قلق مصري تجاه حرية الإبداع

ت + ت - الحجم الطبيعي

ليست تكنولوجيا العصر وحدها هي التي صرفت الناس عن إبداعات الكتَّاب، ولا الحالة الاقتصادية وغلاء أسعار الكتب، وحدهما، سبب عزوف الناس عن القراءة.. ولكنّ هناك جانباً مهماً لدى الكتَّاب أنفسهم، وهو افتقادهم الحرية والتميز اللذين كانت عليهما إبداعات السابقين، سواء في العصور العربية السابقة، أو حتى في العصر الحديث، أيام المازني والعقاد وطه حسين وإحسان عبدالقدوس وغيرهم من جيل المبدعين.

 

 

كثيرون يتساءلون، حاليا: أين نحن الآن من زمن الإبداع الجميل؟ وهل اختلفت حرية الإبداع بين الماضي والحاضر؟ هذا ما نتعرف إليه عبر السطور التالية.

 

لماذا..؟

يقول الدكتور محمد عبد المطلب، الناقد الأدبي، والأستاذ في كلية الآداب- قسم اللغة العربية، في جامعة عين شمس بمصر: لا مقارنة بين حرية الإبداع في الماضي والحاضر، فمساحة الإبداع قديماً كانت غير محدودة، واستطاعت أن تقدم الكثير للأدباء، ومن ثم كان من الطبيعي أن يتحدث المبدعون آنذاك، في كل القضايا الدينية والفكرية والعقائدية، وليس أدل على ذلك من ديوان أبي نواس وكذلك المتنبي، بالإضافة إلى مناقشات المعتزلة التي ناقشوا فيها المسائل الإلهية، فكلها تشهد على مساحة الحرية الكبيرة آنذاك على عكس الحصار الذي يعانيه المبدعون الآن.

ويضيف عبد المطلب: «لا شك أيضاً في أن اللغة العربية آنذاك، كانت نبراس الأدباء وقنديلهم، فتلك اللغة استوعبت أسماء كثيرة، وفتحت لهم المجال للعمل والانتشار والشهرة.. ولكن هذا كان في الماضي، قبل أن تتأخر اللغة العربية الآن، على أيدي كتاب الأغاني الساقطة والمبتذلة، فمناخ الإبداع الذي أفرز ديوان أبي نواس، ذلك الذي تحمس له الجميع في الماضي، أفرز الآن دواوين تختنق من وطأة الجهل والتعسف وعدم المعرفة الحقيقية بحقيقة الإبداع".

ويدلل عبد المطلب على رأيه بقصيدة "شرفة ليلى مراد" للشاعر حلمي سالم: "قابلت تلك القصيدة هجوما شديدا، فعندما قال سالم (إن الرب نزل الشارع لينظم المرور)، لم يقصد الرب بمعنى الإله، وإنما استخدم كلمة الرب بمعنى الرئيس أو الزعيم أو الملك، والذي أراه هنا أن الحجة والبرهان هما الدليل على الصواب والخطأ، ويجب أن تناقش كل الموضوعات بحرية تامة، كما كان يحدث في الماضي.

ويواصل:" لعلي أذكر حادثة معروفة وقعت في زمن الخليفة عمر بن الخطاب، وهي أن هناك شاعرا يسمى أبو محجن الثقفي، قال بيتا من الشعر يقول فيه.. (ولست عن الصهباء يوما بصابر)، فأمر عمر بن الخطاب بإقامة الحد عليه، وذلك على أساس أن الشاعر اعترف بمعاقرته للخمر، فذكر له علي بن أبي طالب ما أتى في سورة الشعراء في القرآن الكريم، والذي يفيد بدحض هذا الحكم بإقامة الحد. وهنا توقّف عمر عن المضي بقراره".

