزيرة الصغيرة، الواقعة قرب سواحل الشمال الشرقي في الولايات المتحدة.

وهناك توفيت في العام 1987، بعد سبعة أعوام من انتخابها عضواً في الأكاديمية الفرنسية، وبعد سنوات قليلة من إنجازها كتاباً حول انتحار الكاتب الياباني يوكيوميشيما. ورواية «الخيمياء السوداء» تحتل مكانة أساسية في سلسلة رواياتها وكتبها، التي من أشهرها: «مذكرات ادريان، الكسي أو موضوع المعركة العبثية.

 

 

 

عصر النهضة والشرق

 

تعد الرواية، التي قدمت على شاشة السينما، من بطولة الإيطالي جيان ماريا فولنتي، أساسية في مسار مارغريت يورسنار الكتابي. فهذه الكاتبة جمعت فيها، اهتماميها الرئيسيين: عصر النهضة والشرق. وتمكنت من التوليف بين مبدأ العقل ومبدأ الترحال (كصنوين لا يفترقان منذ العصور الإغريقية)، حيث لا يكون المفكر جديراً بهذا اللقب ( الخيميائي)، إلا بعد أن يتجول في بلدان العالم، ويختلط ليدرك كم أن الإنسانية واحدة.

Email