سينما الربيع العربي توثيق حالة التغيير التاريخي

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

تمكن الربيع العربي ـ منذ انطلاقة شرارته الأولى في تونس لتعم من بعدها المنطقة العربية ـ من لفت الأنظار إليه على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، وبموازاة الاهتمام السياسي الملحوظ بالربيع العربي وما أفضى إليه من تحولات وحالات تغيير في بعض الأنظمة العربية، برز اهتمام آخر من قبل المبدعين والعارفين في كافة قطاعات الفن والذين اجتهدوا في عكس مجريات الأحداث ووقائع تأثيراتها على المجتمعات العربية من خلال تقديم أعمال توثيقية من جانب، ودرامية وموسيقية من جانب آخر.

 

لا أحد ينكر طبيعة الحالات الاجتماعية والسياسية التي أفضت إليها أحداث الربيع العربي وأهميتها، وما شكلته هذه الأحداث من مصدر إلهام للقائمين على صناعة السينما العربية في معظم الدول العربية دونما تحديد، حيث تحولت أحداث الربيع العربي إلى مصدر خصب للمعلومات وتكاثف المادة البصرية التي نجح البعض في توظيفها لتعكس حالة التغير الجذري التي أصابت معظم المجتمعات العربية، فلم تعد الصور ومشاهد الأحداث التي تتوارد من مختلف مواقع الربيع العربي تحمل مادة إخبارية فقط، وإنما رأى البعض فيها مادة توثيقية شاهده على التغير التاريخي الذي حدث في المنطقة عموماً.

في أجواء الربيع العربي قد يعتبر البعض أن السينما بكل إنتاجاتها الحديثة قد تحولت إلى أشبه بالقنوات الفضائية التي عملت على نقل الحدث من موقعه، فمنذ اليوم الأول أقدم العديد من السينمائيون ولا يزالون على توثيق الحدث بكاميراتهم معتمدين في ذلك على قاعدة أن أفلام الثورات تكون أكثر جمالاً وواقعية كلما أنتجت مبكراً وفي خضم الثورات، ونتيجة لكمية الأفلام الكبيرة التي قدمتها السينما العربية منذ بداية الأحداث وحتى اللحظة نلمس بأن التوجه الأكبر فيها كان ناحية توثيق الحدث ونقله كما هو.

وبلا شك أن هذا التوثيق سيمثل مصدراً خصباً لصناع السينما في المستقبل لتقديم سيناريوهات وقصص درامية عديدة، تبين الفروقات التي أوقعها الربيع العربي في تاريخ المنطقة، ومقارنتها مع الفترة التي سبقت انطلاق الشرارة الأولى. وبالطبع الاهتمام العالي من جانب السينما العربية بالأحداث ولد لدينا مصطلحاً جديداً عرف لاحقاً خاصة في مهرجانات السينما العربية والعالمية باسم سينما الربيع العربي والذي ضم بين جنباته كافة الأفلام العربية التي عالجت وصورت الأحداث التي اجتاحت المنطقة وقلبتها رأساً على عقب.

وبالحديث عن سينما وأفلام الربيع العربي عموماً نجدها قد خرجت بكثافة من مصر وتونس على اعتبار أنهما صاحبتا الضربة الأولى في الربيع العربي، وعلى اعتبار أن السينما المصرية مدرسة قائمة بحد ذاتها وبحكم أن مصر شملها التغيير أيضا بعد تونس، لا بد لنا أن نتساءل عن مدى اهتمام وإقدام سينمائيو مصر هواة ومحترفين بتوثيق ما حدث منذ تاريخ 25 يناير وحتى الآن، وبالطبع فالإجابة السريعة على ذلك تكمن في أن غالبية الأفلام المصرية وحتى التونسية التي قدمت حتى الآن أفلاماً تصب في خانة التوثيق للثورة والأحداث،.

وهي ردة فعل طبيعية لما قام به المئات من صناع السينما إبان الثورة والذين لم يستغنوا عن كاميراتهم في خضم الأحداث بحثاً عن لقطة تاريخية، وهذا بلا شك ساعد على توثيق اللقطات الحية والصورة الحقيقية للأحداث فور وقوعها، ما وفر مادة قوية جداً للمخرجين وصناع الأفلام الوثائقية للعمل عليها وتصنيفها ومنتجتها، تمهيداً للبدء في رواية ما حدث سينمائياً سواء في المستقبل القريب أو البعيد، كون السينما أصبحت اليوم أرشيفاً معترفاً به وبما تقدمه، وبتأثيرها المباشر في نفسية الأفراد.