ضرورة

يؤكد عبدالمطلب ضرورة أن نتعلم من القدماء كيف نحترم الإبداع، وكذلك أن نفرق بين إبداء الرأي والحكم؟

فإبداء الرأي مباح، حيث إذا قرأت نصا شعريًا أو شاهدت فيلما، فأقول هذا رديء أو جيد. أما إصدار الحكم فيجب أن يكون قائما على أساس ولا يكون لكل من هب ودب، لافتا إلى أن معظم النقاد القدامى رفض محاصرة الإبداع والمبدعين، وهو ما يجب أن يسير عليه نقاد اليوم.

 

مراحل الإبداع

من جهته، يرى الشاعر، الدكتور حسن فتح الباب، أن الإبداع في مصر مر بمراحل عديدة، ففي عصر الملكية؛ أي في القرن العشرين، كانت هناك مواهب فردية، وكان هناك أعلام مثل المازني والعقاد، وغيرهما كثيرون يتصدرون المشهد الثقافي، بينما كان عامة الشعب يعانون الجهل والأمية. ويتابع: «لا شك أيضًا في أنه، في العام 1947 كانت هناك موجة مزدهرة من الشعر على يد بدر شاكر السياب ونازك الملائكة، وبعد اندلاع ثورة يوليو كان هناك مناخ مناسب لظهور مواهب أدبية وإبداعية في القصة والمسرح والشعر ..

أما الآن فنحن نمر بفترة مخاض، ولا تزال هناك هوة سحيقة بين المثقفين والشعب، حيث تقف الأمية، والتي تصل نسبتها إلى نحو 30 بالمئة من تعداد المصريين، عائقا أمام الإبداع الأدبي الحقيقي، بينما في الخارج، فإن الجميع يقرأ؛ ولذلك لديهم رؤية واضحة للعلم والفن والإبداع». ويشير فتح الباب إلى أن حرية الإبداع لابد أن تكون مفتوحة، إلا أنها محاصرة حالياً بضوابط الفهم لماهية الإبداع ومكنون الحرية الحقيقي.

 

معارك فكرية

يلتقط الناقد، الدكتور عبد المنعم تليمة، طرف الحديث. ليعقب: «الحوار الأدبي وأدواته، تأثرا الآن بحرية الإبداع، ففي الماضي كانت هناك معارك فكرية راقية، فكان الشيخ محمد عبده من الذين قادوا الفكر والعلم في زمنه، وكان هنالك أيضا الفلاسفة الغربيون والمفكرون الشوام والعراقيون.. كانت توجد مساحة من الحرية أتيحت لهم.

وفي الماضي ظهر أحمد لطفي السيد وسلامة موسى والعقاد، وتعلمنا منهم الكثير، إلا أن الحوار الأدبي تعثر في النصف الثاني من القرن العشرين، فقد حدثت هيمنة للأنظمة المستبدة، وهنا الحوار فقد ماهيته ونال المثقفون والكتاب الشيء الكثير من القهر والمصادرة والمحاصرة، إلا أننا بدأنا نستعيد العافية بشكل متوهج مع الربيع العربي، خصوصا في مصر، فالآن تجري في مصر أوسع دائرة للحوار في الحاضر واستشراف المستقبل.

عصر ظلامي

بدورها، تقول الشاعرة فاطمة ناعوت: "كل المؤشرات تشير إلى أننا على أعتاب عصر ظلامي، ربما يعيد إلى الأذهان ما حدث في أوروبا في القرون الوسطى، والتي كفر فيها رجال الدين الكاثوليك العلماء والمبدعين وحملة مشاعل التنوير، وفي الستينات من القرن الفائت كانت مصر على أبواب الظلام والجهل حين استفحلت الجماعات الجهادية فيها وترك الحاكم هؤلاء المتطرفين يفرضون آراءهم على حرية الإبداع في مصر، وخرجوا من المعتقلات ليمارسوا قهرهم هذا على المبدعين.

