ماتيس.. سيد الألوان

نشأت الصداقة بين ماتيس الفرنسي البرجوازي المنبت، وبين بيكاسو الإسباني، الأندلسي البوهيمي،عام 1905. وكانت مغلفة بالريبة والشك، فقد ظلا على مدى 46 عاماً يراقبان ويترصدان بعضهما البعض، وكل يحاول أن يكون السباق في إطلاق ثورة الفن الحديث التي تتجاوز تقاليد عصر النهضة القادمة من اجترار ممل للفنون اليونانيّة الرومانيّة.

 

كان بيكاسو منافساً كبيراً لماتيس، رغم أن هذا الأخير كان أكبر منه باثني عشر عاماً. التقى الاثنان عام 1918 في معرض مشترك ثم افترقا بعده، ومنذ زمن ليس ببعيد، عادا ليلتقيان مرة ثانية، في رحاب معرض مشترك جديد شهدته باريس، بعد أن تمكنا، وبجدارة، من إطلاق ثورة الفن الحديث التي يرى البعض أن ماتيس هو نبيها الأول، ويقف في موازاة بيكاسو فنياً إن لم يبزه.

ولد ماتيس عام 1869 في (كاتو كامبريزي Coteau Combresi) لأب يعمل في التجارة، كان يقيم في قرية اشتهر سكانها بصناعة نسيج الكشمير ذي النقوش والزخارف والرسوم الشرقيّة. أراد له أهله دراسة الحقوق وصولاً إلى مهنة القضاء، فأرسلوه إلى باريس من أجل هذه الغاية.

تعرض خلال دراسته للحقوق إلى أزمتين صحيتين، أهدي خلالهما علبة ألوان، فأخذ يتسلى بها وسرعان ما استهوته هذه العملية التي تابعها بكثير من الشغف لتُشكّل علبة الألوان هذه، بداية انطلاق موهبته في الرسم والتصوير، ما دفعه لمغادرة دراسة الحقوق والانتساب إلى مدرسة الفنون الجميلة عام 1895، حيث استقر في مرسم الفنان (غوستاف مورو) الذي كان يرفع شعاراً رئيساً يقول: إن الشرق هو مخزن الفنون، لذلك يجب أن يكون قبلة الفن المعاصر.

عام 1898 زار (كورسيكا) وفيها تعرف على الجو الشرقي المتوسطي الذي أصبح هاجسه، وعام 1903 زار ماتيس معرضاً للفن الإسلامي أقيم في متحف اللوفر بباريس فصرخ قائلاً: لقد كان هذا المعرض درساً عميقاً لي. علمني النقاوة والانسجام.

لقد أشار تاريخ الفن إلى أن ماتيس لم ينس هذا المعرض أبداً، ومن خلاله استيقظ فيه عشقه للشرق والفن العربي الإسلامي، فقام عام 1911 ـ 1912 بزيارة مراكش حيث مكث فيها عدة اشهر.

عثر في مراكش ـ حسب تعبيره ـ على راحته المبتغاة، التي أثمرت عدداً من الموضوعات الرائعة، استحضرها من البيئة المغربيّة، وفيها أكد انصياعه للون الحي، وللشكل المسطح، وللرقش العربي. وبكلمة واحدة، لعناصر الفن العربي الذي دعم فنيته حسب اعترافه.

هناك من يرى أن ماتيس أسس اتجاهه الانطباعي بعد زيارته إلى المغرب العربي، وأن رواد هذه المدرسة، وضعوا اللبنات الأولى لهذا الاتجاه الفني التشكيلي بعد أن كانوا في بلدان الشرق العربي والإسلامي واليابان. وأكثر من مرة أكد ماتيس أن أفكاره التي ظهرت في رسومه أخذها من الشرق الذي زاره، واطلع على فنه بشك مباشر، ومن خلال المنمنمات الموجودة في المكتبة الوطنية ورسومات الخزف المحفوظ في المتحف الوطني للرسوم الزخرفية بباريس.

ومن الأعمال الفنيّة العربية الإسلامية التي شاهدها في أكثر من معرض أقيم في عدد من العواصم الأوروبيّة، وقد انعكس تأثره وعشقه للرقش العربي في عدد كبير من لوحاته ومنها: (وصيفة نائمة ببنطال فضي 1939) و(جرة أندلسية 1940) و(فتيات ورائهن حاجز مغربي) و(الرداء البنفسجي) و(منظر من خلال النافذة) وغيرها.

لقد أكد ماتيس في أكثر من مناسبة، تعلقه بالفن العربي الإسلامي، وقال: إني أحب الرقش العربي لأنه الوسيلة المركزة للتعبير بمختلف الوجوه، والواني لا تعتمد على أية نظريّة علميّة، إنها تعتمد على ملاحظاتي التي قمت بها في بلد النور، وتعتمد على مشاعري.

بعد سنوات طويلة من الإهمال والنسيان، عاد ماتيس إلة دائرة الضوء، فوضعت حوله الكتب والدراسات، وأقيمت لأعماله المعارض والندوات، ما يجعلنا نؤكد أن هذا العبقري المجهول، أعيد اكتشافه خلال العشرين عاماً الأخيرة، بينما العالم بعرف كل شيء عن منافسه (بابلو بيكاسو).