 

أفلام قوية

وفي ظل تزاحم الأفكار والإنتاج السينمائي العربي الخاص بالربيع العربي، نجد أن هناك مجموعة من الأفلام قد برزت بقوة على السطح لأسباب عديدة أهمها طبيعة معالجتها للحدث وطريقة تسويقها وعرضها في مهرجانات السينما العربية والدولية، ومنها نذكر، أفلام التحرير 2011:

الطيب والشرس والسياسي، و18 يوم، و ثورة الذي عرض في الدورة الثامنة لمهرجان دبي السينمائي الدولي، وفيه نجد سرداً لوقائع الثورة في الأيام الـ 11 الأولى من ثورة 25 يناير المصرية، وهو ما يفسر سبب استخدام مخرجا الفيلم عمر شرقاوي وكريم الحكيم لهذه التسمية، وأحداثه تدور حول مجموعة من الشباب من مصر وفلسطين ولبنان، وغيرها، كانوا يعيشون في مصر عندما انطلقت الثورة، وقرروا تصوير كل ما يجري توثيقاً لهذه اللحظات، التي وصفوها بالتاريخية في حياة الشعب العربي والمصري بصورة خاصة، فساعة يتعرض طاقم الفيلم للضرب والاحتجاز، وساعة يتم تهديدهم بالخطف والقتل.

والمتابع لهذا الفيلم يلمس أنه كان قريباً جداً من الشعب وثائريه، وبدا ذلك واضحاً من خلال التركيز على الوجوه والتعابير الخارجية، وتكمن خاصية هذا الفيلم في طريقة مزجه بين العام والخاص، فالناس في ميدان التحرير قلقون مما يجري ومما ينتظرهم، كما في بيت طاقم الفيلم، الذين يشعرون بالقلق مما يمكن أن تؤول إليه الأمور، ومع تطور أحداث الفيلم، تتغير أجواء الثورة كذلك، فهناك مرحلة الأمل التي خرج فيها المصريون جميعا كبارا وصغارا، مصممين على تحقيق ما يصبون إليه.

وهناك في جانب آخر، مرحلة اليأس والخوف التي ظهر فيها البلطجية ومؤيدو مبارك مهددين الأمن العام، غير أن الفيلم استخدم بعض الصور النمطية، كتعرض المسجد وإلى جانبه الكنيسة للحرق والتدمير، وهي صور لطالما حفلت بها الأفلام الوثائقية والروائية، لبيان تسامح المجتمع المصري. ومع أن الفيلم وثائقي، فقد بدا أفراد طاقمه وكأنهم يعيشون أجواء تمثيلية، فبعضهم فشل إلى حد ما في أداء دوره، كاصطناع الكلام والتعابير.

ورغم أن فيلم مولود في 25 يناير للمخرج المصري أحمد رشوان، يبرز الاحتجاجات بصورة مباشرة ومكثفة، إلا أنه بدا أشبه بتجربة ذاتية عن ثورة 25 يناير، ولأجله اضطر رشوان إلى تصوير 70 ساعة عن أحداث الثورة بدءاً من يومها الأول، ليستعين فقط بـ 80 دقيقة ليضعها في الفيلم، فيما يوثق فيلم لا خوف بعد اليوم للمخرج التونسي مراد بن شيخ، ردود فعل مدونة ومحامية حقوقية وصحافي خلال المراحل الأخيرة من الثورة التونسية بعدما فقدت قوات الأمن السيطرة على الشوارع، وكذلك فيلم يا من عاش للمخرجة التونسية هند بوجمعة .

والتي عرضت فيلمها للمرة الأولى في دورة مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي 2012، وفيه تحاول استقراء التغييرات التي أحدثتها الثورة في تونس من خلال رواية قصة سيدة مطلقة ولديها أربع أبناء، هنا لا بد أن نذكر أيضاً فيلم بعد الموقعة للمخرج يسري نصر الله، والذي شارك في مهرجان كان السينمائي الدولي 2012، وفيه نجد توثيقاً مهماً لبعض الأحداث البارزة التي وقعت في ميدان التحرير، إثر هجوم البلطجية على المعتصمين في الميدان باستخدام الجمال والأحصنة، وهي الواقعة التي عرفت لاحقاً باسم موقعة الجمل.