وتتابع ناعوت:" الآن يتكرر المشهد نفسه، فإذا كان الرئيس المصري محمد مرسي الذي قال إنه لا يقصف في عهده قلم، ولن تغلق قناة، هو ذاته الذي يقصف الأقلام ويفتح السجون ويغلق القنوات الفضائية، فقهر المبدعين سيظل مستمرا، ويكفينا أن ذكرى وفاة الأديب العالمي نجيب محفوظ الأخيرة مرت مرور الكرام دون أن يهتم بها أحد، وكان يجب أن ينعيه الرئيس ذاته، على غرار رؤساء الدول الأوروبية الذين ينعون مبدعيهم الكبار!,لإيمانهم بأن المبدع ضمير الأمة ومشعل قنديلها.

وأنا أهيب بمبدعي مصر ومثقفيها ألا يصمتوا على هذا التطاول وتلك البذاءات التي يطلقها الجهلاء، وعليهم أن يقفوا في النور ويهدموا معاقل الظلام.

لا ينكر المبدعون العرب، في وقتنا الراهن، أن نظراءهم في القديم، وضمن مختلف مراحل الحضارة العربية والإسلامية، عايشوا وخبروا بعض أنواع التضييق والمحاصرة لحرياتهم وأفق عملهم الإبداعي.

ولكنهم يؤكدون أن تلك المناخات، ومهما كانت تبلغ من القسوة والحدة، لم تك لتفلح في تكبيل أطر العطاء، وإخفاء موهبة الكاتب، أومنع أية أفكار خلاقة مجددة من الظهور والقدرة على التأثير في حياة المجتمع.

ويستشهد أصحاب هذا الرأي بجملة أعمال مهمة ونوعية، تعرضت للمحاربة، إلا أنها لم تختف أو تزول، أو حتى أن أصحابها لم يستسلموا أو يقهروا، ليغيبوا خلف الكواليس بفعل التعرض للمنع والإرهاب الفكريين. ومن أمثلة ذلك، حسب ما يقولون: ابن رشد وأعماله، طه حسين وأعماله، نجيب محفوظ وأعماله.

 

نمط جديد

غدت أشكال الرقابات الرسمية، إطاراً مانعاً تقليدياً، بالنسبة للكثير من المثقفين والمبدعين المجددين، فهؤلاء، وطبقاً لما يقولون، باتوا يحسبون أكبر الحسابات، لا للرقابة الحكومية، بل لمساقات وأنماط الرقابة الفكرية المجتمعية المقنعة الرافضة لأي فكر نهضوي تحديثي، تحت مسمى وقناع، صون التقاليد وحفظ التراث.

ولذا أمست حروب المفكرين العرب، حالياً، مجيرة في اتجاه ميداني نزاعي الطابع، ذلك كون رؤاهم لم تعد محط نقاش ودحض فكريين فقط، بل غدت شخوصهم محط اتهام وهجوم، مادي أو معنوي، نتيجة رأي ما أو فكرة أو كتاب.

وأخذوا يخافون طرح أية رؤى نهضوية مغايرة لسيرورة الأفكار التقليدية، تحاشياً لأية مواجهة، أو اتهامات أصبحت تطال، في بعض الأحيان، المسائل الإيمانية، ذلك بفعل تكفيرهم وتخوينهم، والتعريض بهم في مختلف الميادين.

إن دراسات عربية كثيرة، صدرت، أخيراً، لا تجد أن حال مثقفينا وهامشهم التحرري الفكري، في الوقت الحالي، بخير، أو تعرف نوعاً من التقدم. بل إن بعض تلك الأبحاث تشدد على تراجع مستوى ومنسوب هامش الحريات الفكرية الإبداعية، المتوافر أمام المبدع.

 

 

 

 

لا فكاك

 

لا تجد الشاعرة فاطمة ناعوت، أفقا مستقبليا لحرية الابداع ولاحترام رواده، مهما كانت توجهاتهم، وتلفت في هذا الصدد إلى أن ذكرى وفاة الأديب العالمي نجيب محفوظ الأخيرة، مرت مرور الكرام، من دون أن يهتم بها أحد، وذلك بينما كان يجب أن ينعيه الرئيس المصري ذاته، على غرار رؤساء الدول الأوروبية الذين ينعون مبدعيهم الكبار!؛ لإيمانهم بأن المبدع ضمير الأمة ومشعل قنديلها.

Email