من الكتب الهامة (وربما الوحيدة) التي وضعت حول (ماتيس المجهول) كتاب البريطانيّة (هيلاري سبارلينغ) الذي أكدت فيه بأن هذا الفنان تم إذلاله بشكل حقيقي على الصعيدين الشعبي والشخصي، وعانى من الكرب والأرق لمدة عشرين عاماً، ما جعله بحاجة ماسة إلى مجال يجد فيه السلام. ووجد ذلك في فنه، فذلك السلام، وتلك النورانيّة، أتت من ظلام حياته.

وتشير هذه الكاتبة إلى أن جميع مؤرخي الفن ونقاده، كانوا يرون في ماتيس ذلك الشخص الممل المحافظ، بينما هو في الحقيقة كان متهوراً حتى العظم. وتؤكد أنها أحبت دائماً رسومه، وفكرت في هدوئه ونعومته، لكنها الآن تكن له إعجاباً شديداً كإنسان وكفنان.

فماتيس المجهول، كان رجلاً من عالم رمادي، يرتعش فيه قلبه عندما يكتشف اللون، لذلك سمي (سيد اللون) رغم أكوام الرماد التي كانت تملآ قلبه !!. والحقيقة فإن أعمال هذا الفنان الرائد، ليست جميلة فحسب، بل يكمن خلفها مشاعر عميقة هائلة، تنزع نحو التناغم والاتساق والسلام.

ما يجعلنا نؤكد أنها تمثل فن القرن العشرين خير تمثيل، إضافة إلى أعمال القطب الثاني في هذا الفن بيكاسو. لقد هيمن هذان الفنانان على الفن التشكيلي العالمي في القرن العشرين، كل بطريقته. فماتيس كان مثل (رافائيل) زعيماً بالفطرة، محباً يعلم ويشجع الفنانين الآخرين بشكل دائم، بينما كان بيكاسو مثل (ميكل أنجلو) يحيطهم بطاقته المسيطرة وعجرفته الواضحة.

اعتبر ماتيس أحد فناني (الفوفيزم) وهو مذهب الطبيعة الثقافية الذي يعارض التأثيريّة أي (الامبرسبونيزم). تعتمد حركة (الفوفيزم) على تركيز الألوان الصريحة التي تُستخدم بطريقة مباشرة، وقد غيّر ماتيس أسلوبه فيها عدة مرات عبر سني إبداعه الطويلة.

وقد وصف سنواته العشر الأخيرة بأنها حياته الثانية اكتشف فيها روعة الوجه الإنساني عقب عمليّة جراحيّة أنقذته من مرض مميت، أجريت له في الأمعاء عام 1941، وقد أسر ماتيس آنذاك للشاعر الفرنسي المعروف (أراغون) بأنه يحلم بحياة ثانية، بجنة يرسم فيها لوحات جداريّة كبيرة، وكاد حلمه يتحقق بعد سبع سنوات، رغم سوء صحته وهو في الثانية والسبعين، عندما لبى رغبة راهبة كانت تتولى تمريضه، وشرع بتزيين كنيسة صغيرة في (مانس) بالريفييرا الفرنسيّة، ما دفع نده بيكاسو للقول:

(إن ماتيس لا يؤمن بالله أكثر مني، كيف استطاع أن يقوم بمثل هذا العمل؟ في الجانب الآخر، يعتقد العديد أن ماتيس فناناً ملوناً أكثر منه رساماً، غير أن ما تركه من رسوم، ودراسات خطيّة، ورسوم توضيحيّة، ومحفورات مطبوعة، أخذت (معظمها) طريقها إلى عدد من الكتب، تؤكد تمتعه بقدرة في الرسم المشحون بالخيال، الخارج عن الأسس والقواعد الأكاديميّة، ما يؤهله لأن يكون في طليعة الرسامين الغرافيكيين، كما كان في طليعة الملونين. التجديد والابتكار، سمة رافقت منجزه الفني البصري في كلا الحقلين،وقد اعترف أن رسمه التخطيطي أنقى وأعمق ترجمة مباشرة لمشاعره، وتبسيط الخامة يسمح له بتحقيق ذلك.

من جانب آخر، لماتيس قدرة مدهشة على التصميم الغرافيكي الذي يعالج من خلاله الأشكال والسطوح برؤية خاصة بعيدة عن خصيصة المصوّر أو الملوّن، ومنحازة إلى خصيصة الرسام المتميز القادر على أن يسكب في الخطوط والمساحات خيالات واسعة، دون أن ينشغل كثيراً بالتقاليد المدرسيّة للرسوم التوضيحيّة (الموتيفات) .

وإنما كان همه الأساس، إبراز شخصية التشكيلي في كل ما يُنجزه، بغض النظر عن المصادر والمرجعيات التي يعتمدها في تنفيذ عمله الفني، فهو لا يقف عندها، ولا يُعيرها الكثير من الاهتمام، كونها في الأساس، لا تُشّكل حواجز أو عوائق أمام مقدرته المتميزة على الإبداع والابتكار الذي يعجن فيه فنه، بحيث يصعب على المتلقي في النهاية، العثور على ما يُشير إلى هذه المرجعيات والمصادر.

الأكثر مشاركة