 

اهتمام غربي

أحداث الربيع العربي لم تسترع اهتمام صناع العرب فقط، وإنما لفتت انتباه مجموعة من صناع السينما في العالم، كما حدث مع مخرج الأفلام الإيطالي ستيفانو سافونا الذي قدم فيلماً بعنوان ميدان التحرير وفيه استخدم لقطات مذهلة وسط الحشود التي أمضت 3 أسابيع في وسط القاهرة في يناير وفبراير 2011 في تسلسل أشبه بالحلم، يسجل من خلالها الهتافات والإيقاعات المؤثرة للمحتجين المصريين، كما صور سهر قارعو الطبول ومن يقودون الهتافات الذين يخرجون بمجموعة من القوافي المبتكرة حتى وقت متأخر من الليل في مجموعة من الفعاليات التي تؤكد على أمل المحتجين الذين لم تهتز معنوياتهم أبداً ولا تنتهي وسائلهم لتسلية أنفسهم.

إلا أنه وفي المقابل نجد أن العديد من النقاد السينمائيين قد وصفوا الأفلام التي صورت وأنتجت خلال الثورات الشعبية بالاستعجالية، لعدم تقيدها بشروط ومقاييس الصناعة السينمائية السليمة، حيث توثق بعض هذه الأفلام جانبا واحدا من الأحداث والتي تتركز في الجانب الشعبي أو الثوري إن صح التعبير، في حين غابت وجهة نظر الجانب الآخر التي تتمثل في القائمين على رأس النظام، لصعوبة الوصول إليهم.

وهو ما يتوقع أن يتم خلال المستقبل، وعدم الوصول إلى الجانب الآخر لا يمنع البدء بعملية التوثيق السينمائي، وتقديم الرموز التي قادت الاحتجاجات في معظم المناطق العربية مثل خالد سعيد في مصر ومحمد بوعزيزي في تونس والأطفال الذين فجروا ثورة سوريا وغيرهم بشكل سينمائي راق يليق بإنجازاتهم.

 

سينما مستقلة

والمتابع لحركة وطبيعة الأفلام التي أفرزها الربيع العربي، يشعر بأنها باتت تعكس شكلاً جديداً للسينما العربية عموماً، ولذلك يتوقع العديد من الخبراء في هذا القطاع أن الربيع العربي بدأ بفتح المجال لظهـــور الأفـــلام المستقلة وهي آخذه بالتوسع مع مرور الوقت.

وبلا شك أن هذا التوسع كفيل بظهور جيل جديد من المنتجين وصناع السينما والفنانين الشباب القادرين على تقديم سينما عربية جديدة، بأنماط إنتاجية جديدة تعمل على تغيير الذوق العام والارتقاء به عما تقدمه السينما التجاريــة عموماً، وهو ما يمكن لمسه من خلال ما شكلته أفلام الربيع العربي من حالات خاصة في عموم مهرجانات السينما العربية والدولية، التي أولت هذه الأفلام مساحة كبيرة، وأفردت لها مساحـــة واسعة من النقاش والبحث، وبالطبع كان الهدف من ذلك هو التعرف إلى طبيعة تأثير الربيع العربي في صناعة السينما العربية، وكيف أسهمت أحداثه في استحداث شكل جديد للسينما العربية التي أصبحت تتواجد بكثافة في معظم المهرجانات العربية والدولية.

وفي ظل وجود حالة التوثيـــق لا إراديــــة صاحبت أحداث الربيع العربي، يبقى السؤال كيف يمكن ترجمة الأحداث والمتغيرات التي تحصل يومياً في الشارع العربي في شكل سيناريوهات أفلام نابعة من عمق الحقيقة، ولا تعتمد على نقل الحقيقية أو الحدث فقط؟، وبالتأكيـــد أن هذا الأمر يتطلب وقتاً حتى يتمكن السينمائيـــون من استغلال الحدث والتعبير عنه بشكل عقلاني وفني في الوقت نفسه.

ولكن من الواضح بأنه يوجد الآن إجماع عام بين صناع السينما على الاهتمام بجمع أكبر قدر ممكن من الوثائقيات التي يمكن العمل عليها مستقبلاً، تمهيداً لصياغتها في قوالب سينمائية يمكن تقديمها في المستقبل القريب. ويبقى القول هنا أن صناعة الأفلام عموماً لا تقتصر على مكان وزمان معينين، غير أن واقع الثورات العربية، التي لم تنته حتى اليوم، يفرض واقعا مختلفا لصناع الأفلام، يرغمهم على التمهل ودراسة الجوانب المختلفة لمجتمع الثورات، حتى لا يقعـــوا في فخ التبسيط والتوثيق لا أكثر.

 

جرأة أكبر

في الجانب الآخر، نجد أن توجه السينما العربية بدا مختلفاً في تناول القضايا المجتمعية العربية، وحاولت أن تكون أكثر جرأة في تقديم الصورة التي لم يتعود عليها المشاهد العربي، كما حدث في فيلم الشتا اللي فات للمخرج إبراهيم البطوط، وبطولة الممثل عمرو واكد، وعرض للمرة الأولى عالمياً في دورة مهرجان فينسيا السينمائي الدولي 2012.

حيث يسلط الفيلم الضوء على سقوط جدار الخوف الذي كان موجوداً قبل الثورة، عبر تبيان علاقة ضابط أمن الدولة بالمواطن، وكيف تنقلب هذه العلاقة ليتفوق المواطن على الضابط في تصوير لسقوط حاجز الخوف بينهما، وقد حاز هذا الفيلم على إعجاب كل من شاهده في المهرجان. كما يمكن أن نذكر أيضاً فيلم الثورة .. خبر للمخرج بسام مرتضى، وفيه تناول دور الإعلام المستقل في ثورة 25 يناير، من خلال الدور الذي لعبه 6 صحافيين، بين أداء واجبهم المهني، وبين مشاعرهم وانفعالاتهم في لحظة استثنائية كالثورة.

ومثل هذا الفيلم أول إنتاجات جريدة المصري اليوم الوثائقية والتفاعلية في الوقت ذاته. وهناك أيضاً فيلم في ظل رجل للمخرجة حنان عبدالله، والذي يتناول حكاية 4 نساء مصريات مع الثورة، والفيلم البريطاني الثوار المتمردون الذي يتناول الثورة اليمنية ضد علي عبدالله صالح .

وفي الوقت الذي استعرضت فيـــه أفلام الربيع العربي ثورات شعوب المنطقة ضد ظلـــم وفساد حكامها ضمن خطوط عريضة، نجد أن هناك أفلاماً ركزت على قضايا فرعية كالتي تناولتها المخرجة الفلسطينيـــة لينا العابـــد في فيلمها الوثائقي توق، والذي أشـــارت فيـــه إلى إساءة معاملة السيدات وانتهاك كرامتهن في خضم الثـــورة الأكثر دموية في سوريا.

 

المشهد السوري

في واقع السينما العربية التي عالجت الربيع العربي، بدا المشهد السوري مختلفاً عن قرينه المصري والتونسي تحديداً، حيث تمركزت المادة البصرية حول الثورة السورية حتى الآن فيما يمكن أن نطلق عليه جزافاً سينما الواقع، والذي برز من خلال الأفلام التي يصورها الناشطون أنفسهم، والذين قد يدفعون حياتهم ثمناً لذلك، وكذلك في الأفلام التي تركز على كواليس الثورة وأحداثها إلى جانب استخدام عناصر السرد وبناء الشخصية.

وكلها تصب في خانة الأفلام الوثائقية التي تعكس وجه نظر واحدة ألا وهي جانب الثوار والثورة، ولا يتواجد فيها النظام، وهي المشكلة ذاتها التي وقعت فيها السينما المصرية والتونسية قبلاً، وهنا لا يمكن أن يلام السينمائي السوري لعدم تواؤم الظروف لديه لإنتاج فيلم وثائقي أو روائي يرقى إلى الشاشة الكبيرة، وهو ما جعل كافة الأفلام القصيرة نوعاً ما تخصص للعرض على موقع اليوتيوب الإلكتروني.

 

مقاييس

 

بالنظر إلى كمية الأفلام الموجودة على اليوتيوب وتوثيق الحالة السورية، نلمس وجود طاقات هائلة تخرج من رحم الثورة السورية، تحمل في جعبتها مقاييس ثقافة خاصة وجرأة ومضامين متنوعة وجميلة، ولذلك يتوقع خلال الفترة المقبلة أن تطل علينا سينما سورية جديدة، حيث يوجد في أحشاء كل سينمائي سوري، خاصة الشباب، مادة سينمائية خصبة تعكس تجربته الشخصية وتجربته الشعبية وتطلعاته إلى الحرية.

Email